ظلت جامعة القرويين، خلال قرون عدة متصلة، تقوم بالوظائف ذاتها التي كانت الجامعات والمعاهد الدينية الكبرى تقوم بها في الحواضر والمدن الكبرى، يمكن القول عن تلك الوظائف، اجمالاً، انها إعداد الأطر الكوادر المتوسطة والعليا التي كانت المدينة الإسلامية في حاجة اليها، في المجالات المختلفة التي تتصل بالوجود الاجتماعي، والتنظيم التجاري، بل وتتعلق بالجوانب السياسية في بعض الأحايين. وهكذا نجد ان القضاة، والعدول الشرعيين، وكتّاب الدواوين، والمحتسبين، وأئمة المساجد، وأمناء المال، وولاة الشرطة، وقادة الجيش، والولاة على المدن... وغير هؤلاء من الفئات كان تكوينهم النظري، وبالتالي إعدادهم لشغل الوظائف والمهمات الضرورية للمدينة الإسلامية ونظامها، يتم في تلك المراكز الدينية ومعاهد التعليم العالية والمتوسطة. بيد ان القرويين كانت تقوم، إضافة الى ما تقدم، بمهمات أخرى تفرضها بنية النظام السياسي في المغرب وتفرضها التلوينات المحلية التي أكسبت الوجود الاجتماعي في المغرب طابعاً مختلفاً في وجوه منه، عن الطابع الاجتماعي الذي كان لبلاد الإسلام الأخرى. وقد تلزم الإشارة الى وظيفتين اثنتين بارزتين، تتصل أولاهما بإقرار السلطة السياسية، أحوال التعاقب الهادئ والسلمي على العرش عقب وفاة ملك وتولي آخر من بعده وهذه معظم تلك الأحوال، وكذا في الأحوال القليلة، المضطربة، التي لم تكن الأمور فيها على النحو المتقدم من الهدوء والسلم. وترجع ثاني الوظيفتين الى ما يقتضيه سير الدولة من طلب المشورة والاطمئنان، بالتالي، على دعم الدولة من جانب النخب العليا والعلماء في مقدمة تلك االنخب. الوظيفة الأولى المشار اليها هي وظيفة "البيعة" أو بالأحرى، تأكيد البيعة لملك جديد. ذلك أن "بيعة علماء القرويين" ظلت، خلال القرون الكثيرة التي أعقبت تأسيس جامعة القرويين، حدثاً حاسماً في اقرار الملوك على عروشهم، بالنظر الى ان القرويين كانت المجمع الذي يضم الطبقة العالية من علماء الدين والقادرون على التأثير المعنوي الحاسم على الفئات العريضة من أصحاب المهن والحرف المختلفة وكذا من سواد الشعب، مثلما أنها كانت المركز الروحي للمغرب برمته وخصوصاً في العهود التي كانت فيها مدينة فاس، حيث الجامعة العريقة، عاصمة الدولة المغربية - وللتذكير نقول انها ظلت كذلك الى سنة 1913 - غب اعلان الحماية الفرنسية وقرار هذه الأخيرة بجعل الرباط عاصمة ادارية للمغرب. ولا يخفى أن "بيعة علماء فاس" وبالتالي القرويين كانت تتخذ صفة الإلزام المعنوي لبقية علماء المغرب، وكذا لبقية النخب الأخرى في فاس وغيرها من المدن الأشراف، التجار، الحرفيون، الوجهاء من مختلف الأصناف. أما الوظيفة الثانية وظيفة "الاستشارة" الدينية فلم تكن أقل أثراً في اقرار الأحوال السياسية وفي اعلان ما تكون الدولة في حاجة اليه من مساندة في اتخاذ قرارات حاسمة تبلغ، في بعض الأحيان، درجة اعلان الحرب أو قبول الهدنة والصلح. وأود أن أكتفي في هذا الصدد، بمثال واحد، ولكنه يغني عن الأمثلة الكثيرة، فهو يشي بدلالة الوظيفة الثانية هي كذلك مع طبيعتها الرمزية، أو لنقل ان القوة في الرمز ترقى الى مستوي الوظيفة الفاعلة في فهم بنية كل من الدولة والمجتمع. ففي سنة 1859 احتل الاسبان مدينة تطوان في شمال المغرب وكان جيش المغرب وغالبيته العظمى، في ذلك الوقت، من المتطوعين الذين هبوا للحرب بدافع الجهاد وداعي نصرة أهل الإسلام في حال من العجز عن طرد القوة العسكرية الحديثة لدولة امبريالية في أوج قوتها وانتصارها فقد كانت بلدان واسعة، كثيرة، من أميركا اللاتينية خاضعة لسيطرتها وأخرى غيرها. لم يكن أمام الدولة المغربية، في واقع الأمر، بديل آخر عن قبول الصلح مع القوة الاسبانية والرضوخ لشروط الهدنة التي تمثلت في دفع مبالغ مالية هائلة في مقابل الجلاء عن المدينةالمحتلة. كان السلطان المغربي في حاجة الى سند من علماء القرويين حتى يكون اتخاذه لقرار الصلح ذي أثر سلبي على دعاة الجهاد الرافضين الصلح مع العجز عن الحرب وعدم توافر شروط الجهاد، وواقع الضعف الذي كان يعني خوض حرب الدائرة فيها على المسلمين حتمية واراقة الدماء في غير طائل، واضحة وجلية. وطلب المساندة ذلك اتخذ الصيغة التي كان يتخذها في الأحوال المماثلة في تاريخ المغرب، وهو توجيه الملك رسالة الى العلماء، يعرض فيها "النازلة" ويطلب فيها "الفتوى" - وكذلك كان جواب علماء القرويين "استفتاءً" ثَمَّ اتخاذ قرار الصلح بموجبه، وتمت استعادة مدينة تطوان نتيجة له بعد أزيد من سنة من وقوعها تحت السيطرة الاسبانية. غير ان ما حدث بعد استقلال المغرب في سنة 1956 هو ان جامعة القرويين فقدت الوظيفتين معاً إقرار البيعة، وتقديم الفتوى العليا أو الاستفتاء السياسي - الديني، مثلما فقدت على غرار الجامعات والمعاهد الدينية في العالم الإسلامي عموماً، والعربي خصوصاً ما كانت تقوم به من عمل امداد الدولة والمجتمع بما كان كل منهما في حاجة اليه من الأطر = الكوادر كما أسلفنا القول - ذلك ان انتشار التعليم وتعميمه من جانب أول، وظهور الأصناف الكثيرة التي نعرف، من أصناف التعليم العالي وهذا من جانب ثانٍ، كل هذا جعل أقدم جامعة في العالم تغدو، فجأة، في حال من العجز عن مسايرة التطور الحاصل في مجالات اكتساب المعارف والعلوم مثلما سلب منها قوة رمزية، فاعلة وذات تأثير حاسم، في أشكال الوجود السياسي، والمعرفي، والاجتماعي، ولا يتسع المجا للحديث عن القرويين بحسبانها "فضاء عاماً" يسهم في ادارة المجتمع وتنظيمه. ما نود أن ننتهي اليه، في حديث جعلنا له "مستقبل القرويين" عنواناً، هو أن الجامعة العريقة، تلك التي يفخر أهل الإسلام بأن أحد بابوات الكنيسة كان في جملة طلبتها في أحد العهود، توجد اليوم في مفترق طرق يجعلها - عملياً - أمام وجوب الاختيار بين أحد أمرين: إما القول إنها قد استكملت جملة الوظائف التاريخية التي كانت لها، ومن ثم اعلان الإفلاس كما يقال اليوم عن الشركات. وإما التطلع الى مهمات جديدة، أو بالأحرى، رسم آفاق جديدة في التكوين والبحث وإعداد العلماء... آفاق جديدة تستوجب مراجعة شاملة، لا في البرامج والدروس والمناهج، بل وفي لغة التدريس ذاتها... مراجعة تعني، على سبيل المثال، إحداث أقسام أو "شعب" كما يقال في اللغة الجامعية في المغرب يكون التكوين فيها، منذ البداية حتى نهاية مراحل التحصيل، بإحدى اللغات الأجنبية أو باثنتين منها إضافة الى اللغة العربية بطبيعة الأمر. مستقبل جامعة القرويين، بالنظر الى بنية الدولة والمجتمع في المغرب، وباعتبار الحاجة الى إحداث نقلة نوعية في إعداد علماء الدين، رهين بالجرأة على التخطيط لهذه الآفاق الجديدة. * عميد كلية الآداب - جامعة محمد الخامس - الرباط.