هناك شبح يتجول في المنطقة الآن. الجميع يحذر من "خطر" ظهور دولة كردية ستقضي، إذا ما ظهرت، على الأمن والسلم والرخاء. سيعم الخراب وتنتشر الكوارث. الاجتماعات التي تعقد على أرفع المستويات بين المسؤولين في تركيا وسورية وإيران ومصر والأردن و... قطر، تهدف إلى حشد الطاقات ورصّ الصفوف لمواجهة الشبح الآتي. لقاء القمة الذي جمع بين الرئيسين السوري بشار الأسد وأركان الحكومة التركية، مدنيين وعسكريين، شدد على "خطر تقسيم العراق" وجرى التنبيه إلى أن هذا الأمر خط أحمر لا يمكن أحداً تجاوزه. وزيارة وزير الخارجية التركي عبد الله غول لإيران لملاقاة نظيره الإيراني خرازي صّبت في القناة نفسها. ووفود العشائر والمثقفين العراقيين، التي زارت دمشق، جاءت لتسمع قول المسؤولين السوريين عن ضرورة الحفاظ على "وحدة العراق أرضاً وشعباً". يحدث كل هذا في أعقاب إعلان الأكراد في العراق عن رغبتهم في إنجاز الفيديرالية كإطار سياسي لدولة العراق، ما بعد صدام حسين، بحيث تتحقق المساواة بين القوميتين الرئيسيتين في البلاد، العرب والأكراد، وتتمتع القوميات الأخرى بحقوقها. ويبرر الأكراد رغبتهم هذه بالقول أن دافعهم هو حماية وحدة العراق وقطع الطريق أمام العوامل التي من شأنها تعزيز الميل إلى الانفصال، أي تقسيم البلاد. لتحقيق ذلك لا بد من تحديد معالم الأشياء وتعيين التخوم بين المركز بغداد والإقليم الفيديرالي كردستان لكي يزول الغموض وتندثر مكامن الشك وسوء الفهم. ولأجل ذلك يتعين رسم الفواصل فيعرف كل طرف حدّه ويلزمه إدارياً وجغرافياً. ويتطلب هذا، من جملة ما يتطلب، إزالة آثار عمليات التطهير العرقي والتخريب الديموغرافي التي قامت بها حكومة البعث العراقية في كردستان طوال فترة حكمها. فقد تم ترحيل مئات الألوف من العائلات من المدن والقصبات الكردية وأسكنت مكانها عائلات عربية أتت بها الحكومة من وسط وجنوب العراق. واقتطعت أجزاء من هذه المحافظة وأضيفت إلى تلك بغية إحداث خلخلة في البنية السكانية. وقد نالت كركوك وضواحيها من هذه الإجراءات الحصة الأكبر وذلك بسبب غناها بالنفط. وكانت المعارضة العراقية تشهد ما يجري، تراقبه وتوثقه وتندد به وتعلن عن تعاطفها مع ضحايا تلك السياسة العنصرية. وفي سائر المؤتمرات التي عقدتها المعارضة، جرى التركيز على ضرورة تصحيح الأوضاع وإعادتها إلى مسارها الطبيعي فور التخلص من حكومة صدام حسين. ولم يكن الإقرار بحق الأكراد في تقرير مصيرهم بالشكل الذي اتخذوه، أي الاتحاد الفيديرالي، سوى تحصيل حاصل. لم يكن مطلب الفيديرالية مشكلة أو سبباً للخلاف. ولم يكن أحد يختلف على واقع كون كركوك جزءاً من إقليم كردستان. كانت ثمة اختلافات بالطبع ولكنها لا تطال المبدأ بل هي تتعلق بالتفاصيل الإجرائية ومسائل التوقيت. الاعتراض على مطالب الأكراد وحقوقهم يأتي من خارج العراق. من هناك ترتفع الأصوات تحذر من خطر التقسيم وبعبع الانفصال والخطوط الحمر. غير أن الأمر ليس جديداً. فحكومات البلدان المجاورة للعراق دأبت تعارض المطالب الكردية على الدوام. وهي لم تخف يوماً معاداتها لحق الشعب الكردي في تقرير مصيره، أياً كان شكل ممارسة هذا الحق. واليوم تشتد هذه المعارضة وتتخذ طابعاً متشنجاً لأن آفاق حل القضية الكردية في العراق باتت رحبة أكثر من أي وقت مضى وزالت العقبة المميتة التي كانت تحول دون ذلك: دكتاتورية صدام حسين. ولكن لماذا تعترض هذه الدول وبهذه الحدّة على المطالب الكردية؟ لماذا تعتبر الفيديرالية مبعثاً للخطر؟ وما هو هذا التعلق الشبقي بوحدة العراق أرضاً وشعباً؟ وهل حقاً أن الفيديرالية، أو حتى قيام دولة كردية، سبيل إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة؟ هل تكمن العلة في الفيديرالية ذاتها أم أن الأمر يتعلق بكون المعنيين بالأمر هم الأكراد على وجه الحصر، وهؤلاء موزعون على العراق والبلدان المجاورة لها؟ أغلب الظن أن الإشارة الأخيرة هي السبب. فالحكومات المعنية لا تعترض على الفيديرالية إن هي تحققت في أي ركن من العالم. والفيديراليات القائمة في العالم لم تتسبب في الهلاك وزعزعة الاستقرار إلا في حالة يوغسلافيا السابقة. وهناك لم تكن الفيديرالية هي السبب بل رغبة الحكومة الصربية، العنصرية، في فرض إرادتها على باقي القوميات بشكل مركزي وبالغ الصرامة تماماً كما كان الحال مع حكومة صدام حسين في علاقتها بالأكراد. بل إن ظهور دول جديدة في غير مكان من العالم لم يخلخل توازن الكون: انفصلت تشيكيا وسلوفاكيا عن بعضهما وقامت دولة تيمور الشرقية وانفصلت ارتيريا عن أثيوبيا. بل أن تركيا نفسها، التي تعلن الخط الأحمر لأكراد العراق، لم تتردد في تكوين دولة خاصة لأتراك قبرص. وفي فلسطين ثمة احتمال لقيام دولة فلسطينية وهو أمر ترحب به جميع الأطراف بل تسعى إليه بشغف. لماذا تحلّ اللعنة في حالة الأكراد فقط؟ ثمة قناعة لدى الحكومات المجاورة للعراق في أن تطور الوضع الكردي في كردستان العراق نحو الفيديرالية والتخلص من القيود الشوفينية التي استمرت تكبلهم منذ تأسيس الدولة العراقية من شأنهما أن ينعكسا على وضع الأكراد في أماكن تواجدهم في باقي أجزاء كردستان المبعثرة بين تركياوسورياوإيران. سينظر الأكراد بإعجاب إلى أبناء جلدتهم وسيثيرهم هذا الإعجاب ويدفعهم إلى القيام بأفعال قد تقودهم إلى القيام بأفعال تقودهم إلى التمتع بما ناله أكراد العراق. ما هي الأفعال التي يمكن أن يقوم بها الأكراد؟ تظاهرات، مسيرات، تشكيل أحزاب وجمعيات، إصدار صحف، إنشاء محطات تلفزيون. هل تعمل هذه الأشياء على خلخلة الاستقرار؟ الأعمال العسكرية توقفت منذ أمد طويل في كردستان إيران وحركة التسلح الكردية في تركيا انهزمت وألقت السلاح جانباً وهي تصرخ طوال الوقت لتعلن عن استعدادها للدخول في أي سبيل سلمي لحل القضية الكردية في تركيا بعيداً عن العنف. وفي سوريا فإن جلّ ما يطمح إليه الأكراد هو السماح لهم بتداول لغتهم وثقافتهم وإعادة الجنسية السورية لأكثر من مائة ألف أنسي جردوا منها نتيجة إجراء تعسفي. إذا كانت الفيدرالية الكردية في العراق ستحرك هذه الجوانب فالأحرى بالحكومات القائمة أن ترحب بها وتفكر جدياً في دعمها ذلك أنها تفتح الطريق أمام نزع فتيل النزاعات العنيفة وتهيأ الأرض لحوار هادئ وسلمي بين كل حكومة وأكرادها. ومن شأن ذلك أن يخلق المناخ لزرع الثقة والتفاهم. أي أن الأمر أبعد ما يكون عن زعزعة الاستقرار. الفيديرالية التي ينادي بها الأكراد لا تختلف عن الفيديرالية في شتى أنحاء العالم. هي ليست بدعة اخترعها الأكراد. هي نمط في إدارة البلاد ذات التعدد القومي أثبتت قدرتها على صون وحدة البلاد وتأمين استقرارها ودفعها في طريق التعددية المثمرة. ولكن ماهو المقصود بزعزعة الاستقرار؟ أيعني الأمر قيام مجابهات مدمرة وصراعات دموية؟ هل كان ذبح الأكراد وقمعهم وتهجيرهم وترحيلهم وتدمير مدنهم وقراهم وقصفهم بالغازات السامة وإخضاعهم لحملات الأنفال طوال سنوات الحكم البعثي، هل كان ذلك استقراراً؟ وهل أدت كل عمليات القمع الوحشية التي ارتكبتها سلطة صدام حسين إلى حل المشكلة الكردية واختفاء المطالب الكردية في الحرية والمساواة؟ هل كانت "وحدة العراق أرضاً وشعباً" مصانة في ظل الحكومة المركزية التي كانت سلطة البعث تديرها؟ الوقائع تشير إلى عكس ذلك. هل تجهل حكومات البلدان المجاورة للعراق هذه الأشياء البديهية والمكشوفة للأنظار؟ إن كانت تجهل ذلك فنحن أمام مأزق حقيقي. وإن كانت تعرف حقيقة الأشياء ثم تتصرف على طريقة إخفاء الرؤوس في الرمال والتشبث بالخطوط الحمر فالمأزق أكبر. ولكن الأمر، في أغلب الظن، يتخطى مجرد اتباع سياسة، خاطئة وعتيقة، تتشبث بها هذه الحكومات. ثمة مناخ عام شيدته ذهنية شوفينية ترى في القومية المختلفة مصيبة وتراقب تحركها بعين الشك وترى في مطالبها مؤامرة وسعياً إلى التقسيم والانفصال والتخريب وما إلى ذلك. لقد تربت أجيال على "حقيقة" وحيدة وهي تلك تعينها السلطة المركزية. وتضع هذه السلطة حقيقتها المزعومة في رداء ثوابت مقدسة من قبيل الوحدة أرضاً وشعباً والأمة المجيدة والرسالة الخالدة. فإن أظهر الواقع أن هناك ما هو أهم من الحدود وأن البشر أقدس من الأفكار كان ذلك قرعاً لناقوس الخطر: ثمة خطر يتهدد البلاد، هناك من يتجرأ على تجاوز الخط الأحمر. * كاتب كردي.