كان مفترضاً أن يشكل الفيلم الأميركي الذي حققه البرازيلي والتر ساليس عن رواية جاك كيرواك الأسطورية «على الطريق»، واحداً من الأحداث الكبرى في هذه الدورة لمهرجان «كان» السينمائي، لكننا إذا حكمنا على الأمور من خلال برودة التصفيق عند نهاية العرض الصحافي الأول للفيلم صباح أمس، سنجد أنفسنا متسائلين: هل يمكن للخيبة التي عبّر عنها التصفيق الباهت أن تقول أن الحدث انقلب إلى لا حدث، وأن ما كان متوقعاً لم يحدث؟ بكلمات أخرى هل فشل ساليس في إعطاء الرواية مذاقها وحقّها؟ الأكيد أن الوقت لا يزال أبكر من أن يتيح جواباً، ومع هذا نستطرد ونتساءل: على أية حال ماذا كان في الإمكان أن نتوقع من فيلم يحاول ما اعتبر دائماً من قبيل المستحيل؟ إذ من المعروف في تاريخ السينما أن عدداً من كبار مخرجي العالم، بمن فيهم أورسون ويلز وفرانسيس فورد كوبولا وستانلي كوبريك، حطموا رؤوسهم على صخرة هذا العمل الأدبي الذي بدأ حلم تحويله فيلمنا منذ وقت مبكر، بل منذ نشر كيرواك روايته أواخر الخمسينات من القرن العشرين، ثم أرسل للممثل النجم في ذلك الحين مارلون براندو رسالة يتوسله فيها تحقيق فيلم مقتبس عن الرواية. يومها لم يستجب براندو للتوسل وبدأت حكاية «على الطريق» مع السينما، حكاية قد تضاهي في تعقّدها وقوتها الرواية ذاتها. اليوم إذ يعرض الفيلم، في «كان» أولاً وفي صالات العالم إثر ذلك، لا بد أن نخرج من العرض بحقيقتين مترابطتين: أولاهما أن معالجة فيلم ساليس للرواية أكدت مجدداً استحالة نقلها «كما هي» إلى الشاشة، والثانية فحواها أن ساليس بذل أقصى جهد ممكن ومنطقي لتحقيق فيلم سينمائي جميل وطموح ينطلق فقط ليس من نص كيرواك ولكن من أجزاء من هذا النص. إذاً لننسَ هنا الرواية ونتوقف عند الفيلم. أول ما سنلاحظه أن الفيلم، بدلاً من أن يدخل في تفاصيل الجيل الأدبي الذي أحدث ثورة أخلاقية وأدبية وفكرية في تاريخ الأدب الأميركي في مرحلة ما بعد الحرب الثانية، ركز على جانب من العمل يحتفل بالحياة والحرية والصداقة (بين سال ونيد، وهما في الحقيقة جاك كيرواك نفسه وصديقه الكاتب نيل كاسيدي). من هنا فإن المبدين خيبتهم بعد عرض الفيلم إنما هم أولئك الذين كانوا ينتظرون من ساليس أن يرسم مناخات ولادة ذلك التيار (تيار البيتنكس الأدبي والفكري الذي يعتبر كيرواك أحد أبرز مؤسسيه) ومجابهته للحلم الأميركي، وكيف أنه ولّد أدباً كبيراً ثم تيارات سينمائية أكبر وفنوناً متنوعة وثورات شباب... لقد كان رسم هذا المناخ الضحية الأولى لاختصار في الرواية لولاه لكان على الفيلم أن يستغرق ثلاثة أضعاف وقته الطبيعي. هنا إذا فضّل ساليس أن يدخل في الجوهر، في ذاتية الرواية وحميميتها وحميمية الأحداث التي يسردها كيرواك، ولكن بأسلوب سينمائي ممتع جعل الفيلم يبدو عملاً أخّاذاً، لا سيما مع نهايته التي ترينا كيرواك (سال) وهو جالس بعد كل شيء يطبع الرواية نفسها على الآلة الكاتبة لتسفر الطباعة عن لفافة الورق الطويلة التي باتت شهيرة الآن، تباع في المزاد. في هذا الإطار إذاً، وفي ما تتيحه الرواية نفسها من بعد بصري، استجاب والتر ساليس للتحدي، وطبعاً للحلم القديم الذي راود المؤلف يوماً وعاش بقية حياته القصيرة حاقداً على مارلون براندو لأنه لم يستجب له! هذا من ناحية علاقة عمل ساليس بأصله الأدبي، علاقة يبدو أنها أغاظت الذين يعرفون الرواية جيداً ويعرفون إطارها الزماني والمكاني، أما الآخرون، من المتفرجين الذين يقبلون على الفيلم كفيلم، فلا شك أنهم من ناحية أخرى أكثر تواضعاً وتفهّماً، سيستمتعون بفيلم الطريق الجديد هذا، ويتذكرون أفلاماً مشابهة سابقة غير فيلم ساليس عن غيفارا، مثل «إيزي رايدر» لدنيس هوبر وآخرين، و «نحو البراري الموحشة» لشون بين، و «خمس مقطوعات سهلة» لبوب رايفلسون، إنما من دون أن يسهى عن بالهم أن هذه الأفلام لم «تسبق» على الطريق بل نهلت من النبع الذي سيظل هو ماءه الأصلب والأعذب.