بيار بورديو المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي الذي رحل الخميس الفائت أحدث غيابه ذهولاً في الأوساط الثقافية الفرنسية، خصوصاً أنه لم يكن له فقط أتباع ومناصرون، بل الكثير من الأعداء سواء في الاوساط الجامعية تنقّل بورديو وتقلّد مناصب عليا في مؤسسات جامعية مثل المدرسة التطبيقية للدراسات العليا والكوليج دو فرانس، التي تحكمها الولاءات والصراعات وشهوة السلطة، او في الوسط الثقافي والفكري والصحافي. وكان آخر درس جامعي ألقاه بورديو في الكوليج دو فرانس يرجع الى 28 آذار مارس. تبقى صورة بيار بورديو لدى جيل من الباحثين العرب الشباب، سواء منهم الذين درسوا علم الاجتماع أو العلوم السياسية، مرتبطة بتقربه من دول العالم الثالث، وخصوصاً الجزائر التي خصّها بدراسات عدة مثل "سوسيولوجيا الجزائر" و"الاجتثاث" و"العمل والعمال الجزائريون"، وصدرت كلها عن منشورات مينوي. وهي تبقى مرجعاً أساساً في ميدان مقاربة بنيات القرابة وتشكل البطريركية في المجتمع الجزائري الرعوي والفلاحي وسلخ العمال من أراضيهم لتحويلهم يداً عاملة بخسة في فرنسا. كان ذلك في الخمسينات حين عاين عن كثب المجتمع الجزائري. وقف بورديو على آليات الهدم بتوظيفه مفاهيم جديدة للادراك السوسيولوجي والأنثروبولوجي. ويعتبر احمد الصياد احد المتعاونين الأوفياء الذين رافقوا عن قرب بورديو وأشغاله الميدانية، إذ كان، قبل وفاته منذ سنتين، المنشط للعمل الجماعي الذي أشرف عليه بورديو في عنوان "بؤس العالم" سبق لنا على صفحات "الحياة" ان عرضنا لهذا المؤلف الجماعي. كان بورديو احد السوسيولوجيين الذين ردّوا الاعتبار الى المعرفة السوسيولوجية الفرنسية، عبر تخليصها من مركزيتها وفتحها على مجالات وحقول ميدانية وتاريخية جديدة. وعلى المستوى المنهجي، أدخل بورديو في مقارباته ادوات تحليلية جديدة تنهل من التحليل النفسي والخطاب الأدبي والخطاب الفلسفي. ناقش بارث، هايدغر والروائيين الجدد وكتب عن الفن التشكيلي، السينما، التلفزيون. وكان اقرب الى فوكو، دولوز، جاك ديريدا وقد رأى فيهم صفوة النظام المدرسي. انتقد الحداثة وما بعد الحداثة لمصلحة عقلانية مفتوحة وقريبة من غاستون باشلار. مسعى بورديو هو دمقرطة السوسيولوجيا. وهذا النزوع الى اشراك الحس المشترك في كل القرارات والتدابير هو الذي أهّله لمناصرة قضايا المعدومين الجدد ضحايا الليبيرالية الجديدة والعولمة، من المهاجرين السريين الى ضحايا العنف وبخاصة الجزائريين من صحافيين وكتّاب الذين آزرهم بورديو عبر لجنة تضامن فرنسية. دخل بورديو السجال من بابه الواسع وألقى كل مرة في معترك النقاش كتباً دسمة وسجالية خلخلت المشهد الثقافي الفرنسي مثل "عن التلفزيون"، 1966، وهو نص قادح اللهجة في حق الصحافيين والتلفزيون الفرنسي "مرتع الابتذال والسلطة". ولقي هذا الكتيب نجاحاً هائلاً لدى القراء. بعد دولوز، بارث، لاكان، ميشال فوكو، يرحل احد آخر المثقفين العضويين الفرنسيين تاركاً المشهد يتيماً او في يد اشباه المثقفين. ولما أشار جاك ديريدا الى أنه "فقد صديقاً وفي الوقت نفسه شاهداً لا يمكن تعويضه" فإنه شعر بأن المثقفين الذين يتورطون في قضايا مجتمعاتهم وفي اشكاليات العصر العسير أصبحوا ندرة نادرة.