في العام 1971، كان فيم فندرز في السادسة والعشرين من عمره حينما زار الولاياتالمتحدة للمرة الأولى. قبل ذلك كان يعرف عنها كل شيء ويعرفها من طريق الكتب والأفلام، ولأنها كانت ساكنة في فؤاده كما يقول دائماً. فهذا السينمائي الكبير، الذي كان الى جانب راينر فرنسر فاسبندر، وفرز هرتزوغ، وحفنة من مخرجين آخرين، من أحيوا السينما الألمانية بعد موات مؤكدين لجديدها حضوراً عالمياً مدهشاً، كان الأكثر شغفاً بأميركا من بين كل المخرجين الأوروبيين الشبان. وهو عبّر عن هذا الشغف حتى في أفلامه الألمانية الخالصة حيث أسلوب سينما الطريق واللغة السينمائية التي تكاد تكون مأخوذة من موسيقى الروس وأدب البيتنكس ومسرحيات سام شيبرد ونصوص جاك كيرواك، ناهيك بتعبيره عنه مباشرة في أفلام "أميركية" خالصة، لعلها أجملها وأقواها "باريس/ تكساس" وأكثرها ارتباطاً بأميركا "هاميت" عن حياة داشيال هايت الكاتب البوليسي اليساري والفيلم كان من انتاج فرانسيس فورد كوبولا، ثم "الصديق الأميركي" عن رواية لباتريشيا هايسميث. الغريب ان فندرز الذي زار أميركا للمرة الأولى في ذلك الحين لم يبارح نيويورك، إذ خيل اليه ان اميركا كلها هناك. لكن لاحقاً راحت تتكرر زياراته وصار يعرف أميركا أكثر، ويحبها أكثر، ويصورها أكثر... وبالتالي صار أكثر على التعاطي معها بنظرة نقدية، مدركاً ان في هذا العالم المترامي الأطراف هناك أكثر من أميركا وألف أميركا. ومن هنا لم يكن غريباً منه أن يستقر منذ العام 1996 في لوس أنجليس حيث غاص أكثر وأكثر في صنع أفلام اميركية يمكن أن نذكر منها هنا "فندق المليون دولار" و"نهاية العنف". غير ان النقاد الأكثر خبرة بعمل فندرز رأوا دائماً ان كل تلك الأفلام، بما في ذلك "باريس/ تكساس" و"الصديق الأميركي" و"هاميت" أفلامه الأميركية قبل أميركا إنما كانت أفلاماً تتحدث عن أميركا المنشودة، أميركا الحلم الذي كان وظل يداعب مخيلته. أما "لانداوف بلانتي" فإنه، ودائماً بحسب العارفين بأفلامه، أول عمل له يلقي فيه نظرة على الواقع الأميركي... على أميركا اليوم لا على أميركا الحلم: اميركا التي أرعبتها حوادث 11 أيلول سبتمبر وأذهلتها في شكل سلبي سياسات جورج بوش السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولعل خير من عبر عن هذا الأمر هو فيم فندرز نفسه الذي كتب نصاً في أحد أعداد صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية الأخيرة يتحدث فيه، عبر منعطفات تاريخية حاسمة تبدأ العام 1955 وتتوقف عند حوادث أيلول 2001 المريع، عما يشبه سيرته. ونقتطف هنا من هذا النص، تلك الفقرة المعنونة "11 أيلول 2001" وفيها يقول: "ان هذا التاريخ هو التاريخ الوحيد الذي يبدو مشتركاً بيننا جميعاً. ان كل واحد منا يمكنه أن يروي ما فعله في ذلك اليوم. أما أنا فإن هذا كله يخجلني: ذلك ان ما فعله كل واحد منا في ذلك اليوم ليست له أي أهمية. وأنا، مثل كل شخص آخر، وعيت يومها بكل وضوح ان تاريخ حضارتنا في طريقه الى أن يتغير. ولكنني، يومها، قلت في نفسي إن التغيير سيسير نحو الأفضل، طالما انه ارتسم على الفور في أفق العالم نوع من التضامن الكوني... وكان في وسعنا، خلال بضعة أسابيع في ذلك الحين ان نستشف ما يبدو وكأنه عالم خيال "يوتوبي" مدهش. غير ان الخيبة سرعان ما حلّت محل ذلك الأمل. وما فيلمي الجديد هذا سوى علامة على تلك الخيبة، اليوتوبيا التي مُحيت تماماً". وإذ سئل فندرز لمناسبة عرض فيلمه عما اذا كان يعتبره "بورتريه" لأميركا اليوم، أجاب: "أجل، انه بورتريه، أرجو لها أن تكون نزيهة بالنظر الى ان الشخصيتين الأساسيتين في الفيلم تحملان وجهتي نظر متعارضتين تماماً: إحداهما تصور تلك البارانويا التي استحوذت على الولاياتالمتحدة بعد حوادث أيلول. والثانية على العكس من هذا، وجهة نظر لا تزال تؤمن بالأخوة بين البشر. ان اميركا ترى العالم الآن بالأسود والأبيض فقط. وأنا آمل من فيلمي أن يعطي درجات الرمادي لمن يحب أن يرى. بل أن يتيح للأميركيين ان يروا أنفسهم. بالنسبة الى أوروبي يعيش مثلي في أميركا اليوم، ثمة على أي حال أمر واحد مؤكد وهو أن الأميركيين يعيشون في عزلة تامة. لكن هذا ليس جديداً: تصوروا ان جورج بوش، وحتى قبل انتخابه رئيساً لم يكن قد سافر الى أي بلد خارج الولاياتالمتحدة. غير ان 11 أيلول زاد من حدة هذه العزلة".