من بين الاحتفالات «الكانيّة» اللافتة هذا العام، الاحتفال بمرور ثلاثين عاماً على عرض فيلم «باريس/ تكساس» وفوزه بسعفة المهرجان الذهبية في ذلك الحين. والحال إن الفيلم كان ولا يزال جديراً بمثل هذا التكريم الذي يطاوله ولكن يطاول بشكل خاص مخرجه فيم فندرز الذي كان يعتبر حتى ذلك الحين أحد الآباء المؤسسين للنهضة السينمائية الألمانية إلى جانب هرتزوغ والراحل فاسبندر وفولكر شلوندورف – الذي قد يكرّم هذا العام في مهرجان القاهرة على مجموع إنجازه السينمائي -. مهما يكن فإن «باريس/ تكساس» أتى في حينه ليمعن في خروج صاحبه من دائرة السينما الألمانية ليدخل إذاك حلمه الأميركي ويقدم فيلماً أكثر أميركية من أي فيلم حققه «أجنبي» عن أميركا. إذا مرّ ثلاثون عاماً على ذلك الفيلم المدهش. ثلاثون عاماً شهدت مشاركات عدة لفندرز نفسه في دورات عدة من المهرجان، غير أن أية مشاركة له بعد ذلك لم توصله إلى الذروة التي أوصله إليها ذلك الفيلم. وانتهى الأمر به إلى صمت طال، حتى هذا العام بالتحديد حيث، إلى جانب تكريمه وفيلمه، عرض المهرجان عملاً جديداً له... لا يمكن القول إنه جاء مفاجئاً. ففيلم «ملح الأرض» التوثيقي، هو واحد من تلك الأفلام التي لا يتساءل المرء لماذا حُقّقت؟ بل لماذا تأخر تحقيقها كل هذا الوقت؟ الفيلم هو عن حياة وأعمال المصور الفوتوغرافي البرازيلي المبدع سيباستاو سالغادو. ومن المعروف منذ زمن بعيد، أن فيم فندرز، - وهو بدوره مصور فوتوغرافي له، إلى جانب إبداعه السينمائي، ألوف الصور، الأميركية خاصة، التي أقيمت لها المعارض وصدرت مجموعة في كاتالوغات شهيرة -، من المعروف أنه دائماً ما أبدى إعجابه بصور سالغادو التي دأبت على متابعة أحوال العالم وأهل هذا العالم ولا سيما البائسون منهم من عمال المناجم في أميركا اللاتينية إلى فقراء العالم وصانعي أحداثه ومآسيه. فسلغادو المنطلق في عمله من مقره الباريسي، لا يتوقف عن التجوال حول العالم ملتقطاً صوراً تأتي من الروعة إلى درجة أن منتقديه يأخذون عليه كونه يصوّر البؤس في لغة تشكيلية فائقة الجمال. فيم فندرز الذي يعلق في مكتبه بصورة دائمة صورتين كبيرتين من أعمال سالغادو، يقول إنه اقتناهما قبل سنوات وقبل أن يتعرف إلى المصور الشهير ويضحي صديقاً له، يسخر الآن من هذا المأخذ. بل إن فيلمه كله، إنما هو تحية للجمال الطاغي على لقطات المصور السبعيني، وليس فقط على لسان هذا الأخير في حوار مطوّل ومتشعب أجراه معه بالتواكب مع لقطات عدة تنقل بعض أشهر وأعمق صوره، بل عبر إدماجه في الفيلم عدداً كبيراً من مشاهد سينمائية كان ابن المصوّر، جوليانو ريبييرو سالغادو، التقطها لأبيه خلال جولات تصويرية متعددة رافقه فيها ولا سيما خلال اشتغاله، المتواصل الآن، على مشروعه الجديد والطموح «سفر التكوين» الذي يصور فيه الكون وناسه وحيواناته ونباتاته في مختلف زوايا الأرض. ويرينا الفيلم كيف أن سالغادو انصرف إلى هذا المشروع بعدما «طفح الكيل به» من تصوير مآسي البشر والشرط الإنساني المزري لكل أولئك الذين «خلدتهم» صوره واعتبرهم ملح الأرض – ومن هنا طبعاً عنوان الفيلم -. يحمل «ملح الأرض» اسم سالغادو الابن كمشارك في الإخراج وذلك بفضل المشاهد التي كان التقطها طوال سنوات عدة. أما حصة فندرز من العمل، فهي تلك الساعات الطويلة من الحوارات التي أجراها مع الأب طارحاً عليه خلالها عشرات الأسئلة، تاركاً إياه يتحدث على سجيته في أحيان أخرى، ولا سيما مركّباً اللقطات بشكل يجعل سالغادو في بعض الأحيان يبدو أمام الكاميرا وهو يفسر أو يتذكر مشاهد التقطها وتمر على الشاشة من خلال نظرته في لعبة تشكيلية مبتكرة. والحقيقة أن هذا كله جعل من «ملح الأرض» تحية نادرة إلى فنان وفن كبيرين، من توقيع سينمائي كبير عرف كيف يمّحي أمام موضوعه الأثير متناسياً لساعتين تقريباً أنه هو الآخر مصوّر مدهش.