عندما اجتاحت القوات الإسرائيلية مدينة رفح الفلسطينية قبل بضعة أشهر في عملية الإبادة التي سمتها "قوس قزح"، كان المصور الصحافي الفلسطيني عبدالسلام شحاده في زيارة إلى مدينته التي كثيراً ما يأخذه عمله بعيداً منها. وقتها، اختمرت الفكرة التي أعد لها طوال سنوات في رأسه. فخرج فيلمه الوثائقي "قوس قزح" ليروي ما حدث في رفح بعين مختلفة، بعيدة من السياسة، وملاصقة للمعاناة اليومية للإنسان الفلسطيني. أكثر ما آلمه في ما حدث، كان قوس البهجة السباعي الألوان الذي خضبته إسرائيل باللون القاني للدماء. والقبح الذي خلفه جنود الاحتلال، دفعه إلى الغوص في التجارب الإنسانية لقاطني مدينته، ليقدم الفلسطيني الذي يشبهك كثيراً. رجل له أسرة وبيت وعمل وهموم يومية... أحلام وطموحات، متجاوزاً ذلك الملثم الذي يطلق صيحات الغضب على شاشات التلفزة ليل نهار. لكن الصورة غير النمطية التي يقدمها شحاده ليست أهم ما يميز فيلمه، فالفكرة لم تكن وليدة اللحظة. والمادة التلفزيونية التي جمعها طوال ثلاث سنوات من معايشته الهم اليومي لقاطني رفح، تعطي عمقاً زمنياً لشخوص فيلمه وتورثك إحساساً بالملاصقة والقرب لحيواتها. تستشعر آلام الشاب رائد الذي تشاهده خلال احتفاله مع زوجته وولديه بعيد ميلاد ابنته، ثم يفاجئك بين ركام منزله باكياً باحثاً عن بقايا تحمل شيئاً منهم بعدما فقدهم في قوس القزح الإسرائيلي. وفي مقابل آلام رائد تطالعك فرحة طفل صغير بعصافيره التي نجت من القصف حين طارت هاربة من القفص ونالت حرية مستعصية على أبناء وطنه. وحيرة بائع الورود في رفح الذي فتح ثلاجته الإيواء الجثث التي فاضت بها المستشفيات والمراكز الطبية في المدينة. وأوجاع مدرّس شحاده في الطفولة، وهو يبحث عما تبقى من منزله. هذه الحيوات الثرية وغيرها ليست هي المحور الرئيس للفيلم، إذ يقدم شحاده عالمه وعالم صديقه الفنان التشكيلي إبراهيم المزين على امتداد الفيلم الذي تتخلله الحكايات السابقة للبشر الذين عايشهم منذ انطلقت الشرارة الأولى للفكرة مع اندلاع الانتفاضة الثانية. وهو رأى في قوس القزح الإسرائيلي "لحظة مواتية لإطلاق الفكرة" بعدما وصل المحتل إلى "سقف القبح والاستبداد". يعرض شحاده تجربته الذاتية وصديقه، معاناتهما مع الاحتلال، ورحلة العذاب للوصول إلى رفح... والأهم من هذا وذاك، تلك العلاقة الملتبسة بالمدينة التي احتضنته بعدما أجبرت عائلته على مغادرة بلدتها الأم: "بربرة" العام 1948 والتي لا يعرف عنها سوى الإسم والموقع، وبعض من الحكايات الضبابية لأمه وأبيه الغائب/ الحاضر في وجدانه دائماً. والصديق التشكيلي الذي توسل فنه للمقاومة، ووضع الأطفال في أكياس على شاطئ البحر. فالامتداد الأزرق اللامتناهي الذي يرمز إلى الحرية لدى الآخرين، "لا يعدو كونه أحد جدران السجن الذي صنعته قوات الاحتلال لدى الفلسطيني. وملابس الزوجة التي تناثرت وسط الحطام تعني الكثير لدى ذلك الفلسطيني الذي انتهك الاحتلال أبسط خصوصياته". تجربة "قوس قزح" حية وحميمية وصادقة تنقلك من الفضاءات الخاصة لشخوصها إلى الفضاء المكاني المشترك... رفح التي غيبت إسرائيل قوس القزح من سمائها. والفيلم هو السابع لشحاده الذي عمل مصوراً صحافياً في إحدى محطات التلفزة الأجنبية، ويتولى حالياً مسؤولية الإنتاج في وكالة "رامتان" الفلسطينية الإخبارية المتلفزة التي انتجت أفلامه. وجاء من رفح إلى القاهرة حاملاً فيلمه ومنها إلى طنجة حيث يكرمه أحد مهرجاناتها عن فيلمه السابق "ردم" الذي تناول بعداً آخر للمأساة الفلسطينية اليومية التي كرس مشروعه الفني لتقديمها الى العالم بعين مختلفة.