نقصد بالمرجعية المغربية مجموع النضالات العملية والمؤسسات والاجتهادات الفكرية والوثائق الوطنية التي سجلها تاريخ المغرب الحديث منذ القرن الماضي في مجال حقوق الانسان، والتي حكمت ووجهت كل النضالات السياسية اللاحقة في هذا الباب. كانت هزيمة موقعة إليسلي سنة 1844، وحرب تطوان في نفس السنة، شكّلتا الوقائع الحاسمة الكبرى التي دقّت ناقوس الخطر في المغرب الحديث، وأيقظت وعي وضمير نخبة من العلماء والفقهاء والساسة، ودفعتهم الى التفكير في كيفية تطوير النظام بتطبيق ما يسميه بالاصلاحات والاشراف على الاقتصاد ومراقبة الموانئ. في سياق مواجهة هذه الوضعية الصعبة نشأت في المغرب حركة فكرية سياسية ركّزت اهتمامها على المسألة الدستورية. واجمع كل "العلماء" والفقهاء في تلك الفترة على ان الافلات من السيطرة والضغط الاجنبي يتطلب تحقيق العديد من الاصلاحات السياسية بالدرجة الاولى. وخلال عرض مفاصل هذه الاصلاحات وردت الاشارة او التنصيص على عدد من الحقوق الفردية والجماعية. أهم الوثائق والاحداث التي اصبحت بمثابة تراث سياسي مغربي للنضالات السياسية والايديولوجية اللاحقة هي التالية: 1 - مشروع بنسعيد لسنة 1904. قدم هذا المشروع الى وزير الخارجية المغربي آنذاك عبدالكريم بنسليمان ليقدمه للملك عبدالعزيز. وتضمن المشروع تسعة عشر فصلاً في مقدمها مدخل يدعو الى انشاء قوة اقتصادية، والى نشر العدل والتعليم، والى التشبث بالرابطة الاسلامية. وتتضمن البنود الاخرى التفصيل في كيفية تنظيم الدولة في كافة الميادين، وبخاصة في القضاء والادارة والاقتصاد والجيش. فالبند 11 من هذا المشروع ينص على "الحق في الأمن" من حيث انه "اذا حصل الأمن للرعية تقع لا محالة حركة في الأخذ والعطاء، فتنمو سائر انواع التجارة واسبابها". 2 - مشروع دستور 1906. هيأه عبدالكريم مراد، وهو مشرقي سوري الجنسية. وهذا ما جعل هذا المشروع مطبوعاً بالنفس العثماني وبالمصطلحات التركية. وهو كسابقه خال من كلمة حق او حقوق حيث لا يتم التنصيص عليها باللفظ. بل ترد فقط بمعناه. يدور المشروع في الدرجة الاولى حول كيفية تنظيم الدولة، لأنه - كما ورد في المقدمة - "لا يتم عزّ الملوك الا بالشريعة، ولا قوام للشريعة الا بالملك، ولا عزّ للملك الا بالرجال، ولا قوام للرجال الا بالمال، ولا مال الا بالعمارة، ولا عمارة الا بالعدل، ولا عدل الا بإصلاح العمال، ولا تصلح العمال الا باستقامة الوزراء، ورأس الكل تفقد الملك احوال رعيته بنفسه". وينص هذا الدستور في المادة 12 على الغاء المكس والسخرة والضيافة، بقوله: "يجب إلغاء جميع الاموال التي تطلب بل تؤخذ من الرعية خلاف ما قررته الشريعة الاسلامية كمثل المكوس والهدية، والسخرة، وإلغاء الزام القبائل لضيافة ما يمرّ عليهم من العسكر او احد رجال المخزن الا عن طيب أنفسهم". 3 - مشروع دستور 1908 او ما يدعى دستور جماعة لسان المغرب. وهو انضج هذه المشاريع كلها واكثر ارتباطاً بمفهوم حقوق الانسان. ينص هذا المشروع في مادتيه 13 و14 على انه "يحق لكل مغربي ان يتمتع بحريته الشخصية"، وان هذه الحرية "تقوم بأن يعمل كل واحد ما يشاء، ويتكلم ما يشاء، ويكتب ما يشاء، مع مراعاة الآداب العمومية". وتستعمل المادة 17 من المشروع كلمة حقوق، وذلك في الاشارة الى "ان جميع المسلمين متساوون في الحقوق امام وظائف المخزن…" المخزن هو جهاز الدولة في المصطلح التقليدي المغربي. كما ينص في المادة 23 على حق الامن بقوله: "كل مغربي آمن على ماله وملكه". وتنص المادة 30 على الغاء عقوبة الاعدام حيث يقول: "لا يجوز تقطيع رؤوس العصاة الذين سقطوا في قتال مع عساكر المخزن". وينص البند رقم 54 على ضرورة تكوين مجلس للشرفاء وهو صيغة اقرب الى مجلس الشيوخ يشترط في عضويته عدة شروط من بينها "انه لا يحجف بحقوق الأمة، او يضرّ بالعامة، والفقير خاصة"، وكذا "ألا يمس الحرية، والدستور، والآداب العامة". 4 - مذكرة علي زنيبر حوالى 1904 تحت عنوان "حفظ الاستقلال ولفظ سيطرة الاحتلال" ومنها يدعو الى "انتخاب لجنة من اعيان الامة المتنورين لتحرر الجامع يعني الدستور تحفظ به حقوق الحكومة والأمة ومن في حكمها. 5 - مجلس الاعيان: وجه الملك عبدالعزيز في 20 كانون الاول ديسمبر 1904 رسالة الى عمال مختلف القبائل والحواضر يدعوهم فيها الى ان يرسلوا وكلاءهم وممثليهم الى فاس للتداول في أمر يتعلق بالامر العام: "اذ ان المشورة في الامر العام امر مطلوب لا سيما وفيها سر الاصابة". وبعد انتهاء هذا الاجتماع صرح وزير الخارجية عبدالكريم بنسليمان بأن المجلس قرر عدم الموافقة على اي اصلاح يتم بواسطة دولة واحدة اجنبية و"ان السلطان لا يمكنه ان يعارض الشعب، لان الشعب له الحق في ألا يهمل مسألة لها مثل هذه الاهمية". 6 - وثيقة البيعة الحفيظية 1908: وهي وثيقة اعدها جماعة من علماء فاس باشراف محمد بن المواز مع اضافة شروط أملاها الشيخ محمد الكتان. وقد اعتبر علال الفاسي هذه الوثيقة بمثابة "عقد بين الملك والشعب يخرج بنظام الحكم من الملكية المطلقة الى ملكية دستورية. تتضمن هذه الوثيقة مبادئ منها: أ - إقرار العدل. ب - تحسين وضعية التعليم. ج - الغاء الشروط الضارة بمصلحة الأمة. د - العمل على استرجاع ما اغتُصب واحتل من الاراضي المغربية. ه - الكف عن استشارة الاجانب فيما يختص بمصالح الأمة. و - استشارة ممثلي الامة في ابرام المعاهدات وتوقيع الاتفاقات. ز - رفع المكوس إزالة الضرائب. ح - تصحيح الاوضاع الدينية واعادة الحرمة للأحباس. ط - كفّ العمال عن التدخل في الخطط الشرعية القضاء - الفتاوى… وهو ما يسمى في اللغة السياسية الحديثة بفصل السلطات. ي - اقرار الامتيازات الضريبية والمعنوية التي كان يتمتع بها الاشراف، والعلماء، وأرباب الزوايا". 7 - تقارير السفارات المغربية: شهدت السياسة الخارجية المغربية في القرن التاسع عشر حركة نشيطة لتبادل البعثات والسفارات مع العديد من دول الشرق العربي والدول الاوربية، وذلك في اطار مهام سياسية او تجارية او عسكرية. وقد دوّن الموفدون المغاربة تقارير ومذكرات يصفون فيها تفاصيل رحلاتهم ومشاهداتهم في البلدان الاوروبية فرنسا - اسبانيا - انكلترا…. واطلع هؤلاء المبعوثون على مظاهر التقدم الاوروبي في ميادين التقنية والعمارة وتنظيم المدن وتنظيم الجيش والحدائق والصناعات والدساتير، والحياة النيابية، وغيرها من مظاهر الحياة الاوروبية. واذا لم يكن هؤلاء قد صاغوا مشاهداتهم بألفاظ قانونية وحقوقية فان تقاريرهم تبيّن فهمهم لمختلف الحقوق التي يتمتع بها المواطن الاوروبي. مثال ذلك ان المبعوث المغربي الى باريس سنة 1845 عبّر في مدونة "رحلة الى باريس" عن اندهاشه من تقديس الفرنسيين لحق الناس في الملكية، وهو الحق الذي تحميه وتنص عليه القوانين المعمول بها. كما وصف ما سمّاه بالقمرتين الكبرى والصغرى اي المؤسسات التمثيلية، واشار الى سلطة وحرية الكوازيت الصحف ومظاهر التقدم الاخرى". 8 - الحركة الوطنية بمنطقة الحماية الاسبانية: من ابرز معالم هذه الحركة النشاط الفكري والصحافي لعبدالكريم الخطابي منذ كان طالباً بالقرويين الى ان انتقل للعمل بالصفحة العربية لجريدة "تلغرام الريف" بين 1907 - 1915، الى مرحلة الثورة 1921 - 1926. وقد وضع عبدالكريم الخطابي وصحبه مشروع دستور يقرّ بمبدأ السيادة للشعب. وفي سنة 1931 قدمت الهيئة الوطنية في شمال المغرب الى رئيس الجمهورية الاسبانية في مدريد يوم 8 حزيران/ يونيو 1931 وثيقة مطالب الامة المغربية جاء فيها: "وهكذا نرى ان نظام الحماية لم يأت بنتيجة الى حدّ الآن. ونظرنا انه ما دام هذا النظام على ما كان عليه سابقاً لا يمكن ان يثمر ابداً. فحكومة تفقد كل رعاياها كل نوع من انوع الحرية تخرجهم من ميزتهم الانسانية وتسقطهم في درك الحيوان. وكلما طال امد هذا الحكم ادى الى فساد الاخلاق وقتل في النفس روح العزّ والكرامة التي هي ميزة الانسان. ومهما اختلفت العقول والمدارك والاوساط فان النوع البشري محتاج الى قسط من الحريات لا يمكنه بالمرة ان ينمو ويتطور بدونها. هذا لا شك فيه رغم اصحاب نظريات الحكم الفردي الجبار الذين لا يعتبرون الا السلطة والقوة هازئين بأقدس "حقوق الانسان". ثم تتحدث الوثيقة عن هذه الحقوق على شكل مطالب: "حرية النشر والصحافة والجمعيات هي من الحريات اللازمة للانسان والتي لا غنى له عنها. فكل قيد في سبيلها هو عقبة في سبيل الترقي تنوير الاذهان مع كونه ماساً بأقدس حقوق الانسان". في 21 كانون الاول ديسمبر سنة 1933 تأسست "اللجنة الفرعية للدفاع عن حقوق الانسان" في تطوان كفرع للعصبة الاسبانية للدفاع عن حقوق الانسان في مدريد. وقد تأسست هذه اللجنة بمبادرة من قادة الحركة الوطنية في الشمال: عبدالسلام بنونة رئيساً والتهامي الوزاني وكيلاً ومحمد داود عضواً وعبدالخالق الطريس عضواً بالاضافة الى اعضاء آخرين بينهم عضو اسباني. ونشطت الجمعية في اثارة وضعية السجون وحرية الصحافة والشطط في استعمال السلطة. ومن اطرف نشاطات اعضائها محاضرة القاها عبدالخالق الطريس سنة 1935 بعنوان "تأثير الزرواطة في النفسية المغربية". 9 - وثيقة "مطالب الشعب المغربي"، وهي الوثيقة التي قدمتها كتلة العمل الوطني سنة 1934 للعديد من الجهات. تعبّر هذه الوثيقة كما يقول المرحوم علال الفاسي عن مطالب تسودها "الصبغة الديموقراطية القائمة على احترام الحريات الشخصية والعامة والاهتمام بالتطوير الاجتماعي للأسرة والجماعة المغربية". ونصت الوثيقة على ضرورة توفير حرية التفكير والتعبير، وحماية الافراد من الاعتقال التعسفي، وقانونية العقوبات، ومنع التعذيب، وحقوق المعتقل، وحرمة المنازل، وسرية المراسلات، وحرية الصحافة، وحرية التنقّل، وحرية الاجتماع، وتأسيس الجمعيات. 10 - وثيقتا الاستقلال اللتان قدمها رجالات الحركة الوطنية المغربية. الاولى تقدم بها حزب الاستقلال بزعامة علال الفاسي في 11 كانون الثاني يناير 1944، والثانية بتاريخ 13 كانون الثاني 1944، وتقدمت بها الحركة القومية بزعامة محمد بالحسن الوزاني، وهما تتضمان بالاضافة الى مطلب الاستقلال تصورات اولية عن النظام السياسي بعد الاستقلال، والاصلاحات المتوقعة والحقوق التي يتعين على دولة الاستقلال ضمانها للمواطن. من الاكيد ان هذه الادبيات الديموقراطية والحقوقية أغنت حركة النضال السياسي في مرحلة ما بعد اعلان الاستقلال، ما جعل المطلب الديموقراطي، والمطالب الحقوقية الملازمة له في قلب الصراع السياسي الحاد الذي اندلع مع مطلع الاستقلال. وهذا ما دفع السلطة الى الاعتراف باكراً بضرورة تبني الدستور، واقامة نظام ديموقراطي يرعى حقوق المواطنين، حيث صدر "العهد الملكي الى الامة" بعد سنتين من الاستقلال اي في 8 ايار مايو 1958، ثم القانون الاساسي الموقت للمملكة في 2 حزيران 1961، وتم وضع اول دستور لدولة الاستقلال في 7 كانون الاول 1962، ودخل المغرب بعد ذلك في معارك وصراعات سياسية من اجل تطوير نصوص الدستور ومن اجل حماية تحسين الاداء السياسي لدولة الاستقلال. * كاتب وجامعي مغربي.