سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
رحيل بيار بورديو ... صاحب الأبحاث الاجتماعية النقدية في السيطرة ورأس المال والعنف والعولمة المالية والحركة الاجتماعية . تجديد نظام السيطرة والقهر وتناسله وكأنهما دهريا ... فكيف لا يسكت داعي القيام عليه ؟
في مواكب الأسماء الغربية اللامعة، وقد يكون اسم الفرنسي الراحل قبل اثنين وعشرين عاماً جان بول سارتر ألمعها في السماء العربية، جاء اسم بيار بورديو 1930 - الخميس في 24 كانون الثاني/ يناير 2002 متأخراً. وعلى خلاف صاحبه المتقدم وسلفه بربع قرن، سارتر، لم يطل دارس الاجتماعيات الراحل أخيراً في غمامة سياسية وأدبية تعلو على كل المنازعات. فسارتر، حين أطل على عالمنا، دخله من بابين واسعين: باب مناصرة الاستقلال الجزائري و"حرب تحريرها"، وتسويغ كل الوسائل والذرائع الى استعادة الكرامة والنفس من الاستلاب الاستعماري، وباب الأدب الملتزم أو الجمع بين النازع الى كتابة الأحلام والأهواء الفردية والفتية وبين حمل الأحلام والأهواء هذه على حال الأمة، وتوقع معالجة أمراضها، أو فرديتها وفتوتها، بواسطة الانخراط في معركة الأمة. البابان عريضان، على ما مرّ القول، ولم يكونا ليدعوان الشبان والفتيان الحزبيين والمناضلين، في العقد السادس من القرن العشرين، الى نظر ناقد في شيء من اشيائهم أو ميل من ميولهم. فالحرب على المستعمر وانتظار "مفرد في صيغة جمع" أو نفس فرد مطمئنة في كنف جماعة كانا أمرين أو يقينين شائعين في صفوف تلامذة الثانويات وطلابها الحائرين بين عمرين ومجتمعين الريف والمدينة وتاريخين غداة الحرب الثانية وعشية الاستقلال، في عالم أوسع كان، بدوره، يستقبل ما لا عهد له به. أما بيار بورديو فلم يقيض له ما قيّض لسلفه، لا من أشرعة سياسية وثقافية نفسية تنفخ فيها ريح مؤاتية ومجمعة، ولا من فنون أدب مسرحي أو روائي تحمل الى القارئ أو السامع، وإلى جمهور الإذاعات المتعاظم، جميلاً جامعة ومانعة تحسم بلمح البصر والسمع المشكلات العويصة والممتنعة. التلقين والغلبة فهو، أي بورديو، دلف أول ما دلف من باب دعاة حزبيين ضيق، في النصف الثاني من ستينات القرن المنصرم، وكان يومها باحثاً "متألقاً" في اجتماعيات التربية والتعليم. ولكن اقتصاره على علمه، وعلى معرفته، والتقاءه، من طريق المصادفة الاجتماعية والتاريخية، حركة الطلاب في جهات العالم الأربع في 1968 - 1969، لم يتيحا له الصدارة التي أتيحت لأسلاف له مثل هيربرت ماركوزه، الألماني - الأميركي، أو سارتر، المعمّر صيتاً ودوراً. وفي غضون العقول الثلاثة بين منتصف الستينات ومنتصف التسعينات انصرف بيار بورديو الى ابحاثه ودراساته وتدريسه انتخب في 1981 الى كرسي الاجتماعيات في معهد فرنسا خلفاً لريمون آرون، والانتخاب هذا يتوج مسيراً علمياً بارزاً ويقر به كثرة الزملاء. فكتب، مع ألمع طلابه وبعض زملائه، في اجتماعيات التربية والمدرسة، وفي "اقتلاع" العمال المغاربة المهاجرين الى فرنسا وبعض أوروبا، وخص ارتياد المتاحف، ومزاولة الرسم والتصوير الفوتوغرافي الشمسي، والاستماع الى المغنين الجماهيريين والعناية بتصفيف الجنائن الخاصة وإعداد الطعام ايام العطل، بأعمال كانت ذريعته الى ما سماه "نقد الذوق"، ومزاعمه العامة والمتجردة من الشرائط الاجتماعية، وإلى معارضة "نقد ملكة الحكم" أو الأحكام، أو الأقضية الذي كتبه عمانوئيل كانط في اواخر القرن الثامن عشر. وتناولت اعمال اخرى تحدر طاقم الادارة العالي، والنخب الادارية والسياسية والاقتصادية عموماً، من تعليم جامعي موقوف على الخاصة، ويمتنع على العوام". وليس ذلك جراء اوامر ونواه معلنة بل من طريق اثبات قيم ومعايير تصنيف لا يقيض إلا للخواص وذراريهم استبطانها وتمهيد السبل إليها. فربط الباحث، مذ ذاك، بين المكانة الاجتماعية وبين السيطرة الاجتماعية. فذهب الى ان كل علاقة وتلقين، أو تثاقف وتأدب بآداب علم أو تقنية أو ذوق ومتعة، إنما هي من وجه آخر ملازم للوجه الحيادي والعملي الظاهر، علاقة إخضاع وإلحاق وغلبة. وجعل من حقول المعرفة والتأدب والتعلم والتذوق "ميادين" منازعة ومغالبة، غايتها انتزاع المسيطرين الشطر الأعظم من "رأس مال" السيطرة "الرمزي"، في المرتبة الأولى، وقهر المقهورين وتسليط "عنف رمزي" عليهم. وبنى الباحث الراحل مقالاته، التي ذاعت من بعد، في السيطرة، وحقول المنازعة الرمزية والمادية، وفي رأس المال الرمزي اللغوي والمدرسي والثقافي والمهني... والعنف الرمزي، على أركان استقاها من دراساته الميدانية في المدرسة والتلقين والتذوق. فذهب الى ان التلقين يرمي اولاً الى امتثال المؤدّبين والمتلقنين الى علاقة التلقين نفسها، وترتيبها العالم والمتعلم على رتبتين متفاوتتين، عليا ودنيا، وذلك قبل ان يرمي التلقين الى تعليم المتعلم "العلوم" التي يزعم تعليمه إياها واقتصار عمل التعليم على تدريسها وتلقينها. والفرق بين الغاية المعلنة وبين ما يسعى فيه التعليم فعلاً وينجزه او ينجز معظمه فرق كبير، على زعم بيار بورديو وتلامذته ومريديه. فالتعليم، مواربة وابتداء معاً، يُخرج ما يعلم المعلومات إخراجاً يلازم المعلومات أو "العلوم"، ويرتبها على مراتب ومنازل متفاوتة. فتتقدم طريقة القول، وصيغ العبارة، و"أناقة" البرهان والاحتجاج، موضوع التعليم أو موضوعاته ومواده. وتحل هذه، الطريقة والصيغ، المحل الأول من العلاقة والحقل التربويين والتعليميين. وتثبتهما الامتحانات والاختبارات والمسابقات والجوائز معايير وأصولاً. فإما يرضى المتعلم بها، ويمتثل لها، فيروح رأس المال التعليمي والثقافي الى رأس المال وتعلو مكانة الممتثل، وإما يمتنع المتعلم منها - وبين الرضا والامتناع درجات - فيحظى بنصيب ضئيل من رأس المال الرمزي هذا، يناسب نصيبه من الكسب. ويحصل التعلم والكسب المدرسيان والاجتماعيان عموماً هذان من طريق تعلم وكسب أولين يرتقي المتعلم معارجهما وهو يدرج في بيته، بين أبيه ووالدته، وفي أهله. فالتعلم والكسب الاجتماعيان ينشآن، على هذا، عن التطبع بطبع وطابع، وعن اعتياد عادات تجري مجرى الفطرة والسليقة من المتعلم المطبوع. فإذا بالعادات هذه أصبحت سكن معتادها ومتعلمها ومكتسبها، على ما يتردد في الكلمة اللاتينية آبييتوس التي يستعملها بورديو، وجعل منها مفتاحاً من مفاتيح قاموسه الرائجة. وعندما تزعم الشهادة المدرسية او الجامعية مجازاة ما يعرفه التلامذة او الطلاب، ومكافأتهم على "علومهم" ومعارفم مكافأة الأسوة الأكفياء، فإنما هي تطرح مواربة من معايير لمجازاة التفاوت، الكبير بين سملتين ثقافيتين بينهما فرق شاسع. فالشهادة تجزي، حقيقة وفعلاً على زعم الباحث الراحل، ضربين من الاعتياد جرياً مجرى الفطرة المتمكنة في حال، ومجرى التطبع الضعيف والمضطرب في حال ثانية. ولا ينفك اثرها، ولا تنفك قوة اثر الشهادة في اجتهاد التلامذة وحفز اهلهم إياهم، لا ينفك الأمران لا من غفلة الراسبين عن "قواعد التصريف" تصريف العلاقة او المنازعة او اللعبة، ولا من استبطان الناجحين والمتفوقين العلمَ بهذه القواعد. وعلى حين يكد الكادحون من ابناء الطبقات الدنيا والمتواضعة في سبيل تحصيل لا يبلغ معظمهم إلا اقرب مراحله، "يلعب" ابناء الطبقات الميسورة حين يدرسون. فهم "الوارثون"، على حسب وسم الكتاب الذي أرسى صيت بورديو وكتبه مع زميل له هو جان - كلود باسِّرون، انفصل عنه وخالفه الرأي من بعد. دحض التفاؤل "الجمهوري" فلا تعليل لإخفاق "المدرسة الجمهورية" الفرنسية، وهي مدرسة التعليم العام الرسمي والإلزامي والمجاني التي أقرّتها الجمهورية الثالثة في 1882، بعد نحو قرن على إنشائها يومها، إلا دخولها المحتوم تحت قانون التوارث الاجتماعي، الرمزي والاقتصادي. وكان هذا النقد للمدرسة الجمهورية، وهي بمنزلة القلب من الإيديولوجية الجمهورية ولروايتها التاريخ الفرنسي الحديث على مثال طريق أمينة الى المساواة والحرية، موجعاً. فعلى رغم تكرار الأرقام العائدة الى تمثيل الطلاب الجامعيين من منشأ عمالي ومنشأ فلاحي في البيانات النقابية والحزبية اليسارية والوسطية وبعض اليمينية - وهذه الأرقام كانت تحصي نحو 2،3 في المئة من الطلاب من منشأ عمالي وكان العمال نحو 40 في المئة من اليد العاملة ونحو 4 في المئة منهم من منشأ ريفي وكان الفلاحون يعدون نحو 15 في المئة من السكان - كان يُخلص من التكرير الرتيب هذا الى ضرورة اصلاح التعليم في مراحله الأولى وتوحيد طرائقه، وإلى إيلاء التربية، وزارة ومرافق تعليم وعاملين، الحصة الأساس من الميزانية والانفاق والموارد. فقطع ما أبرزه عمل بيار بورديو وصاحبه جان - كلود باسِّرون من رسوخ الفرق والتفاوت في تربة تسبق المدرسة والتعليم، ومن صدور الاثنين عن صوغ قيم "العلم" والقول ومعاييرهما، قطع الطريق على شطر من التفاؤل الجمهوري التقليدي، يسارياً شيوعياً وكان الحزب الشيوعي الفرنسي ينصب نفسه وارث التقليد الثوري البورجوازي وداعية تخطيه او نسخه من طريق الثورة العمالية و"السوفياتية" أم وسطياً يميل الى المحافظة. ولعل هذا النقد الذي وقع في نفوس شطر من الطلاب المتحدرين من بورجوازية كبار التقنيين "أشراف الدولة" على ما سماهم بورديو نفسه في اعقاب عقدين ونصف العقد موقع هوى عميقاً، كان من العلل التي حدت جزءاً من هذا الشطر الى القيام، في 1968، على الجامعة، والمطالبة ب"تدميرها" على ما ذهب اليه عنوان افتتاحية تصدرت عدد دورية "الأزمنة المعاصرة"، لمنشئها جان - بول سارتر. ومهما كان من أمر مقدمات المعالجة ومنهاجها وحلقاتها، تحول الرجل صاحب مدرسة وفلسفة - سعى سعياً حثيثاً في شبك خيوطهما ونسجها نسجاً متصلاً ومحكماً - وغدا، من حيث أراد أم لم يرد، "المرجع الرسمي" على ما لاحظ أحد نقاده لنقد المدرسة - "جهاز الدولة الإيديولوجي" الأول والأبرز على ما استدرك لوي ألتوسير الفيلسوف الشيوعي البارز غداة 1968 - ولمحاولات اصلاحها. وحين ثار لغط شديد، في 1998 - 2000، هز الوسط التعليمي الفرنسي، وكان السبب الاول فيه اقتراحات وزير تربية ليونيل جوسبان، كلود ألّيغر، ودعوته الى توكيل المدرسة ب"تعليم التعلم" وليس بتلقين العلوم والمعلومات والمعارف، انقسم المتناقشون من كل المهن الى "جمهوريين" يقدمون المعارف على الطرائق، وإلى "تربويين" يقدمون الطرائق على المعارف. وتشاطر كل قوم من القومين تهمة خصمه بالعمل على الحؤول دون اكتساب أولاد الطبقات الضعيفة - وهي لا يزال تمثيلها الجامعي على المستوى القديم على رغم بلوغ البكالوريا نحو 70 في المئة من السكان البالغة 18 - 20 سنة، وتناقص حصة هذه الطبقات من السكان عموماً - المعرفة الضرورية لدخول سوق العمل اولاً، وارتقاء درجاته ثانياً. وكان اصحاب بورديو في صف "الجمهوريين". وليس هذا طرفة تروى، ولا تدليلاً سهل المأخذ ورخيصاً بعض الشيء، على "انقلاب" الرجل او على انقلاب الأحوال وثبات الرجل على موقفه النقدي وتمسكه به. فالرجل وضع في القلب من اعماله، على ما تقدم القول، دراسة شرائط الفهم والعلم والتعليل. فدرس الشرائط الاجتماعية التي تحف صوغ الاجتماعيات او علوم الاجتماع وتلابس مزاولة احترافها وامتهانها حرفة من الحرف ومهنة من المهن. وأدخل نفسه طرفاً في الحقل هذا، اي في منازعاته وبلورة قيمه ومعاييره، ولم يستثنها منه، ولم يزعم لنفسه تعالياً عن ضوابطها وقيودها. وكان إذا سئل عن ميوله هو في الحقول التي يدرسها، ويكتب الابحاث فيها، مثل الاغنية والصورة الفوتوغرافية، يجيب: أنظر موقعي المهني والثقافي، وانظر نظيره من وما يفضله أمثالي ومن هم بهذا الموقع، فأنا ذوقي الشخصي هو ذوق موقعي. وهو يعزو هذه الحال الى انشاء المجتمعات الحديثة، اي المجتمعات الرأسمالية الليبرالية، رابطاً قوياً بين تفريع الحقول الاجتماعية وتكثيرها واستقلالها بقواعد تصريف متميزة، من وجه، وبين تسليط منطق جامع وواحد عليها، من وجه آخر، يدخلها تحت عباءة سيطرة متمكنة، تنزع على الدوام منزع الاستبداد والطغيان والانفراد. وتتولى الدولة، على زعم بورديو، جمع الكثير والمتفرق تحت السيطرة الواحدة، من فوق، على حين تتولى المدرسة - او هي تولت ذلك قبل ان يخلفها الاعلام على هذا الدور - ومرافق انتاج رأس المال الرمزي، الاضطلاع بالجمع من تحت ومن داخل من داخل الاجساد نفسها وامتثالها ل"ثقافة السيطرة"، على ما سماها ميشال فوكو. وتدور رحى حرب مريرة في النفس الواحدة بين نظر "سوسيولوجي"، حقيقي، بصير بوقائع المنازعة والمراتب والتعسف، ولكنه يَشْخص الى الغير ويرتد دون النفس، وبين نظر "ايديولوجي"، قوامه الإنكار، ويتناول النفس ويحول بينها وبين إنزالها منزلتها من الحقول التي تلابسها على ارادة منها او غير إرادة. فالإنكار ركن من اركان الاعتياد وسكن العادات والتطبع والجري على قواعد التصريف الاجتماعية، وتالياً هو ركن السيطرة الأول. ولعل هذا هو الوجه الهوبسي من مذهب بورديو، او هو وجه الحق الطبيعي منه. فالبشر يدخلون عالمهم الإنسي، او عوالمهم الإنسية من باب التعسف والارسال. فلا دلالة اولى فطرت عليها الاشياء او الدلالات، وتنبه عليها البشر. وعلى البشر في سياقات تأنسهم واجتماعهم ان يبتدئوا المعاني والتخاطب والتوسل بالوسائل، على غير مثال ولا سابق توافق وتآلف و"تداع" بين الكون ووجدانه الإنساني، على خلاف زعم هايدغر ومذهبه في "علم المكون السياسي بما هو مكون" أو "انطولوجيته السياسية"، بحسب بورديو. وينزع الإنس الى انكار وضعهم المعاني، واستمرارهم على هذا الوضع، في احوال اجتماعهم كلها، وهي احوالهم الانسانية. وتماشي العلوم الاجتماعية هذا الإنكار. فتنسب المعاني، وقواعد العمل والتصريف والفهم، إما الى مبانٍ موضوعية خالصة، شأن إناسة كلود ليفي - ستروس، أو الى وجدان يبث المعاني و"عدمها" في وسط الأشياء والكون المتصل والمغلق من كل الجهات، شأن علم الظهور الانطولوجي الذاتوي السارتري. فأراد بيار بورديو وأصحابه تخليص العلوم الاجتماعية من الترجح بين الحدين العقيمين والموهمين هذين. وعقمهما إنما قياسه على إسهام العلوم الاجتماعية قبل "الثورة الرمزية" التي اضطلع بها بورديو، على قول بعض اصحابه ومريديه، في الإنكار الملازم علاقات السيطرة في الحقول الاجتماعية. فأضاف الاستاذ والكاتب والمثقف والناشر وهذه كلها ادوار اضطلع بها الباحث الراحل الى الحقيقة العلمية، الاجتماعية والنقدية، قوة على مكافأة السيطرة، او على الحد منها، من العسير تمييز حظ الاحتجاج الخطابي فيها من حظ الإنشاء العقلي. واتفق ذلك، في أواخر العقد التاسع، مع تحولات اجتماعية وثقافية وسياسية، أوروبية وعالمية، كبيرة، طوت معها شطراً عريضاً من قسمات القرن العشرين المعروفة والبارزة، انتاجاً وأسواقاً وحروباً وثقافات واتصالاً. وآذن "بؤس العالم" في 1993، وهو شهادات عشرات من ضحايا "الدهر" الجديد والمثخنين بجراحها الرمزية والمادية الى تعليقات بورديو وبعض اصحابه عليها، آذن بتحول استاذ معهد فرنسا وكرسيه الى "الدعاوة والتحريض"، على زعم بعض قدامى اصحابه المنفضين من حوله. والحق ان العقد العاشر هذا، قبل ان ينتصف بحركة اضرابات واسعة في اعقاب ركود اجتماعي ساد عقد ولايتي فرنسوا ميتران ونصف عقدهما، حفز الباحث المتربع في سدة منابر كثيرة، أجاد التوسل بها، على "التدخل"، او على اضاءة "نيران مضادة" أو "رد جواب الضوء"، في لغة السيارات وعلاماتها في المضامير الاجتماعية المضطربة والمشكلة. الحنين... فكانت البطالة، والعمل الموقت وغير المضمون، وألوان الفاقة الجديدة، والتشرد، والاحباط والقلق، وأحوال المثليين، والسيطرة الذكرية على النساء، وسلطان الاعلام والاتصالات، وسيطرة التجارة الى الثقافة وأسواق المال على الانتاج والتسويق والتوزيع، موضوعات العقد الأخير من عمل بيار بورديو ونشاطه العارم، قبل انهياره امام مرض السرطان. وفي هذه الموضوعات والمسائل انتقلت المعالجة انتقالاً جاداً بعض الشيء من "الكشف" عن عوامل السيطرة، وحربها بعضها على بعض، وإنشائها الحقول الاجتماعية في الأثناء من طرق الانتهاك والعنف والمساومة والتغيير، انتقلت من هذا الى تسليط الضوء على "العذاب" والآلام المبرحة التي تصيب الوجدانات جراء انفكاكها من سكن "طبائعها" التي أعدت للتطبع والرضا بها، والاضطلاع بأدوارها بواسطتها ومن طريقها. فكان هذا الانفكاك مفتاح تعليل بورديو للحركات الاجتماعية المختلفة التي استيقظت في النصف الثاني من التسعينات، وكانت حركة مناهضة العولمة غير المتقوقعة على السيادات الاقليمية تتويجها. ولاحظ بعض من تناولوا اعمال الرجل بالفحص بقاء هذا الانفكاك، في دراساته وأعماله، غير معلل، وعلى نحو الحادثة الطارئة. فماذا جرى لكي تنكص "الطبائع" عن عملها؟ وماذا حل في نظام العلاقات الرمزية، والدولة رأسه، ليخرج عن مداراته وأبوابه وقسماته؟ فكأن حال المجتمعات الرأسمالية استوت واحدة وحال المجتمعات السابقة الرأسمالية وبورديو يستعيد في هذا المعرض ابواب ماركس وبعض تعليله في انتقالها المتخلع والمضطرب. فالكلمات والمشاعر والانفعالات والعلل في جهة، والوقائع والحوادث والأطوار في جهة اخرى. ولا وصلة بين الواحدة والأخرى غير العذاب والوجع. وفي بعض بياناته الأخيرة، ولعل بيانه "غايات حركة اجتماعية اوروبية" في ربيع 2000 آخرها، يزيح بيار بورديو الستر عن تحول اعماله من حال "العلم" الى حال التظلم. فهو يصف سياسة القوانين الاقتصادية بنازعها الى نفي السياسة وإخراجها من إهابها وطورها ومن مراقبة الحكومات والمواطنين معاً. فتنفرد القوى الاقتصادية والاجتماعية بالسيطرة بعيداً من الحسبة السياسية والقانونية الحقوقية والخلقية. وينصب الكاتب فوق الدول والحكومات والشعوب، وهذه كانت أطر السيطرة القديمة وأصبحت بالية وموضوع ... حنين، ينصب الهيئات الاقتصادية الدولية مثل منظمة التجارة العالمية وشبكات الشركات المنتشرة في عشرات البلدان مثل شبكة الاستثمار المؤتلفة من خمسين منشأة عملاقة على غرار ديملر بنز وبريتيش بتروليوم ورون بولانك. فينبغي إقرار السياسة، من جديد، على قرار بمتناول المواطنين والدول، وليس بمنأى منهم. وأوروبا، اليوم، أقرب مأخذ، وأوضح مأخذ، تؤخذ منه السياسة أو تؤتى وتباشر. وعلى هذا فبناء او إنشاء حركة اجتماعية أوروبية هو الباب التي تبعث منه السياسة، اي مراقبة المواطنين والدول الوطنية، في عالم تتسلط عليه هيئات بعيدة تجمع بأيديها ما لم يجتمع من قبل، ولم يعرف، من سلطان ورساميل ونفوذ ودالة، بأيدٍ. ووسائل الاتصال ووسائطه هي التمثيل على ذلك. والحركات الاجتماعية التي يتوسم المقاومة والثبات فيها تختلف عن الأحزاب والنقابات التقليدية. فأول ما ترفضه هو احتكار الأقليات النخب سوس الاحزاب والنقابات. وأول ما تدعو إليه هو المشاركة المباشرة ومن غير وسيط. وهي تستلهم اشكال تنظيم تقوم على التسيير الذاتي، على ما يكتب بورديو مادحاً، وتقنع من الجهاز بأخفه، ولا تحول بين المشاركين وبين استعادة دورهم النشط والفاعل بإزاء الأحزاب خصوصاً. اما الغايات التي تسعى هذه الحركات فيها فمعينة وملموسة ومهمة مثل السكن والعمل والصحة. ونقدم الحركات الاجتماعية، مقارنة بالسياسة التقليدية الحزبية، العمل المباشر، على خلاف المفاوضة والمساومة البرنامجيتين، فهي واضحة الأفعال، ولا لبس في علاقتها بغاياتها وكان بورديو شديد الإعجاب بتظاهرات المثليين المجتمعين في "أكت - آب"، فتظاهرتهم السنوية كانت وراء إقرار قانون العقد المدني الذي أباح المساكنة ورتب عليه حقوق توريث وضريبة مماثلة للعقود الزوجية التقليدية، والتظاهرة لا تعد إعلان العقد والدعوة الى اقراره. وينص البيان على شروط الحركة الاجتماعية ودوامها. فإذا بها تكرر ما سبق لحركات "الحرية" او الفوضوية كلها، طوال القرنين الماضيين، ان اشترطته على نفسها من نفي السطو والتملك، وترك المراتب والمركزية، ورعاية خصوصيات الأفراد والجماعات المتعاقدة. ولكن على ان تتولى الحركات هذه درء التشرذم والتقوقع على الخصوصيات والأنشطة المحلية والترجح بين اوقات الركود وأوقات التشنج ... ويدعو بورديو، في بيانه إياه، النقابات الى تجديد عملها ودورها من طريق تبديل المهمات والقائمين بها دورياً، ونقد مثال التكليف والانتداب الثابت وغير المقيد، والقبول بالمقابلة والمقارنة بين وجهات نظر مختلفة. وهذا كله، وغيره مثله، سبق "للماويين" الفرنسيين في ماضٍ قريب ان دعوا إليه. وكان مثقفون من امثال ميشال فوكو وجان بول سارتر وجيل دولوز وعشرات غيرهم، يزكونه ويساندونه. واستعادت بيانات "الماويين" ما دعت إليه جماعة "إما الاشتراكية وإما البربرية"، في خمسينات القرن المنصرم، ومقالات كورنيليوس كاستورياديس، أحد كتّابها البارزين، دعوة ملحّة تبلورت مذهباً عريضاً في قيام المجتمعات بنفسها وصدور "الاجتماعي - التاريخي" عن اركان يوجبها على غير مثال. وكان كاستورياديس يقول انه لا يعدو استعادة بيانات "العاميات" وحركاتها الأوروبية منذ أواخر القرن السابع عشر البريطاني. والتذكير بهذا التراث لا يذهب الى ان التمرد، او الثورة او "الخروج" او التقوض، نافلة لا جدوى منها، على ما ردّ ميشال فوكو، مستفهماً، على نقّاد مديحه الحركة الخمينية و"روحانيتها السياسية". ولكن سؤال كلود لوفور، في تأريخه الثورة الروسية وانقلابها نظاماً شيوعياً كليانياً ثم انهيار هذا النظام، عن تواتر إما انقلاب التسيير الذاتي الى بيروقراطية ساحقة او اخفاق الحركة الاجتماعية وتسييرها الذاتي، وعن علة توتر احد الاحتمالين من دون تبلور احتمال ثالث، يستحق التناول التاريخي الذي أولاه إياه لوفور نفسه، ولم يستوقف لا بورديو ولا أصحابه. ويقود السؤال ربما الى الفحص عن اركان الثورة الديموقراطية و"دولتها"، الواحدة على سبيل المثال الانموذجي، على ما صنع لوفور وغيره ويصنعون. وعلى ما لم يصنع بورديو. * كاتب لبناني