مغادرة الطائرة الإغاثية السعودية ال16 لمساعدة الشعب السوري الشقيق    رياح نشطة مثيرة للأتربة والغبار على تبوك والمدينة ومكة    الخليج يعزز هجومه بالنمساوي «مورغ»    «سلمان للإغاثة»: تدشين مشروع أمان لرعاية الأيتام في حلب    فانتازيا المسلم بين سحرية التراث ورفض النخبة    هل سمعت يوماً عن شاي الكمبوتشا؟    دهون خفيّة تهدد بالموت.. احذرها!    للبدء في سبتمبر.. روسيا تطلق لقاحاً مضاداً للسرطان يُصنع فردياً    رابطة العالم الإسلامي تعزي في ضحايا حادثة اصطدام الطائرتين في واشنطن    "الدهام" و"فيريرا" يكملان قائمة تحدي الخيالة الدولي بكأس السعودية 2025    القاتل الثرثار!    وفاة ناصر الصالح    العنزي يحصل على درجة الدكتوراة    هل تنجح قرارات ترمب الحالية رغم المعارضات    منتدى مستقبل العقار    اقتناص الفرص    «الأونروا» لا تزال تعمل في غزة والضفة الغربية رغم الحظر الإسرائيلي    قوة التأثير    مواعيد إقلاع الطائرات.. «سافر .. ما سافر» !    قوة صناعية ومنصة عالمية    الغامدي ينضم الى صفوف نيوم على سبيل الاعارة    دمبلينغ ينتصر على دا كريزي في "Power Slap" ويهيمن على الوزن الثقيل جداً    نيوم يعير آل سعد الى دانكيرك الفرنسي    مدرب الفتح قوميز: القادسية فريق قوي وعلينا التركيز لتحقيق أداء مميز    خاصرة عين زبيدة    نيابة عن أمير قطر.. محمد آل ثاني يقدم العزاء في وفاة محمد بن فهد    لماذا صعد اليمين المتطرف بكل العالم..!    السفراء وتعزيز علاقات الشعوب    مقومات الانتصار والهزيمة    التراث الذي يحكمنا    حوكمة لوائح اختيار رؤساء الأندية    المطوع ل «عكاظ»: لن أترك «هوساوي» للنصر    «الروبوتات» والأرحام الاصطناعية.. بين الواقع والخطر!    إحباط تهريب 2.9 كجم "حشيش" و1945 قرصًا خاضعًا لتنظيم التداول الطبي في تبوك    مصحف «تبيان للصم» وسامي المغلوث يفوزان بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    شراكات جديدة بين هيئة العلا ومؤسسات إيطالية رائدة    تتيح لهم حضور الجلسات القضائية بالصوت والصورة.. «العدل» تُطلق مبادرة خدمات السجناء    تجمع القصيم الصحي يفوز بأربع جوائز في ملتقى نموذج الرعاية الصحية السعودي 2025    "مفوض الإفتاء بمنطقة حائل":يلقي عدة محاضرات ولقاءات لمنسوبي وزارة الدفاع    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم مبادرة " تمكين المرض"    وزارة الشؤون الإسلامية تقيم يومًا مفتوحًا للمستضافين في برنامج ضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة    الديوان الملكي: وفاة الأميرة وطفاء بنت محمد آل عبدالرحمن آل سعود    المفتي للطلاب: احذروا الخوض في منصات التواصل وتسلحوا بالعلم    عشر سنبلات خضر زاهيات    تعزيز العلاقات البرلمانية مع اليابان    مدن ومجتمعات صديقة للبيئة    في إجتماع "المؤتمر الدولي" .. وزير الموارد البشرية: المملكة تسعى لتصبح مركزا رئيسياً لاستشراف مستقبل أسواق العمل    أهم الوجهات الاستكشافية    وسط حضور فنانين وإعلاميين .. الصيرفي يحتفل بزواج نجله عبدالعزيز    البهكلي والغامدي يزفان "مصعب" لعش الزوجية    مختبر تاريخنا الوطني    الإرجاف فِكْر بغيض    «السياحة الثقافية».. عندما تصبح الفنون جواز السفر    حسام بن سعود يستعرض مشروعات المندق    التقويم المدرسي.. نجاح يعانق التميز    أمير حائل يناقش خطط القيادات الأمنية    خطورة الاستهانة بالقليل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



احمد بن سودة ... صفحات من تاريخ المغرب : تأملات، خواطر وذكريات . درس عبدالكريم الخطابي مع جدي ... ونزل أسيراً في بيته بفاس بعد انهيار ثورة الريف في 1921 9
نشر في الحياة يوم 24 - 08 - 1998

في فجر يوم 22 كانون الاول ديسمبر سنة 1920 خرجت الى هذه الدنيا طفلاً أشاع الفرحة في قلب والده ووالدته وأعمامه وأهله، وكانت فرحة الوالد غامرة عارمة، ذلك انه أخيراً رزق ولداً بعد أن طال انتظاره، وانطلقت زغردات الفرحة تشق سكون الهزيع الأخير من ليلة ممطرة شديدة البرودة. كما ان تلك الزعردات وضعت حداً، ولو مؤقتاً لجو الحزن الذي خيم على بيتنا بسبب ما حل بالوطن وأهله من ظلم وهوان بعد أن تمكن الاستعمار من بسط نفوذه على أرضه ورجاله.
ولدت بعد ثماني سنوات من عقد الحماية البغيض، وهي سنوات أفجع من سنوات البلايا والخطوب والقواصم التي عرفها الوطن فأهلكت الحرث والنسل بفعل عوامل الطبيعة، وهي سنوات لهولها كان المغاربة يؤرخون بها لمواليدهم وزواجهم وأسفار حجهم، ولكنها رغم ما كانت تحمله من فواجع تنقضي وتنتهي فيعم الخير وتستبشر الوجوه وتعود الحياة الى مجراها الطبيعي، أما الاستعمار فنزل طاعوناً مقيماً عم البادية والحاضرة ولا مؤشر أو دليل على ذهابه ورحيله، لذا بدا وكأن الناس أمام هذا الخطب الذي نزل بهم وبديارهم قد لاذوا بحزنهم، وفزعوا الى يأسهم، وتعلقوا تقية واستسلاماً بالإيمان والاعتقاد بأن ما حل بهم وبوطنهم أمر مكتوب وقضاء منزل من الله، ولا راد لقضاء الله، فالكوارث توالت واحدة بعد أخرى من احتلال مدينة وجدة في شرق المغرب، الى احتلال الدار البيضاء، الى عشرات المعارك التي هزم فيها جيش المخزن، الى استباحة المغرب أرضاً ومرافئاً وموارداً وسيادة، الى الانتكاسات التي حلت بالمجاهدين في كل النواحي في الشمال والجنوب، في الجبال والوهاد والصحراء رغم ما بذلوه من تضحيات وأبانوا عنه من ضروب الشجاعة والمقاومة بوسائل متواضعة، الى فشل المحاولات التي قام بها المُصلحون لدرء الأخطار، وإصلاح أحوال الدولة والأمة، ولايمكن أن يحل كل هذا في نظر المغاربة المتشبثين بدينهم والمقدسين لشريعتهم وتعاليمهم إلا بسبب التفريط في الدين، والعزوف عن صراطه المبين، فالإسلام هو الحصن الحصين، وليس للمغاربة غير دينهم يحتمون به في الملمات، ويتقون به في النكبات وينتصرون به في المعارك والمواجهات.
وكان سكان فاس أكثر إحساساً بالضيم والكرب من غيرهم، ففاس هي عاصمة المغرب الروحية والثقافية والاقتصادية، وهي مقام ملوك المغرب، ومستقر ومقصد علمائه وصلحائه، ومنارة إشعاعه ومستودع عبقريته وإبداعه، وبها قبر مؤسسها وبانيها المولى إدريس الأزهر، وسيفه لايزال معلقاً بصومعة القرويين شاهداً على رسالة المغرب في الجهاد والنجاد، هاهي فاس تداس هيبتها وتستباح عزتها ويصول بها ويجول جنود الاستعمار وجواسيسه، وتقض مضاجعها كوابسه وأباليسه.
بداية الانهيار
في سنة 1920 كان المشهد المغربي يشبه لوحة سريالية فاقع لونها لاتسر الناظرين، ذلك ان عقد الحماية البغيضة إذا كان قد أضفى على الوجود الاستعماري صفة الواقع العسكري والسياسي والإداري المكشوف، وأصبح المغاربة لأول مرة محكومين بسلطة أجنبية غريبة، فإن ماتم إقراره وتثبيته بمقتضى عقد الحماية إنما كان تكريساً لمصير لا سبيل الى رده أو منع حدوثه.
أولاً: لأن الاستعمار كان كالبحر العاتية أمواجه، اندفعت في جميع الاتجاهات شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، مركزه دول الغرب الباحثة عن أسواق لثرواتها الصناعية والتجارية توسيعاً لدائرة الثراء، وعن مجالات لتصريف وتجريب ثورتها العلمية والتكنولوجية إثباتاً لهيمنتها وسطوتها.
ثانياً: لقد استعصى المغرب على جبروت الغرب وقوته، لذلك لجأ الغرب الى خوض معارك استنزاف وحصار ضده على مدى أكثر من خمسين سنة قبل أن يتمكن من فرض عقد الحماية وإحكام سيطرته على آخر معقل قاومه بجميع وسائل المقاومة، واتخذت تلك المعارك أشكالاً وألواناً من المؤامرات والدسائس، حتى إن المغرب وحده، دون سائر البلدان التي خضعت للاستعمار هو الذي أجبر الدول الاستعمارية الغربية على خوض الحرب ضده كجبهة واحدة لإخضاعه قبل أن يتم توزيع الغنائم على أعضاء تلك الجبهة.
كانت الهيبة التي أحاطت بالمغرب دولة وعرشاً وشعباً وتاريخه الحافل بالأمجاد والانتصارات تشكل حاجزاً سميكاً من التخوف لدى دول الغرب، التخوف من الإقدام على اكتساح المغرب دفعة واحدة، والتوغل في عرائنه المنيعة، فمعركة وادي المخازن 2 تطل منذرة بالعواقب الوخيمة لأية مغامرة تزهو بالقوة العسكرية عدداً وعدة سبيلاً الى الانتصار على أحفاد الأشاوس والأبطال والمجاهدين، ولذلك لجأت دول الغرب الى سياسة التسرب والاحتواء والإنهاك والحصار بجميع أشكالها، ومن خلال ذلك التعرف على مكامن الضعف في هذه القلعة المغربية الشامخة المهيبة استعداداً لفتح أبوابها أمام جحافل الجيوش والمعمرين والمبشرين والسماسرة.
ثالثاً: لقد استطاعت سياسة التسرب والاحتواء والإنهاك والحصار تحقيق الأهداف المرسومة لها، ويتجلى ذلك أكثر ما يتجلى في الاستنزاف الذي مارسته الدول الغربية لمالية الدولة المغربية ومصادرها منذ حرب تطوان سنة 1860، وأدى الى إضعاف قدرتها ووسائلها في القيام بما كانت تقوم به من مهام، وانعكس ذلك، وهذا هو الهدف الأساسي من الاستنزاف، الى إضعاف الجيش المغربي عدداً وعدة ومعنويات، وبالتالي الى انفراط عقد الانصياع والانضباط وتنامي حالة التذمر في أوساط الشعب، وتفشي وباء الرشوة والاحتكار واتساع دائرة المنتفعين من ذوي النفوس الجشعة.
وكنتيجة لكل ذلك، فإن السنوات الأولى من عهد الحماية كانت سنوات الاندفاع الاستعماري على جميع الواجهات الادارية والسياسية والعسكرية والقانونية وغيرها لتثبيت الأمر الواقع، وتمهيد الطريق للقضاء على معاقل المقاومة ورموزها العادية والمعنوية، وتوجيه الضربات القاضية لكل ما يذكر المغاربة بماضيهم وأمجادهم وشخصيتهم على غرار ماتم تنفيذه في الجزائر، وكانت مدينة فاس في مقدمة الأهداف المرسومة لهذه السياسة.
رابعاً: كان الجيل المؤهل للمقاومة والقادر عليها قد أصابه الإنهاك وعصفت بعواطفه ومعنوياته النكسات، وأعني بالجيل تلك الطليعة أو النخبة من الرجال الذين تؤهلهم الأقدار ويحملهم المجتمع مسؤولية توعيته وإرشاده والدفاع عن حقوقه ومصالحه، ويمنحهم ثقته، ويعتبرهم بتكوينهم واستقامتهم ووطنيتهم حماة قيمه ومقدساته، ان هذا الجيل الذي يمثل كل هذا في مغرب العشرينات من هذا القرن تحمل ما لا طاقة له به، وواجه أكبر وأشرس حملة استعمارية صليبية منذ سقوط الأندلس استهدفت المغرب لاحتلاله وتقويض كيانه والاستيلاء على ثرواته وتكسير شوكة مقاومته. ولقد حاول هذا الجيل انقاذ ما يمكن انقاذه فتعثرت محاولاته، وقاوم ملوكه من المولى الحسن الأول الى المولى عبدالعزيز الى المولى عبدالحفيظ على مدى أربعة عقود لصد الغزوات الاستعمارية الشرسة التي نجحت في اختراق البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للشعب المغربي، ففككت ولو الى حين أواصر ذلك التلاحم الذي شكل عبر العصور ذراع الصمود أمام التحديات والمؤامرات، نعم إن جذوة الحماس والمشاعر الملتهبة ظلت متأججة في صدور المغاربة دفاعاً عن الأرض والكرامة والاستقلال والحرية، ولكن تلك الجذوة لم تكن وحدها كافية لمواجهة تلك الغزوة ومقاومة الغزاة "الكفرة" الذين داسوا بأقدامهم أرض المغرب الطاهرة، فالتحدي كان أكبر من ذلك هذه المرة، والذين كان باستطاعتهم إدراك أبعاد ذلك التحدي هم النخبة الواعية أي ذلك الجيل الذي استسلم للقدر المحتوم قبل أن يتسلم الشعلة منه جيل جديد.
فاس المعزولة
كان العلماء هم ضمير الأمة ولسانها الناطق بمشاعرها سواء في المدن أو في البوادي، هذا بالاضافة الى الشرفاء وعمداء الأسر والقبائل، هم أصحاب الرأي والمشورة في أمور الناس الدينية والدنيوية، وهم عماد الدولة وخدام العرش والمؤتمنون على حماية ورعاية مقدسات الوطن والأمة انطلاقاً من البيعة والتزاماً بمواثيقها ومسؤوليتها ولاءً والتفافاً حول الملك الرمز الجامع لكل ذلك.
في العشرينات كان الجيل الذي يمثل هذه الشريحة الحية من المجتمع المغربي قد وصل مرحلة العجز عن فعل أي شيء في مقابل الاكتساح الاستعماري، بعضه استسلم لليأس، وبعضه توارى عن أنظار الناس واعتكفوا في بيوتهم، والبعض الآخر تعلقت أوهامهم بالغيبيات فطفقوا يستنجدون بسحرها وقوتها الموهومة لطرد المعتدي الغاصب وقهره وتخليص البلاد والعباد منه، وحينما تسود حالة من العجز كهذه في المجتمع يفتح المجال لبروز ذوي النفوس الضعيفة من المنتفعين والضالين والمشعوذين، فتنعزل فصيلتهم من جسم المجتمع ويحتمون بسلطة البغي والطغيان، ويشكلون طابور الإفساد وتفرقة للصفوف وبث البلبلة وإضعاف الهمم مما يعمق من الشعور بالعجز والعزلة والاستسلام.
خامساً: ومما زاد من تعميق مشاعر العجز والعزلة في صفوف هذا الجيل ذلك الحصار المحكم الذي ضربته السلطات الاستعمارية حول مدينة فاس، العاصمة التاريخية والروحية والسياسية والجهادية للمغرب، وكانت قمة هذا الحصار وبدايته هو نقل العاصمة الى مدينة الرباط.
كان يمكن توقع أن يتم تنفيذ قرار نقل العاصمة من فاس الى الرباط الى حين أن تستتب الأمور للاستعمار بعد توقيع عقد الحماية، وفي اطار السياسة التي كان يريد من ورائها خلق جو من التهدئة المصطنعة وتلافي كل ما من شأنه أن يؤجج مشاعر الغضب الشعبي، واستغلال حالة الذهول التي هيمنت على أفكار الناس وعواطفهم، ولكن أحداث فاس الدامية التي انفجرت أياماً بعد توقيع الحماية عجلت باتخاذ القرار وتنفيذه!
- ففي يوم 30 آذار مارس 1912 وقع المولى عبدالحفيظ عقد الحماية.
- وفي يوم 17 نيسان ابريل 1912، وعلى مدى ثلاثة أيام اندلعت أحداث فاس الدامية التي انطلقت شرارتها من تمرد أفراد الجيش المخزني على ضباط وجنود جيش الاحتلال الفرنسي، ثم امتدت لتعم سائر أرجاء المدينة فيما يشبه ثورة شعبية عارمة شارك فيها الرجال والنساء والأطفال ضد قوات الاحتلال وسقط فيها العشرات من ضباطها وجنودها، وكانت أياماً عصيبة استخلصت منها السلطات الاستعمارية ما كان عليها أن تستخلصه من نتائج وعبر، لقد أذهلتها هذه الأحداث وتيقنت أن بقاءها في هذه المدينة كعاصمة تدير منها سياستها ويستقر بها حكامها محفوف بالمخاطر، كذلك فإن بقاء الملك بها سيقوي روح المقاومة لدى سكانها الذين سيهبون لنصرته وحمايته وانقاذه من بطش الاستعمار ومؤامراته وتهديداته وتخاذل وتواطؤ بعض المحيطين به، فقد كان هناك شعور قوي راسخ عند سكان المدينة وعند المغاربة جميعاً أن مولاي حفيظ الملك المصلح سليل أسرة الجهاد والصلاح لايمكن أن يكون قد وقع على عقد الحماية المهين إلا تحت التهديد، وانه بتوقيعه لم يستسلم وانما كان أمله العميق ورجاؤه الوثيق أن يهب الشعب كله للانتفاضة والثورة وحمل السلاح لإحراق ذلك العقد وإبطاله والدفاع عن حرية الوطن واستقلاله، والذود عن حماه، وكان سكان فاس يتداولون فيما بينهم قصة تلك الأيام والساعات العصيبة التي سبقت توقيع المولى عبدالحفيظ على عقد الحماية، هذا العقد الذي لم يهتم أحد لا بتفاصيله ولا بحيثياته، ولكنهم كانوا متأكدين أنه خزي ومذلة وهوان وطعنة نجلاء موجهة الى الإسلام والمسلمين في هذه البلاد من طرف "الكفرة" الحاقدين، لم تكن تلك القصة المتداولة كلها من نسج الخيال، فقد ثبت فيما بعد أن الكثير من تفاصيلها كان صحيحاً، وان أحاسيس ومشاعر المواطنين كانت تعبر عن إيمانهم العميق بأن السلطان مولاي حفيظ وهو الملك العالم الصالح صارع وقاوم الى آخر نفس تتحمله إرادة مصارع ومقاوم ليدرأ عن شعبه ووطنه هذه الكارثة التي حملها الوزير الفرنسي المسيو رونيول في تشكل وثيقة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، وكان سكان فاس يقولون لبعضهم البعض وان السلطان مولاي حفيظ كان قد عزم على الالتحاق بالجبال والتحصن بها وبأبنائها وإعلان الجهاد على المستعمرين، وكانوا يتداولون أيضاً ان السلطان أوعز الى الجيش المخزني بالتمرد على الجيش الفرنسي الذي أحاط بقصره من كل جانب.
أيام فاس الدامية
وهكذا خشي الاستعمار أن تكون أيام فاس الدامية بداية ثورة شعبية عارمة من هذه المدينة التي كانت مربط الجهاد والمجاهدين، فبادر الى اتخاذ قرار الهروب من فاس الى الرباط، وافراغ القصر من الملك الذي هو رمز الوحدة والسيادة لمحاصرة المدينة الثائرة وعزلها، وليكون قريباً من البحر ومن القواعد المأمونة التي أقامها في مدينة الدار البيضاء واتخذ منها مستعمرة لجاليته ومركزاً مأمونا لخطط الإمداد والاتصال والنجدة بعيداً عن أعماق المغرب المتربص به. وفيما كان سكان فاس يضمدون جراح الأيام الدامية، وما هي إلا شهور، وبالضبط يوم 12 آب غشت 1912 حتى أعلن عن تنازل المولى عبدالحفيظ عن العرش لصالح مولاي يوسف وانتقال العاصمة بصفة رسمية الى الرباط.
ساد المغرب بعد ذلك صمت رهيب وخيم على مدينة فاس حزن كئيب، فها هو القصر الملكي مغلق الأبواب يحيط به جنود شاهرون بنادقهم مصوبون فوهاتها الى المارة الذين يتطلعون من بعيد بعيون دامية وقلوب مكلومة الى القصر الذي كان الى عهد قريب يعج بالداخلين اليه من رجال المخزن وأهل الحل والعقد والعلماء والوفود الآتية من جميع الأنحاء، ومنه ينطلق كل جمعة موكب أمير المؤمنين في محفل مهيب لأداء صلاة الجمعة وصلاتي العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى، فهذا القصر هو مهوى القلوب والعواطف، ومستقر ملوك المغرب المجاهدين، انه القلب الذي نبض به صدر هذه المدينة على مر العصور حتى في الفترات التي انتقلت فيه العاصمة منها الى مراكش أو مكناس، فقد ظلت فاس العاصمة الروحية للمغرب والمغاربة في كل العهود، وكثير ممن كانوا مرتبطين بالقصر الملكي بحكم وظائفهم أو بحكم مكانتهم من دار "المخزن"، أصبحوا بعد اغلاقه وإفراغه أشبه مايكونون باليتامى لأنهم لم يلتحقوا لأسباب مختلفة بالعاصمة الجديدة، وظلوا في المدينة حراساً على ذكرياتها المجيدة، يروونها لأبنائهم وأصدقائهم بنبرات الحزن وعبرات الحسرة!
وكان حظ عائلتي من هذا الحزن كبيراً ذلك أن صلة عائلتي بالقصر الملكي والملوك لم تنقطع منذ أن قدم الى مدينة فاس الجد المؤسس للعائلة السورية في المغرب محمد بن محمد أبو القاسم المري بن سودة على عهد السلطان المريني العظيم أبو عنان المريني، وخدم الكثير من علماء العائلة ورجالاتها في رحاب القصر، مقربين من الملوك، يحظون بثقتهم واعتبارهم وتوقيرهم، لذلك كان حديث والدي وعمي عن القصر الملكي وعن أمجاده وملوكه مشوباً بألم وحسرة، وكنت في السنوات الأولى من طفولتي أحس بذلك الحزن ولا أدري كنهه، ولكني كنت أشعر أن شيئاً عزيزاً غالياً قد افتقدته عائلتي، وأدركت فيما بعد أن ذلك الشيء العزيز الغالي كان أكبر من أن يعوض أو يُنسى، إنه الأمن الروحي الذي كانت تحتمي به المدينة وسكانها بوجود القصر وساكنه في رحابها ورحابهم، وإنه الاعتبار الذي كان يحظى به علماء المدينة وجالاتها أينما حلوا وارتحلوا، فهم عماد المُلك وحاشية الملك يشاورهم في كل أمر، ويدعوهم الى مجالسه العلمية ويعهد اليهم بالسهر على تربية المواطنين وتوجيههم وارشادهم وانفاذ شرع الله بينهم.
ثم ان نقل العاصمة من فاس الى الرباط وجه ضربة نافذة للرواج التجاري الذي كانت تعرفه المدينة بتوارد الوفود والزوار عليها من جميع الأنحاء، وتضرر من جراء ذلك التجار في القيساريات والأسواق، وكذا الصناع وأصحاب المهن، وهؤلاء كانوا عماد الحياة الاقتصادية والتجارية للمدينة، ويشكلون الشريحة الأساسية من سكانها، وكان هذا الهدف جزءاً من المخطط الاستعماري لحصار المدينة وقطع شرايين الحياة عنها وفصلها عن المحيط البشري والاقتصادي والتجاري الذي تعيش في أجوائه أخذاً وعطاء، إنتاجاً ومبادلات، وفي اطار هذا المخطط مارس الاستعمار كل أنواع الضغط والترهيب للحد من تدفق سكان المدن والبوادي المجاورة على مدينة فاس سواء للزيارة أو لتصريف المنتوج الفلاحي وغيره في المدينة، إمعاناً في خنقها، وكل ذلك أدى الى نتائج اجتماعية واقتصادية وتجارية وخيمة عانى منها سكان فاس بصبر وجلد وصمود واثقين ان الفرج لا بد آت، وان المعاناة هي الفرن الذي يصقل في لهيبه حديد الإرادة، وتحترق في وهجه النفايات وتمتحن أمام فورته الوجوه الصالحة من الوجوه الكالحة.
أين المجاهدون.. أين الفرسان؟
كانت فاس في العشرينات تحت وطأة تلك المعاناة تبحث عن نفسها، وتتطلع عيون سكانها الى ما تخبئه الأقدار لحياتهم ومصير وطنهم، ويصيخون بأسماعهم الى كل حركة تحملها الرياح من خارج أسوار مدينتهم، والى كل خلجة في وجوه هؤلاء الغرباء الذين يجوسون على غير هدى أزقتهم ودروبهم، ويتطلعون بمشاعر الاستنجاد العميقة في نفوسهم الى ملامح الرجال الذين يتوسمون في مكانتهم ورفعة قدرهم ورجاحة علمهم النخوة والشهامة لقيادتهم وحثهم على الثورة ضد الظلم والاستعباد، وهم يتسقطون الأخبار من الزوار الواردين من الجبال والنواحي البعيدة عساهم يسمعون ما يثلج صدرهم ويضيء بصيصاً من الأمل فيها، ويتساءلون في كمد: أين المجاهدون الأباة الذين سمعنا وقرأنا عن بطولاتهم وانتصاراتهم في الجبال والوهاد والبوادي والثغور؟ ألم ينجبوا أبطالاً مثلهم يطهرون الوطن من البغاة الكفرة؟ أين رجال زيان وأزمور؟ وآيت سغروشن، والتسول، وأبناء الأطلس وسوس والريف؟ ترى ماذا حل بهم فسكتوا؟ 3
وتغص حلوق الرجال بمرارة هذه التساؤلات، فيتوجهون الى ضريح المولى إدريس يبثون ساكنه أحزانهم، ويتضرعون الى الله أن يفرج الكربة عنهم، ولايجدون سبيلاً لإطفاء نار غلهم وحقدهم الكامن على "الكفرة" المستعمرين غير الدعاء أن يمحقهم الله، ثم إذا مر واحد من أولئك الكفرة بجانبهم تنكبوه ورموه بشظايا نظراتهم، وبصقوا في الأرض احتقاراً وازدراء!
وأذكر، وأنا في السنوات الأولى لطفولتي، ان والدي بعد عودته من المسجد لصلاة العشاء، كان يحكم اغلاق باب منزلنا بمزلاجه الحديد الغليظ، ونفس الشيء كان يفعله سكان حينا، ولم يكن ذلك بسبب الخوف من لصوص الليل، بل بسبب الاحتراز من الجنود والعسس الذين يجوبون أحياء المدينة، الاحتراز من حملة انتقامية يقومون بها في جنح الظلام لما لحق ضباط وجنوب الاستعمار من سكان فاس في تلك الأيام الثلاثة الدامية، فقد كان الشعور السائد لدى أهل فاس أن الاستعماريين لن يغفروا لهم ما ألحقوه بجنوده من هلاك ومهانة.
كما أذكر، حينما التحقت لأول مرة بالكتَّاب القريب من بيتنا، النصائح التي لم يفتأ والدي وكذا والدتي عن الإفضاء بها إلي بأن أتجنب الاقتراب من الجنود وخاصة من كانوا يطلقون عليهم وصف "الكثوم" وهم السنغاليون المجندون في الجيش الفرنسي، وعدم النظر الى وجوههم أو التحرش بهم واصفين اياهم بالكفرة والقتلة وأعداء الإسلام والمسلمين.
كان الحزن المهيمن على بيتنا وحيِّنا وعلى المدينة كلها، والذكريات المريرة التي أسمعها، وحالة الترقب والتوقع والقلق هي الأجواء التي فتحت عيني عليها والأصداء التي انسكبت في أذنيّ واخترقتهما الى آخر حاسة في سمعي، والوخزات التي نفذت كالسمام من الجلد الى اللحم الى العظم وأنا في غضاضة الطفولة.
ثورة الريف العظيمة
وفي سنة 1912 اندلعت ثورة الريف العظيمة بقيادة البطل محمد بن عبدالكريم الخطابي و كانت هذه الثورة أول انتفاضة شعبية مسلحة ومخططة ضد الاستعمار الاسباني والفرنسي بعد تسع سنوات من عقد الحماية، كانت هناك انتفاضات شعبية أخرى في أماكن وجهات متفرقة من المغرب، ولكنها لم تكن في حجم وقوة وعنفوان الثورة الريفية التي تحولت بسرعة الى حرب حقيقية خاضها المجاهدون الريفيون ضد الجيش الاسباني أولاً، ثم بتحالف الجيش الفرنسي معه في المراحل الأخيرة لتلك الثورة.
كان الشعب المغربي كله يتطلع بشوق ولهفة وأمل الى الثورة الريفية ورجالها الأشاوس، فقد أعادت هذه الثورة الثقة الى النفوس وشحذت نصال العزيمة في قلوب المغاربة.
كان للثورة دوي هائل في جميع أنحاء المغرب، وسأقصر حديثي عن أصدائه القوية في مدينة فاس، تلك الأصداء التي كان لها الرجع العميق في نفسي وفي الوعي الفتي لطفولتي، فهذه الثورة كانت مندلعة في منطقة ليست بعيدة جغرافياً عن مدينة فاس، بل انها في مرحلة من مراحل اكتساحها وانتصاراتها اجتازت الحواجز التي تشكلها الجبال الوعرة، وطرقت أبواب مدينة تازة وأشرفت على مداخل مدينة فاس، ثم ان الوشائج الروحية كانت قوية ومتينة بين عاصمة المولى إدريس الأزهر ومدن وقبائل الريف، وهي وشائج ترجع الى بداية قيام الدولة الإدريسية حيث كان أحد أبناء المولى إدريس على رأس الإمارة بتلك المنطقة، وتزوج هناك وأنجب ذرية تفرعت عنها مئات الأسر الشريفة من أهل الريف، كما ان العلاقات العلمية ظلت قائمة ومستمرة عبر جامع القرويين الذي كان قبلة طلاب العلم من أبناء الريف عبر الحقب، وكان المجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي واحداً من أولئك الطلاب الذين ارتادوا القرويين حيث التحق بالجامع العتيد سنة 1905 وعمره آنذاك 13 سنة وسكن بإحدى حجرات مدرسة الشراطين الى جانب عدد كبير من الطلبة الواردين من مختلف أنحاء المغرب وظل الطالب محمد بن عبدالكريم الخطابي أربع سنوات بمدينة فاس من سنة 1905 الى 1909 متنقلاً بين حلقات الدروس في القرويين ومدرسة الشراطين وأحياء مدينة فاس، وكان، كما شهد بذلك من عرفوه وجالسوه وسامروه، سريع البديهة، طيب المعشر، لطيف النكتة مما يضفي على المسامرة معه بهجة وسروراً في نفوس محدثيه.
ويروي المرحوم الحاج أحمد البوعياشي في مؤلفه القيم "حرب الريف التحررية ومراحل النضال" هذه الحادثة عن والد الخطابي فيقول: "ومع ما كان أبوه متميزاً به من احترام المجلس العائلي الذي يرأسه بحكم مركزه الأبوي فيه، فإنه رحل الى فاس حيث كان ولده يستكمل دراسته مابين سنة 1905 - 1909 لعقد أحد المجالس العائلية في إحدى حجرات مدرسة الشراطين التي كان يسكنها الابن، وقد تمخض هذا الاجتماع عن دراسة الاتفاق الفرنسي الاسباني حول الشمال 1904 إذ وضعت فيه الخرائط الأولية لحدود الشطرين التي كانت آنذاك حدوداً وهمية".
وهكذا فإن الفتى محمد بن عبدالكريم الخطابي بدأ يتلقى الدروس الأولية في الوطنية والكفاح في مدرسة الشراطين على يد والده وفي جامع القرويين الى جانب رفقائه وشيوخه، وفي الحلقات التي تنتظم بلا انقطاع في صحون الجامع العتيد منذ الفجر الى ما بعد صلاة العشاء وتضم جميع فئات المواطنين من مختلف الأعمار يتقاطرون فرادى وجماعات لأداء الفرائض، والجلوس في محاذاة الصفوف الأخيرة لحلقات الطلاب للاستماع والاستفادة من الدروس التي تلقى عليهم، وكذا الاستماع الى المحاضرات العامة التي يتناوب عليها علماء مرموقون بعد صلاة العصر، كما ان صحن القرويين وخاصة في فصلي الربيع أو الصيف يشهد حلقات لاتنقطع يتبادل فيها الناس الأحاديث حول شؤون مختلفة من حياتهم. في هذا الجو كانت القرويين بؤرة الأفكار ومجمعاً شعبياً أشبه ما يكون ببرلمان مفتوح تلتقي فيه جميع الاتجاهات والتوجهات للشعب المغربي من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه، يمثلها الطلاب الآتون من هذه النواحي، وكانت الأوضاع التي يمر بها المغرب آنذاك في بداية هذا القرن، والمؤامرات المعلنة والخفية التي تحاك ضد سيادته وحريته واستقلاله تشغل بال الجميع.
لكل ذلك، وعندما اندلعت ثورة الريف، وعلم الناس بقائدها محمد بن عبدالكريم الخطابي، تذكره رفاقه وشيوخه في القرويين، وكل الذين تعرفوا عليه سواء في مدرسة الشراطين أو في الأماكن والبيوت التي كان يتردد عليها، فكانت فاس تشعر أن هذه الثورة ثورتهم، نابعة منهم، ومعبرة عن مشاعرهم، ومحققة للأحلام التي كانت تراودهم، فعبروا عن تضامنهم معها من منطلق وطني أولاً، ومن منطلق ذاتي ثانياً، باعتبار المدة التي قضاها الزعيم الريفي في كنفهم، وطفق الذين عرفوه يسترجعون الذكريات معه، ويصفون هبأته وملامحه للذين لايعرفونه ويرسمون صورة البطل في مخيلة الأطفال، متلهفين على تتبع أخبار الثورة الريفية وانتصاراتها وبطولات رجالها الأشاوس، ولم يكن ذلك متيسراً عن طريق وسال الإعلام التي كانت محدودة أولاً، وبسبب الحصار المفروض على ماهو موجود منها من طرف الاستعمار ثانياً، وهو الحصار الذي طال كذلك قوافل التجار الزائرين الذين كانوا يقصدون مدينة فاس من المناطق الريفية والمدن والقرى المتاخمة لها، والذين كان بوسعهم لو بقيت فاس مفتوحة لهم أن يحملوا الأخبار ويشفوا غليل سكان العاصمة الإدريسية لمعرفة أخبار الثورة الريفية وما كانت تلحقه بالعدو من هزائم وضربات موجعة.
وشاعت في فاس أخبار تقول ان المجاهدين الريفيين قد زحفوا على مدينة تازة وانهم في طريقهم الى مدينة فاس، بل ان البعض ذهب الى القول بسماع أصوات المدافع والقذائف تتردد أصداؤها في سكينة الليل ومصدرها التلال التي تفصل المدينة عن تازة، وهكذا بدأت أفواج من الرجال تتسلل خارج الأسوار تصيخ بأسماعها الى كل نأمة أو حركة تحملها الرياح من الناحية الشرقية للمدينة في اتجاه مدينة تازة وتعود لتروي ما تظن انها بالفعل أصوات مدافع وان المعارك لاشك تدور في التلال بين المجاهدين والجيوش الاستعمارية، وتكتظ المساجد بالمصلين متمتمين في صمت بالدعاء أن ينصرالله المجاهدين ويقطع دابر الكافرين المحتلين، وغمر الأمل قلوب أهل فاس، واعتقدوا أن يوم الخلاص آت لاريب فيه، وان محمد بن عبدالكريم الخطابي سيدخل فاس بطلاً مظفراً بعد أن دخلها طالباً وعاش في جنباتها ورأى الحزن الذي كان يخيم على صدور سكانها.
لم يكن عمري يسمح بإدراك ما كانت تمور به تلك الأيام من أحداث، وما كانت تعتمل به صدور الناس من هموم ومشاعر الإحباط والانكسار، ولكنني بعد ذلك سمعت الكثير عن سنوات الثورة الريفية وما كان لها من صدى واسع في مدينة فاس، بل انني علمت بزهو واعتزاز ان هذا البطل حينما تكالبت عليه قوى الشر وأحاطت به المؤامرات من كل جانب ووضع الصلاح وهو شامخ الرأس، وانه حينما قرر الاستعماريون نفيه سألوه: أين يريد المقام في مدينة فاس مدة من الزمن ريثما يتقرر المكان الذي سينفى اليه خارج وطنه، اختار بيتاً من بيوت عائلتي مقراً لإقامته الجبرية في مدينة فاس، إنه بيت أحد أعمامي ممن رافق الزعيم الخطابي في الدراسة، وكان هذا مبعث اعتزاز لكل أفراد آل بن سودة رجالاً ونساء وأطفالاً، لقد اختار بطل الثورة الريفية ذلك البيت تقديراً للبيت السوري ورجاله وعلمائه الذين تبوؤا واحداً بعد الآخر صدارة مجالس العلم تدريساً ووعظاً وتأليفاً وخطابة في المساجد الكبرى، ومنزلة رفيعة في القضاء.
وإن ما كنت أسمعه من والدي وأعمامي عن ثورة بن عبدالكريم الخطابي والهزة التي أثارتها في النفوس فرحاً بانتصاراتها، وألماً وحسرة لانكسارها، ومقامه في بيت أحد أعمامي كان بمثابة بذرة انغرست عميقاً في تربة وعيي وادراكي، وجذوة أوقدت شعلة الحماسة والوطنية في صدري، فكنت أتخيل محمد بن عبدالكريم الخطابي وهو في منفاه البعيد السحيق يتطلع الى ما سوف نقوم به لاستكمال مسيرته، ولتحريره من الأسر، وللانتقام مما حل به ليعود مرة أخرى الى مدينة فاس ويدخلها معززاً مكرماً فيجدد اللقاء بأهلها وعلمائها وبجامعها القرويين فيستكمل بها دروسه، ولعله يقيم بمدينة فاس بصفة دائمة إذ برز علمه وسطع نجمه، فقد كان أهل الريف يعتبرون فاساً عاصمة الريف، فلهم معها وشائج متينة من القربى ترجع الى عهود غابرة.
كانت الانتكاسة التي حلت بثورة الريف ورجالها عميقة الأثر في نفوس سكان فاس، فتضاعفت حسرتهم وانكفأوا مرة أخرى الى حزنهم العميق، وأذكر أن جدي من والدي جمع بناته وأدخلهن كهفاً مظلماً في بيته حرزاً لهن من أن يرى الكفرة الأعداء وجوههن، ويكشفوا عن عوراتهن، وعكف مع بناته في بيته لم يبارحه الى أن لقي ربه، وكان يحكي لزواره أنه يرى بالمنام رجالاً دهنت وجوههم بالزعفران، وانهم سوف يخلصون البلاد من رجس الكفار المستعمرين!
وكان جدي من أبي هذا قاضياً في مدينة طنجة على عهد الملك مولاي حفيظ، وعاد الى فاس في أواخر عهد هذا الملك، وعاش سنوات بعد توقيع الحماية، وكان يشكو من مرض حار الأطباء والعارفون في إدراك سببه أو علاجه، فاعتراه السقم والضعف وعزف عن الأكل، وذات يوم جمع أحد أصدقاء العائلة أولاده بعد أن تفقد حال والدهم وقال لهم: أبوكم مريض بالحماية، ولن يشفى من مرضه إلا بذهابها. ،حكى لي والدي أنه في يوم من أواخر شعبان استدعاه وقال له: اعصرني حتى لايجد الغاسل بجسمي قطرة ماء أو بقية في أمعائي من أكل ففعل ما أمره به، ثم قال له اقرأ معي، وجعل يقرأ آية من القرآن الى أن وصل الى قوله تعالى: "وسارعوا الى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين" فصمت قليلاً وتشهد وأسلم الروح. وكان والدي يقول لي: جدك مات وفي قلبه غم وهم مما لحق بالمغرب من هوان، لقد أنفق أمواله كلها في مدينة طنجة على الحجاج والمحتاجين واليتامى، ثم عاد الى فاس خاوي الوفاض، وكان يوصيني بعد التقوى والخوف من الله أن أعزف عن التزين والزينة لي ولعائلتي، وأن نترك كل شيء على حاله، فلا ندخل إصلاحاً على بيتنا أو نجدد صباغة حيطانه، وكان ختم كل صلاة يدعو بصوت خاشع "اللهم انصر سلطاننا وامنا في ديننا واهزم عدونا ووحد صفنا". وبينما كانت نكسة الحزن منشاراً يقطع نياط القلوب بما حل بالوطن، وما أحاق برجاله الذين هبوا لنصرته وتحريره، إذا بخبر فاجع آخر يأتي من خارج الوطن، إنه انهيار الخلافة العثمانية وسقوط آخر حصن من حصون وجود الدولة الإسلامية.
لقد كان لسقوط الخلافة العثمانية دوي عميق في نفوس المغاربة. وكان ذلك السقوط في نظرهم وتقديرهم حلقة في مسلسل تقويض دعائم الوجود الإسلامي شرقاً وغرباً، وإعلان ميلاد عصر آخر تتوارى فيه دولة الإسلام وأمجاد المسلمين خلف حجاب سميك من النسيان. وهكذا فتح الطفل أحمد بن سودة عينيه ومداركه الطفولية على جملة من الأحداث الكفيلة بزرع اليأس والعجز. فعقد العشرينات كان عقد الأحزان... والإنهيار.
* تنشر المذكرات بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية على حلقات، اربع مرات في الاسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس والسبت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.