كثيرة هى الكتابات والدراسات التي تناولت حرب تشرين الأول اكتوبر 1973، غير أن القليل منها تعرض لمسألة الخيار النووي في تلك الحرب، ما ابقى تساؤلات عدة معلقة لعل ابرزها يتصل بتأثير السلاح النووي الإسرائيلي في قرار مصر ببدء العمليات العسكرية ظهيرة السادس من تشرين الاول1973 من جهة، وما من شأنه اماطة اللثام عن حقيقة استخدام إسرائيل فعلا لذلك السلاح أو توظيفها اياه إبان العمليات العسكرية من جهة اخرى. وبخصوص القضية الأولى يلاحظ أن الدعاية الصهيونية عمدت إلى الادعاء بأن ما اجبر المصريين على القيام بعمل عسكري محدود وعدم التجاسر الى تطوير ذلك العمل، على رغم نجاحهم المبهر في بدايته، ثم اضطرارهم الى تدشين معاهدة سلام مع الإسرائيليين بعد مرور سنوات قلائل، إنما هو خوفهم من ترسانة إسرائيل النووية. وهناك شواهد عدة واعتبارات شتى تشي بأن مسألة الردع النووي الإسرائيلي آنذاك لم تكن ذات تأثير يذكر على القرار المصري يمكن إيجازها في ما يأتي: 1- إن تل أبيب كانت تتبنى استراتيجية الغموض النووي القائمة على سياسة الردع بالشك، اذ حرص المسؤولون الاسرائيليون وقتذاك على حرمان العرب من التأكد أو التيقن بخصوص انباء امتلاك الدولة العبرية لمثل هذه الأسلحة الفتاكة في محاولة للتشويش على التخطيط العسكري العربي وارباك متخذيى القرارات الاستراتيجية في دول المواجهة. وكان تفوق إسرائيل الهائل في مجال الاسلحة التقليدية كفيلا بردع العرب وإقناع المسؤولين الإسرائيليين بعدم جدوى التصريح رسميا بامتلاك أسلحة نووية تلافيا لأي ردود افعال دولية غير مرضية. وكان من شأن ذلك أن يثير الشكوك لدى العرب حول حقيقة امتلاك تل أبيب منظومة كاملة ومجهزة تماما من الاسلحة النووية ومن ثم في جدية التهديد النووي الإسرائيلي. 2- إنه حتى في حال ثبوت امتلاك إسرائيل منظومة نووية عسكرية متكاملة ومجهزة للاستخدام الفعلي، فإن اعتبارات مهمة عدة كان من شأنها أن تحول دون إقدام الإسرائيليين على استخدام مثل هذه المنظومة إبان العمليات العسكرية لعل أهمها: - عدم الاستعداد الأميركي والدولي لتقبل حدوث كارثة نووية في منطقة الشرق الأوسط، خصوصا ان الغرب كان المسؤول عن تزويد إسرائيل التكنولوجيا والمعدات الخاصة بإنتاج وتصنيع مثل هذه الأسلحة. - إن كل من أميركا وإسرائيل كانتا تدركان جيدا إن مصر تقوم بهجوم محدود بغية تحرير جزء من أراضيها المحتلة ما يسهم في تحريك المياه الراكدة على الصعيد السياسي ويساعد في تدشين مفاوضات لإقرار السلام وإعادة الأراضي المسلوبة، ذلك أن امكانات مصر الاقتصادية وقدراتها العسكرية وقتذاك لم تكن تطيق أكثر من ذلك. - نجاح إسرائيل المتنامي في استعادة توازنها على الجبهة الشمالية التي كانت تفوق الجبهة الجنوبية خطرا عليها بسبب قربها الجغرافي الشديد من العمق الإسرائيلي، في وقت لم يفقد الاسرائيليون ثقتهم في دعم واشنطن لهم من اجل وقف تقدم المصريين في الجنوب وتغيير مسار العمليات على جبهتهم. - كان الاسرائيليون واثقين من أن المصريين لا يبغون من حربهم المحدودة سوى سيناء، التي لا يمكن، على رغم اهميتها بالنسبة للاسرائيليين، أن تدفع بتل أبيب نحو اخراج القنبلة من القبو وتنفيذ "خيار شمشون"، إذا تمكن المصريون من السيطرة على شريط ضيق منها إبان المعارك، لا سيما ان وجود الدولة العبرية أو حتى امنها المباشر لم يكونا موضع تهديد حقيقي. - إن امتلاك إسرائيل أسلحة نووية في ذلك التوقيت لا يعني بالضرورة أن في مقدورها التحكم في الاثر أو المدى التدميري لهذه الأسلحة، أو انها نجحت في تطوير اسلحة تكتيكية منها انذاك تكون محدودة الاثر التدميري بحيث لا تطال إسرائيل ذاتها حال استخدامها، وبذلك يكون اقدام إسرائيل على استخدام سلاحها النووي الاستراتيجي المفترض ضربا من الجنون. 3- إن الضغوط التي كان النظام المصري يتعرض لها على الصعيدين المحلي والاقليمي، إلى جانب حاجة الرئيس أنور السادات إلى مصادر جديدة وقوية في الوقت ذاته لشرعيته التي باتت مهددة، كان من شأن ذلك كله أن يضطر السادات الى المضي قدما في استعادة الأرض المغتصبة ومحو عار هزيمة 1967من خلال عمل عسكري محسوب، وان تجاهل مسألة السلاح النووي الإسرائيلي المزعوم. بكلمات أخرى، فإن اعتبارات وقيماً غالية يهون في سبيل الذود عنها أى تهديد نووي هي التي دفعت السادات، ومن خلفه جموع المصريين والعرب، للمضي قدما في قرار الحرب من دون مراعاة لتهديد قد لا يكون إلا سرابا، او ضربا من الاوهام. ولعل النتيجة التي يمكن للقارىء أن ينتهي إليها انطلاقا من الطرح السابق جديرة بأن تعرج بنا إلى التساؤل حول حقيقة استخدام إسرائيل للسلاح النووي إبان حرب تشرين الاول 1973، وقبل الخوض في هذا الأمر من المهم الاشارة الى أن للقوة النووية استخدامات متعددة، اذ قد تستخدم على نحو فعلي مباشر مثلما جرى نهاية الحرب الكونية الثانية حينما القت الولاياتالمتحدة بقنبلتيها النوويتين على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في اب أغسطس من العام 1945، واما أن تستخدم في شكل غير مباشر من خلال التهديدات والابتزاز، اقتصاديا كان أو تكنولوجيا كما هي الحال نسبيا في حالة كوريا الشمالية حاليا مع أميركا وجيرانها الآسيويين في شبه الجزيرة الكورية واليابان، او عسكرياً وتكنولوجياً مثلما هي الحال مع إسرائيل وأميركا. وبالنسبة الى الحالة الاسرائيلية خلال تشرين الاول، تنوعت اراء الخبراء والمحللين من مختلف الجنسيات والتوجهات في هذا الشأن. بيد أن هناك ما يشبه الاجماع على ان إسرائيل هددت بالفعل باستخدام السلاح النووي ونشرت صواريخ وقاذفات محملة برؤوس النووية ووجهتها نحو مواقع القيادة والسيطرة في القاهرة ودمشق، وذلك بعد عودة وزير الدفاع الاسرائيلي انذاك موشي دايان منهارا من زيارته المفجعة للجبهة في 8 تشرين الاول. وعلى رغم أن تقريرا لمجلة "تايم" أكد صحة هذا الادعاء إلا أن الحكومة الإسرائيلية قد نفته بشدة. والثابت في هذا الخصوص أن القادة الإسرائيليين فوجئوا بأداء القوات المصرية والسورية في الأيام الأولى للحرب حتى أن بعضهم بدأ يشكك في التقارير التي سبقت الحرب والتي تؤكد محدودية القدرات العسكرية العربية مقارنة بنظيراتها الإسرائيلية، كما شكك نفر آخر منهم في نيات المصريين واهدافهم من الحرب حتى ذهبوا إلى الادعاء بأن المصريين عازمون على التوغل في سيناء نحو الممرات وفقا لاكثر التقديرات الإسرائيلية تفاؤلا، وهو الأمر الذي زلزل ثقة القادة الإسرائيليين في قدرة قواتهم على امتصاص الهجوم العربي والرد عليه بهجوم مضاد اشد وطأة. وإذا اضفنا إلى ذلك تداعيات عنصر المفاجأة الاستراتيجية العربية والتبكيت الذي أمطرت به واشنطن اصدقاءها في تل أبيب بسبب الخسائر الهائلة في المعدات خلال الأيام الأولى للحرب، يمكن أن نتفهم ابعاد المأزق الإسرائيلي. اذ لم يدع الاسرائيليون اية فرصة للاميركيين من اجل التفكير في قائمة الطلبات التي وضعت على مكتب الرئيس ريتشارد نيكسون منذ التاسع من تشرين الأول اكتوبر والتى تضمنت أسلحة متطورة ومعدات حربية حديثة تعوض إسرائيل عما فقدته في الأيام الأولى للحرب وتعينها على شن هجوم مضاد بمساعدة اقمار التجسس الأميركية، فقد شنت السفارة الإسرائيلية في واشنطن بمساعدة اللوبي اليهودي حملة دعائية شعواء ضد إدارة الرئيس نيكسون متهمة اياها بالتقاعس عن نجدة إسرائيل، وهي الحملة التي كادت أن تفضي إلى نتائج عكسية اثر استياء نيكسون الشديد مما تضمنته من اكاذيب واتهامات باطلة بشأنه لولا تدخل وزير خارجيته الجديد هنري كيسنجر الذي اتخذ منه الاسرائيليون مخلصاً ونصيراً. غير أن اشاعات تسللت إلى تل أبيب مؤداها أن إدارة نيكسون تسعى إلى تكبيد إسرائيل خسائر فادحة في المعارك قبل مساعدتها على الانتصار توطئة لمحادثات سلام لاحقا، اضطرها إلى ممارسة بعض الضغوط على واشنطن لللاسراع في تقديم المدد العسكري في اسرع وقت وانقاذ ما تبقى من هيبة للدولة العبرية. إذ يمكن القول إن رؤية إسرائيل لفرص التسوية السلمية بعد الحرب واسسها كانت تختلف عن ذلك الذي كان يدور في خلد الأميركيين، فقد كانت غولدا مائير ترى أن خير وسيلة للاحتفاظ بعنصر الردع التقليدي ضد العرب بما يضمن قبولهم للمفاوضات هو كسر عزيمتهم والاجهاز على اية رغبة لديهم في المقاومة أو الصمود وهو ما لن يتأتى إلا من خلال هزيمة عسكرية ساحقة تجبرهم على عدم معاودة التفكير في شن اية حروب مستقبلا ضد إسرائيل، بينما كانت إدارة نيكسون ترى أن العرب في حاجة إلى انجاز عسكري محدود لا يلحق ضرراً بالغاً بإسرائيل لكنه يوفر لهم ارضية ومنطلقاً للدخول في مفاوضات سلام شبه متكافئة مع الإسرائيليين. وتأسيساً على ذلك التباين في الرؤى بين واشنطن وتل أبيب، كان لزاماً على الإسرائيليين البحث عن وسيلة لثني الأميركيين عن مواقفهم، وهنا علا مجددا صوت أنصار استخدام السلاح النووي الإسرائيلي الذي بات عبئاً اقتصادياً واستراتيجياً ما يفقده فعاليته من وجهة نظرهم. وعلى غير المألوف، وافقت مائير على نشر صواريخ متوسطة المدى من طراز "اريحا" وقاذفات من طراز "فانتوم" محملة مزودة برؤوس نووية موجهة صوب القاهرة ودمشق، حتى تلتقطها الاقمار الاصطناعية الأميركية فتجزع إدارة نيكسون وتبادر بإغداق المساعدات العسكرية المقررة لإسرائيل. وهو ما حدث فعلاً، إذ لم تمض سوى ساعات حتى دشن الجسر الجوي الأميركي ليمطر القوات الإسرائيلية بأثمن ما تحويه الترسانة العسكرية الأميركية من أسلحة ومعدات معلنا نجاح سياسة الابتزاز النووي الإسرائيلية التي كان لها بالغ الأثر في تغيير مسار الحرب في الأيام التالية. * كاتب مصري.