سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أحمد بن سودة ... صفحات من تاريخ المغرب : تأملات، خواطر وذكريات . كانت حرب الريف أكثر حروب المقاومة المغربية ضد الاستعمار إثارة لمشاعر الأنفة والاعتزاز 14
تختزن ذاكرتي عن البطل محمد بن عبدالكريم الخطابي صورتين رائعتين: الأولى صورة الخطابي الأسطورة، والثانية صورة الخطابي الحقيقة والواقع. أما الصورة الأسطورة فهي تلك التي ارتسمت في مخيلتي كطفل، وعنها سأبسط الكلام في البداية قبل أن أتكلم عن عبدالكريم الخطابي الحقيقة والواقع كما عرفته وجالسته واستمعت إليه. والمسافة بين الصورتين هي تقريباً ربع قرن بين سنة 1926 و1951. عن الصورة الأسطورة سأستنطق مخيلة طفولتي، وأستحضر التاريخ عن فترة ميلادي ونشأتي، ذلك لأن حرب الريف كانت حدثاً مدوياً أيقظني في مهد الطفولة، وكان مدخلاً عاصفاً لحياتي تشكلت في محيطه عواطفي واتجاهاتي. عندما كنت في الخامسة أو السادسة من عمري خرجت الى الشارع بعيداً عن بيتنا رفقة أطفال صغار في سني أو أكبر قليلاً، ورحنا نتجمع لا لنحكي قصصاً ونحن جلوس على عتبات بيوتنا قبل أن ينسدل الظلام، بل لننطلق فيما يشبه مسيرة أو مظاهرة وكنا نهتف ونردد: "أعسكر بطاطا ما فيكم كوراج عبدالكريم غلبكم وذبحكم كالدجاج". كان مقدم الحومة يطاردنا وعيناه تزبدان بأمواج الغضب والعسس الذين معه يركضون ويهشون علينا بعصيِّهم فيتطاير جمعنا كفرقة نحل في دروب وحواري مدينة فاس. وأتذكر جيداً ما كنت أسمعه في بيتنا عن البطل الأسطورة محمد بن عبدالكريم الخطابي. كانت عمتي راضية، بعد صلواتها ترفع كفيها داعية بالنصر للرجل الذي يقاتل "الكفار أعداء الله" وتبتهل أن يعينه ويؤازره وينصر جنده، ويهزم أحزاب الشيطان وحده. وكان والدي يسأل عمي عبدالهادي وهذا يسأله حينما يلتقيان داخل البيت بعد مغرب كل يوم عما التقطه أو سمعه أي منهما من أخبار جديدة عن حرب الريف بين عبدالكريم الخطابي، وكنت ألاحظ أن والدتي تثقل خطواتها أو تتمهل في ترتيب مائدة العشاء لتنصت إلى ما يدور بين زوجها وأخيه، ولم يكن يحسن بالمرأة أن تشارك الرجال حديثهم، غير أن عمتي راضية كانت أكبر من أخويها تظل جالسة تنصت فيما أصابعها تكر حبات السبحة. وكالة أخبار متنقلة كانت أخبار حرب الريف تتدفق على فاس، يحملها القرويون الآتون من المناطق المجاورة للمدينة، وخاصة تلك التي كانت حرب الريف حين اندفاعها تدق أبوابها، وأعني تازة ونواحيها وتاونات. لم تكن هناك صحافة تنشر الأخبار ولا إذاعة تعرف بما يجري، ولكن المغاربة بطبيعتهم يروجون الأخبار وينقلونها ويعقدون النوادي في الأسواق لتبادلها خاصة حينما تكون هناك أحداث هامة تجري في هذه المنطقة أو تلك من حروب أو فتن. ولكن أخبار حرب الريف كانت بضاعة تفنن القرويون في نقلها وتصريفها في فاس وعرفوا تشوق الناس لهذا فأشبعوا نهمهم وداعبهم تشوقهم. ولم يكن كل ما يروى صحيحاً أو مطابقاً لما كان يجري. ولم يكن يهم الناس تحري التفاصيل بقدر ما كان يهمهم أن يعلموا أن حرب الريف متقدة ومستمرة، وان الكفار يمنون بالهزائم. كانت أخبار انتصارات حرب الريف عزاء لقلوب جريحة ومشاعر مكلومة في مدينة فاس التي أحكم الاستعمار حولها الحصار وعزلها ليخنق أنفاسها فلا يسمع لها صوت، ولاتلتقط صوامعها وقبابها نداء استغاثة أو أنيناً. وقرر القضاء على دورها ومركزها ونقل العاصمة منها. وذات يوم دخل والدي البيت في هيأة لم أعهدها فيه من قبل، فقد كان متهلل الوجه، فرحاً يردد "النصر قريب... النصر قريب بإذن الله" ومن غير أن ينتظر ذروة اللهفة في عيون والدتي وعمي وعمتي أردف قائلاً: "لقد أخبرني القادمون من القبائل أنهم يسمعون أصوات مدافع المجاهدين تدوي هناك في الجبال. إنهم قادمون... قادمون". كانت الأسطورة تكبر في مشاعري، أسطورة بن عبدالكريم الخطابي، هاهو قادم وسأراه وأسمعه! كانت تلك آخر أيام الحرب... الأسطورة. حينما وصلت أصوات المدافع الى مدينة فاس، عزم الاستعمار عزمته الأخيرة، فسكتت المدافع، وخبا وهج الفرح في عيني والدي، وساد الصمت ولف المدينة برداء من الانكسار، وتوقف الناس عن الخروج فرادى وجماعات الى الروابي والتلال ليشنفوا أسماعهم بأصوات المدافع وهي تزمجر خلف الجبال تعصف "بعسكر بطاطا" مؤذنة بوصول الأسطورة وتحرير المدينة، وإلحاق الهزيمة النهائية بالاستعمار. وبدأ سيل الروايات يتدفق، ولكن الشيء الذي كان أكيداً هو أن شيئاً ما قد حدث هناك في جبهة القتال، فقد كنت ألتقط الأخبار من والدي وعمي حينما يلتقيان بالبيت بعد مغرب كل يوم، وهكذا سمعت منهما أن حركة غير عادية قد دبت خارج أسوار المدينة، فهناك قوافل تأتي وأخرى تغادر، وقد استطاع الناس أن يتأكدوا أن عدداً منها كانت تحمل الجرحى من ميادين القتال، وأخرى تنقل المزيد من الأسلحة والذخيرة والرجال. كانت مخيلتي أكبر من إدراك عقلي، وهكذا رحت أتصور وأحلم بالأسطورة بن عبدالكريم، أرسم في لوحة الخيال صورته رجلاً عملاقاً أكثر حتى من مقدم الحومة الذي كانت جثته الضخمة تغطي الكرسي الخشبي الذي يقتعده كما لو كان يفترش الفراغ، وما ذلك إلا لأنه كان مخيفاً وفظاً وذا وجه خشبي عبوس. أما طلعة أسطورتي فبهية، باسمة، ويداه قويتان كبيرتان حتى أن بوسعه أن يقتلع شجرة الصفصاف التي تتوسط الوسعة 1 في حومتنا. كنا قد توقفنا عن تنظيم مظاهراتنا الصغيرة لإزعاج المقدم وعسسه، فقد حذرنا آباؤنا من مغبة غضبتهم وشراستهم، ورحنا نتجمع في الأفنية بحارتنا يحكي كل منا ما سمعه عن البطل الأسطورة، وربما ساورنا شعور خفي بأن بطلنا حالما يدخل المدينة سيسمح لنا باستئناف مظاهراتنا وسيحمينا من مقدم الحومة وسنمعن في إيذائه واستفزازه وتكسير عصي عسسه! وشيئاً فشيئاً انقطعت عني أخبار أسطورتي، ولكنه ظل مزروعاً في نفسي وفي كياني، وظلت الصورة التي رسمتها له في مخيلتي ثابتة حتى أني كنت أمنع نفسي من مسها أو إعادة رسمها بما يوافق نمو وعيي وتفتح إدراكي على حقائق ما كان يجري حولي، لقد ظل البطل في مشاعري رمزاً للتحدي وللقوة وللشجاعة والقدرة على هزم الجبابرة وإذلالهم مهما أوتوا من عدة وعدد. كانت المظاهرات الصغيرة التي انخرطت فيها مع رفاق حومتي وأنا في سن السادسة من عمري، بسبب عبدالكريم الخطابي وثورته العظيمة أول خطوة لي الى طريق الكفاح الطويل، هذا الكفاح الذي كان بالنسبة لي مظاهرة مستمرة لم تتوقف ضد الظلم ورموزه، ضد الاضطهاد وسلاحه، محتفظاً في قرارة نفسي ووعيي بالصورة المعنوية للأسطورة، صورة المجاهد والجهاد، فلا شيء كان بمقدوره أن يهزم الثقة التي زرعتها في نفسي تلك الأسطورة. اندلعت حرب الريف بعد سنة من ولادتي، أي في سنة 1921، وهي السنة التي استشهد فيها المجاهد العظيم موحا أوحمو الزياني في ساحة الوغى بعد أن قاد معارك ضارية في غابات وشعاب وجبال زايان بالأطلس المتوسط ضد قوات الغزو الفرنسي وأذاقها ألواناً من الهزائم، وخاض ضدها حرباً غير متكافئة ولكنها جسورة ومضنية. وقبل موحا أوحمو الزياني كان هناك أبطال آخرون، ومعارك أخرى تندلع هنا، وتدوي هناك. تتوقف واحدة لتعلن أخرى استمرار القتال والمقاومة والتصدي، والقاسم المشترك هو الدفاع عن الحرية، حرية المغرب واستقلاله وعدم الرضوخ للمؤامرة التي حيكت خيوطها عبر عشرات السنين لتوقع بالأسد المغربي وتكبله وتودعه القفص الحديدي، قفص الحماية اللعينة. كان هناك أحمد الهيبة القادم من الصحراء، والشريف أمزيان في جبال الريف، وبلقاسم أزروال في جبال وواحات درعة، ثم جاء عبدالكريم الخطابي وبعده حمل المشعل عسو أوسلام فوقع باسمه وبطولته على واحدة من أكبر وأخلد المعارك البطولية ضد الاستعمار، معركة جبل صاغرو وآيت عطا في أعلى قمم جبال الأطلس ثم كان هناك العديد من الرجال الشجعان برزوا في كل ناحية يقاتلون الى آخر رمق وآخر رصاصة وآخر فرس وآخر صيحة استنفار. إنها حرب المقاومة التي خاضها المغاربة جهة بعد جهة ورجالاً يعوضهم رجال، من سنة 1921 الى سنة 1934. ولدت في زمن حرب المقاومة، وفي عنفوان اندفاعها وتدفقها. وكانت حرب الريف جوهرة في قلادة تلك الحروب العظيمة ولكنها كالحلقات الأخرى التي سبقتها أو تلتها، لم يكتب لها النصر في ميدان المواجهة، ولكنها لم تكن كما حسب الاستعمار كالمحتضر يقاوم الرمق الأخير، بل كانت بآلامها ودمائها النازفة وصرخاتها الموجعة تعلن عن ميلاد إرادة جديدة، سليمة قوية، تزرع الحياة في جسم مثخن بالجراح، فهي ترياق يقاوم العلة ويرتق الجرح ويبل الظمأ. وكانت ثورة الريف بالنسبة لمدينة فاس أكثر الثورات تأثيراً فيها وفي أبنائها، ذلك أنها كانت قريبة منهم حتى أنهم كانوا يتوقعون وينتظرون أن تطل جيوش المجاهدين ذات صباح على المدينة لا لتعيث فيها فساداً أو تخريباً ولكن لتفكها من أسر قيدها، وتعيد لها سالف عزها ومجدها. حاول الكثيرون من فاس الالتحاق بالمجاهدين في الريف توقاً الى الاستشهاد في سبيل الله والوطن وشداً لأزر المجاهدين، وكان البعض من علماء فاس يعرفون عبدالكريم الخطابي معرفة شخصية حينما كان يتابع دراسته بجامع القرويين، وعلموا من صلاحه وتدينه ما أفاض ألسنتهم بالثناء عليه والدعاء له بأن ينصره الله على الكافرين. وليس صحيحاً أبدا ما ادّعاه مَنْ تطاولت ألسنتهم وأقلامهم على التاريخ الوطني تزويراً وتشويهاً وتحليلاً مبنياً على تخرصات أيديولوجية سخيفة، إن فاساً كانت تخشى وصول جيش المجاهدين الريفيين إليها، وأن "البورجوازية الفاسية" بصفة خاصة كانت تضمر الريبة إن لم يكن العداء الدفين لثورة الريف، لأنها - كما زعموا - إن هبت رياحها على فاس عصفت بمصالحهم وأموالهم ومراكزهم، ولايحتاج المرء الى كبير عناء ليدحض مثل هذه الادعاءات الفارغة، مثلما لم يعد الأمر يحتاج الى اجتهاد لتنفيذ تلك الادعاءات التي روجها الاستعمار والمغرضون والقائلة بأن محمد بن عبدالكريم الخطابي كان يريد إعلان نفسه ملكاً أو رئيساً على المغرب لو تحقق له النصر! من الأسطورة إلى الحقيقة. ها أنا ذا في سن الواحدة والثلاثين من عمري. ها هو محمد بن عبدالكريم الخطابي الأسطورة أمامي، أراه، أحدق في وجهه بشوق، أسمعه، أخاطبه وأناقشه وأحاوره. وها هو الرجل الذي ولدتُ مع ميلاد الثورة العظيمة التي قادها. واحد وثلاثون سنة منذ ولادتي وانفجار تلك الثورة الخالدة، تتحول الأسطورة الى حقيقة، والحقيقة وكأنها أسطورة. ها هو البطل الأسطورة لايزال حياً، وثورته انتقلت الى دمنا حباً وحماساً وإيماناً وإصراراً على مواصلة الجهاد الى النصر، وهي في عينيه لاتزال تضيء وتلمع، وعلى لسانه تذكرنا بالعبر والدروس. والحقيقة التي غدت أسطورة هي ان عبدالكريم الخطابي لم ينهزم، لأنه كان يمثل روح هذا الشعب العظيم وهو الشعب الذي خرجنا من رحمه جنوداً فواصلنا الكفاح، وخلال إحدى وثلاثين سنة يدوي صوت المغرب في الآفاق معلناً ثورة الملك والشعب الحاسمة ضد الاستعمار، ثورة لها كامل عدتها، وهذه المرة ليست رد فعل منفصل هنا... وآخر هناك، بل إنها ثورة شاملة. ها هو الطفل الآن في القاهرة... ووجهاً لوجه مع البطل الأسطورة محمد بن عبدالكريم الخطابي. كان ذلك في شهر آب غشت 1951. فعندما تم تكوين الجبهة الوطنية في مدينة طنجة في هذه السنة، وكنت ممثلاً لحزب الشورى والاستقلال، سافرت الى القاهرة رفقه المرحوم الزعيم الأستاذ محمد بن الحسن الوزاني لنلتحق بالوفد الذي كان سبقنا إليها ويرأسه المرحوم الزعيم الأستاذ علال الفاسي لنرفع قضية المغرب إلى جامعة الدول العربية طالبين دعمها والتعريف بها وتجنيد الأنصار في العالم حولها. وصلنا الى القاهرة، وكان أول ما عزمنا عليه هو زيارة بطل حرب الريف المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي، وليس أجمل ولا ألذ ولا أعظم أن تلتقي برجل تشكلت صورته في وجدانك منذ الطفولة، وكان حاضراً في ذهنك وحياتك مثالاً ونموذجاً، وأن ترى بالعين وبالخيال وجهه وتسمع صوته وتلمس بالسلام كفه! وماهي إلا استراحة قصيرة بالفندق فاتصلنا به وطلبنا موعداً للقائه. وذهبنا في الموعد المحدد إلى بيته في حدائق القبة بشارع قاسم أمين، كان بباب بيته حارس فارع الطول والبندقية المشدودة بحمالة من جلد الى ظهره كانت فوهتها تلامس أذنه. دخلنا واجتزنا ممراً على جانبيه أصص أزهار وورد وسط حديقة فيها بضع أشجار، ودلفنا الى البيت ثم الى صالون غطيت أرائكه بالقماش الأبيض، وفي صدر الصالون كان جالساً، وحينما رآنا نهض تسبقه إلينا نظرات عينيه المتوقدة ولكنها، على قدر هائل من الود والصفاء. تأملته، والحقيقة أني كنت أود لو تحول جسدي كله تلك اللحظة الى عيون ترى طول وعرض وأطراف الرجل الأسطورة. كان يلبس شملة تحيط بجسمه لا هي بالفضفاضة ولا الضيقة، وهي أقرب الى القفطان الرجالي المغربي في شكلها، والى الجلابية الأزهرية في مخيطها بصدف غليظ على فتحتي طوقها، أما الرأس فكان ملفوفاً بعمامة بيضاء لها ذؤابة صغيرة مسدلة تلامس قفاه. سلم ورحب بنا باسطاً كفيه يدعونا الى الجلوس الى حيث كان يجلس. كان أدب الاستقبال الشرقي واضحاً في حركاته والمكان الذي اختاره لجلوسنا تجاهه، وكلمات الترحيب التي استقبلنا بها، ولكن ما عدا ذلك فقد كان الجو كله مغربياً، الشاي، اللهجة المغربية، والحديث مبتدأه وخبره عن المغرب، والقضية المغربية التي جئنا من أجلها. أدهشني أن أجد الرجل يتدفق حيوية، فرغم أن الكلمات تخرج من فمه هادئة فإنك تخال أنها رصاصات يصوبها قناص ماهر، كل رصاصة تصيب هدفها ولاتخطئه، ولاتضيع منها واحدة ولاتطيش. وهو في جلسته أمامنا تحسبه متربصاً وراء أكمة متحفزاً للانقضاض، لازال جسمه ينبئك بفارس مغوار، فارس أسند بندقيته الى جذع شجرة لينال حظاً من الراحة ويتناول قدحاً من الشاي. عيناه شعلتان من ذكاء وفراسة واستشفاف لما وراء الحجب والأستار. فيه صفة الفارس الذي لا يهاب، وخصال المجاهد المؤمن الذي لايرتاب. ويتدفق الحديث منا، نخبره، ونشرح، ونروي، وقلنا: إن الجولة السياسية في معركتنا مع الاستعمار قد بلغت أو كادت ذروتها والملك والشعب يقفان جبهة واحدة ضد الاستعمار ولذلك تحاك المؤامرات ضد الملك، وجئنا عند إخواننا في الجامعة العربية في إطار خطة التعريف بالقضية المغربية، وكسب الأنصار لها وحشد المؤيدين لحقنا وكفاحنا. لم يعدل جلسته، فرأسه في نصف إطراقة على صدره، كان ينصت بانتباه شديد وكأنما كان يتلقى تقريراً من قائدين سريين أرسلهما لاستطلاع أخبار العدو ومعرفة تحركاته ومواقعه وتحصيناته، وكان في حديثنا مايكفي من البيانات المطمئنة لخاطره وتشوقه لمعرفة أحوال بلده. القتال إلى النصر كان على علم بتفاصيل القضية المغربية وتطوراتها في الداخل والخارج، ولكن هذا البطل المقاتل أبى أن يحترف السياسة وإن لم ينكر فضلها كسلاح من أسلحة المعركة، ولكنه بالنسبة للقضية التي قاتل من أجلها وجئنا الى مصر للتعريف بها، فإنه لايؤمن بالمقولة التي يرددها الساسة والعسكريون معاً "ان الحرب آخر سلاح في المعركة" ذلك ان هذه المقولة بالنسبة له تنطبق على الصراعات التي تنشب بين الدول، أما الصراع بين الشعوب والاستعمار فله لغة واحدة هي القتال... الى النصر! وجدناه مطلعاً على أحوال العالم، متتبعاً لكل ما يجري فيه، إن استراحة المحارب في القاهرة أتاحت له فرصة متابعة الأحداث في العالم العربي، وخاصة القضية الفلسطينية، التي كانت في تلك السنة 1951 تنزف دماً وآلاماً وحسرة وعضاً على أصابع الندم! لم تكن قد مضت إلا ثلاث سنوات على الفاجعة الكبرى: ضياع فلسطين وقيام الكيان الاسرائيلي، كان العرب يلملمون طرف هزيمة حرب 1948، أول حرب عربية اسرائيلية، وكان الفلسطينيون في قبضة الذهول والمجهول وفي بداية رحلة الشتات الطويلة والضياع الأطول. وكان العالم يبدو وكأن كل شيء قد انتهى وتقرر، ولم يبق إلا شطب كلمة "فلسطين" من خرائط الجغرافيا الطبيعية بعد أن شطبت من خارطة الجغرافيا السياسية. وفي مصر كانت تتفاعل فضيحة الأسلحة الفاسدة، فهي نار تحجبها طبقة رقيقة من رماد، ورغم انشغالنا بالقضية المغربية فقد كانت فلسطين جرحاً عميقاً نازفاً في صدورنا، ولكنني لم أكن أتوقع أن البطل المقاتل محمد بن عبدالكريم الخطابي سيطرح قضية فلسطين أمامنا، ويتحدث عنها ويعتبرها قضية يجب أن لا تنسى، بل من المدهش أن الرجل، والناس جميعاً تحت وطأة مأتم ضياع فلسطين، ينحو باللائمة على الفلسطينيين لا على من كانوا يتهمون بضياعها في حرب مغشوشة خاسرة. وقال لنا: إن الفلسطينيين مسؤولون عما حدث، فهم الذين استكانوا واتكلوا على الدول العربية لتحارب نيابة عنهم. لن يفيدهم بعد الآن أحد، وعليهم أن يعتمدوا على أنفسهم، وأن يحملوا السلاح لاستعادة وطنهم. ويكرر بإصرار: لايفيدهم شيء الآن غير المقاومة! هل كان يتنبأ بما اقتنع به الفلسطينيون بعد ذلك بخمس عشرة سنة، حينما انطلقت الرصاصة الأولى لتعلن ميلاد مقاومة الشعب الفلسطيني في يناير 1965؟ والمحارب البطل يتكلم بعفوية، وهو لايستعمل في حديثه تلك الكلمات الكبيرة والمصطلحات المنمقة، فتخترق كل كلمة منه العقل والأذن والقلب، وهو ينفذ برأيه الى عمق الأشياء والأفكار لاتشغله ظواهرها، ولايحفل بالتفاصيل الصغيرة، فالعالم أمامه حقيقتان أو وجهان: الحق والباطل، الحرية والاستعباد، الإيمان والكفر، الإخلاص والخيانة. فهو رجل الموقف الواضح، والفكرة الجلية، سلفي التفكير، لايهتم بالحواشي والزوائد، لا اجتهاد عنده مع وجود النص، مرجعه الأصول الثابتة، فعنده "فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصم" ولكنه سموح في مناقشته وتقديم أفكاره والتعبير عن مواقفه، يستمع إليك فلا يعمد الى دحض رأيك وانتقاد قناعتك، لكن يقول رأيه في بساطة وتواضع بلا استعلاء أو كبرياء، فتعلم انه يصدر عن إيمان ويدافع عن حق دون أن تشعر بضعف رأيك أو عجز حجتك فتزداد رغبة في مناقشته ومحادثته. الغيمة الممطرة في هذا اللقاء الأول مع البطل الأسطورة صحبة الزعيم الاستاذ محمد بن الحسن الوزاني رحمه الله، لم يكن الحديث ذا شجون كثيرة، فقد جئنا للسلام على البطل الذي ملأ الأسماع والعقول والقلوب، والاجتماع إليه ومعرفة رأيه فيما جئنا من أجله، فالقاهرة كانت بالنسبة لنا في الحركة الوطنية مركز جذب فكري قومي سياسي، ولكن أيضاً كانت القاهرة مأوى بطل حرب الريف، كل من يذهب إليها يحج بيته قبل زيارة الأهرام وأبي الهول ويلتقي به لا للزيارة من أجل المجاملة، ولكن للتعرف عليه أولاً، والتزود بنصحه ثانياً، والاستفادة من مركزه وعلاقاته ثالثاً، فهو محطة التقاء وانطلاق. ولم نكن وحدنا المغاربة من نقصده بهذه المشاعر والآمال، فقد كانت زيارة هذا البطل الأسطورة أمنية كل زائر للقاهرة من المناضلين والسياسيين والمفكرين من العالمين العربي والإسلامي، فأصبحت زيارته معلماً من معالم القاهرة في ذلك الوقت تماماً كزيارة الأزهر والأهرام. وكان بيته في حدائق القبة مفتوحاً للزوار من علماء وزعماء وكتاب وسياسيين. وفي بيته تعرفت، حينما تكررت زياراتي له، على الكثير من الشخصيات الوطنية والعلمية من مختلف البلدان، أذكر من بينها الأمين الحسيني، وأحمد حلمي باشا، ومحمد علي الطاهر واليمني والعماني وكثير من الزعماء. وكل الذين يقصدونه يحملون معهم إليه ذلك التقدير العظيم الذي تكنه له شعوبهم، ومجلسه كان مجلس علم وحوار، واستعراض للمواقف والأفكار، تناقش فيه قضايا العالمين العربي والإسلامي وسبل الخلاص من الاستعمار والصهيونية. وكان الجميع يرى في نضاله وتجربته الرائدة المثال الذي يجب أن يحتذى. فقد كانت حرب الريف حديث السياسيين والمناضلين ومناط اهتمام العسكريين في جميع أنحاء العالم ومجالاً خصباً لسيل هائل من الكتابات والتحليلات. وكان عقد الخمسينات بداية إرهاص حركات التحرر في أفريقيا وآسيا وبداية ميلاد عصر جديد، عصر الشعوب المقهورة المغلوبة على أمرها. لقد أذنت شمس الاستعمار بالغروب، وآن لبحر الطغيان والاستعباد أن ينحسر بعد مد طويل. كُتب الكثير عن حرب الريف، عن مختلف جوانبها السياسية والوطنية والعسكرية، وغدت هذه الحرب مادة تدرس في الأكاديميات العسكرية لأنها ابتدعت أساليب لم تكن معروفة في فنون الحرب وخططها رجحت كفة المعارك لصالح من تفترض القواعد والحسابات والموازين في جميع المدارس العسكرية أن ينهزم، وخاصة معركة أنوال الشهيرة، وحيث أن هذا الحديث عن البطل محمد بن عبدالكريم الخطابي لا أريد له ولا أقصد أن يكون دراسة، بل استحضاراً لذكريات خاصة لي مع الرجل، فإني سأعرض لمثال واحد شاهدته واستمعت الى روايات رجال عاشوه، ويتعلق الأمر بتلك الخطة العسكرية التي تجمع الدراسات على أن بن عبدالكريم الخطابي كان مبدعها وراسمها، خطة الخنادق الحلزونية في ميدان المعارك، وهي خطة عرفها المحاربون منذ أقدم العصور. 1 الساحة المستديرة * تنشر المذكرات، بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية، على حلقات اربع مرات في الاسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس، والسبت