للوهلة الأولى توقعت ان يتضمن كتاب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو "بؤس العالم" - دار كنعان - ترجمة فيصل دراج - عام 2001، دراسة نظرية، قائمة على الاستمارات والبيانات والاحصاءات، عن ضحايا الرأسمالية ومهمشيها في العالم، أو في فرنسا، مستخدماً أدوات تحليله وأجهزته المفاهيمية المتعلقة بآليات السيطرة الاقتصادية والرمزية، الثقافية والتربوية واللغوية، والتي تعيد إنتاج الهيمنة مبقية على التقسيمات والتفاوتات الاجتماعية. الا انني فوجئت بمجموعة حوارات مع حالات نشرية متعددة أجراها بيار بورديو نفسه مع مجموعة من مساعديه، يستقصون فيها اسباب تهميش هؤلاء البشر، فقرهم وعلاقتهم بالانحراف والجريمة، مازجاً السير الذاتية، بالأرقام والتحليلات السياسية والفلسفية، الى درجة قد تزعج هواة التنظير المنفصم عن الواقع، المتعالي عن الظواهر الاجتماعية الموضوعية وعن معيش الناس ونبض الشارع. يوظف بورديو المعرفة لمصلحة البشر المضطهدين، لمصلحة المحكومين العزل، مقدماً درساً نموذجياً من انتاج المعرفة الصحيحة المبنية على الواقع. هكذا يروح يحاور البشر ويقرأ شروط عيشهم، وتفاصيل معاناتهم غير المعلنة، تتراءى له المعرفة في أرجاء الحياة اليومية، ولا تستولد في صفحات الكتب الجاهزة، كما يفعل موظفو الأرشيف. لا يتخلى بورديو لحظة عن جهازه المفهومي وخلفيته النظرية فهو يقوم باختبار نظرياته وتطبيقها على ضوء المعيش الحي والوجود الانساني، لئلا يصبح التنظير، لا الحياة الحية، هدفاً في حد ذاته. ينزل بيار بورديو وفريقه البحثي الى الشارع، يطرقون الأبواب كشفاً عن حيوات تختزل بمصطلح "المهمشين". هو الاخر، يضحي مجرداً، ما لم يقترن بالمشاهدة، ويخرج الى العلن من يقبع في الأقبية والأحياء والزواريب. يعطيهم حق الكلام، ولا يكتفي بالكلام عنهم وتخيلهم. في مقابل المهمشين، يحاور بورديو قضاة وإعلاميين، مستنبطاً افتقارهم الى الحس الاجتماعي والانساني والتواصلي. وهو لا يرجع عنف المهمشين الى جوهر انساني مزعوم، كما درج منظرو السلطة على القول، بل الى شروط حياة تفتقر الى الحياة، وتتصف بما يسمى "العنف الصامت" او ما يسميه "عنف الجوع واللامساواة". هذا العنف الذي يبدو ظاهراً محكوماً بعلاقات بين الافراد، وبطبائعهم، يشكل غالباً انعكاسات السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي انتجت الفقر وثقافته، والمؤدية الى الجنوح او الجرم. ففي منظوره يصدر العنف عن "أرواح مكبوتة ومحرومة، او عن حرمان يراكم الكبت قبل ان يطلقه عنيفاً قاسياً". وفي سياق تحليلاته يشير الى ان ما يؤزم المهمشين ويدفعهم الى العنف هو عدم قدرتهم على مواكبة اغراءات وابتكارات المجتمع الاستهلاكي، والترويج الاعلامي للمجتمع الاستهلاكي، هذا المجتمع الميسور والمترف. وهذا ينطبق على سياسات المرئي والمسموع في العالم العربي، حيث ان معظم المسلسلات المحلية والاجنبية، تحكي عن اشخاص معفيين ومنزهين عن المشكلات الاقتصادية والمعيشية، من شعب حل مشاكله المعيشية، بسحر ساحر، ولا يترتب عليه سوى حل مشاكله العلائقية والأسرية والعاطفية وكأنها منفصلة عن انتمائها الطبقي. هذا الترويج للسلع الاستهلاكية الكمالية ولشخصيات لا تعترضها مشكلات يومية حياتية، يخلق بحسب بورديو، "حاجزاً سميكاً بين الانسان وأسباب حرمانه، وبينه وبين وعيه". لكن هذا الانسان المهمش المنسي، لا يلبث، وخلسة عن الراغبين بتمويه الحقائق، يراكم حقداً وشعوراً بالظلم، يفجره عنفاً اجتماعياً اجرامياً سرقة، سلب، نهب، ضرب، قتل..." واذا لم يفجره ضد الآخرين، داراه وفجره ضد نفسه: يتعاطى المخدرات او المسكرات او ينتحر او يصاب باكتئاب، أو يتحول الى عدواني مقيت. قد يتوقع البعض ان تولد هذه الهوة بين الطبقات والصورة الاعلامية المروجة للرفاهية من جهة وشروط الناس المعيشية من جهة اخرى تمرداً وثورة. الا ان بورديو لا يجد تلازماً دائماً بين الحرمان والثورة اذ يرى ان من تسد في وجهه سبل العيش الكريم يفقد الأمل في التغيير ولا يعود يملك القدرة الذهنية والفكرية الكافية للسعي والتمرد. التمرد يحتاج هو ايضاً الى طاقة تشحذ الوعي وتبلوره والى شحنات نفسية تدفع الى المبادرة والصمود. لعل هذه الاستدلالات تتطابق مع المقولة التاريخية ان الطبقة الوسطى هي رافعة التغيير في المجتمعات، هذه الطبقة الآيلة الى زوال والى الانضمام الى الطبقات المسحوقة والمحبطة. بين "غبار الشوارع" وأحزان البشر يقدم الباحث السوسيولوجي الفرنسي مرة اخرى أنموذجاً عن أخلاقية المعرفة ووظيفتها في ترقية حياة الانسان والمجتمعات، وهذا ما دأب طوال حياته الاكاديمية على فعله. وبانكبابه على شروط عيش الناس ومشكلاتهم الاقتصادية والسوسيولوجية يساهم المثقف في إنتاج الوعي الضروري للتغيير، ويتعاظم دوره في ظل الاستبداد والجهل والتخلف. ويعتقد محمد جمال طعان في كتابه "المثقف وديموقراطية العبيد" ان على المثقف ألا ينتظر توافر الحرية ليعمل لأن المثقف هو المحرر، فكيف يحتاج الى محرر يحرره ليحررنا بعد ذلك" ص31 ونضيف الى كلامه ان البحث العلمي السوسيولوجي الذي يعتمد على التوثيق والتوصيف والتحليل والاستدلال يسهم في التفكير السوي الموضوعي وفي انتاج حالة وعي علمي، أكثر من الخطاب التحريضي البحت. وقد نحتاج الى خطابين لنستثير العقل والوجدان. ليتنا نسأل انفسنا في كل مرة نبحث ونكتب عن مدى مساهمتنا في تطوير حياة الناس والتخفيف من مشكلاتهم، وربما اسعادهم، كي يكون للمعرفة جدوى. * كاتبة لبنانية.