هل كان على الكاتبة الفرنسية جورج صاند أن تنتظر اقترابها من سن الأربعين وانتهاء علاقاتها الصاخبة بعدد من كتّاب وفناني عصرها، وخيبة أحلامها الاشتراكية الكبيرة، قبل أن تبدأ بكتابة رواياتها الكبرى، أو الأكثر عمقاً؟ الحقيقة أن جورج صاند، على رغم أنها كانت نشرت قبل ذلك بعض أعمالها التي أسبغت عليها شهرة كبيرة، تأخرت في الانصراف الى كتابة روايات تمزج فيها بين المثل الأعلى الرومانسي الذي يسيطر عليها كلياً، وبين نزوعها المتجدد الى الغوص في العواطف الانسانية، لأنها قبل ذلك، حتى وإن كانت رومانسيتها وجدت دائماً، كان همها الأول من الكتابة الدنو من المجتمع كحيّز تنمو فيه الشخصيات، بالتناسق معه أو بالتعارض، حيث أن حياة المجتمع نفسه تشكل جزءاً من حياة الأفراد، لا العكس تماماً. وفي هذا الاطار بالتحديد يمكننا ان نعثر على الفوارق الرئيسية بين روايات لجورج صاند كتبت في ثلاثينات القرن التاسع عشر مثل "انديانا" و"ليليا" وبين روايات اخرى لها كتبت في أربعينات القرن نفسه، وخاصة بعدما سئمت الكاتبة المناضلة، حياة باريس واجتماعياتها وحكايات الغرام المدمرة، لتنصرف الى العيش في منطقة ريفية هي نوهان في منطقة بيرّي الريفية الزراعية، والى الكتابة منتجة أعمالاً متميزة همها الأساسي تقديم حكايات على خلفية وصف الحياة الريفية، في قوالب فكرية مستقاة هذه المرة، مباشرة، من نزعة جان - جاك روسو الداعية للعودة الى الطبيعة. ولكن هنا، يجب ألا يعتقد القارئ ان اعمال جورج صاند تحولت الى بيانات اجتماعية، بل العكس، هنا زادت كثافة البعد الروائي، وصارت الشخصيات مقدمة من لحم ودم، لا من أفكار. ولعل رواية "مستنقع الشيطان" خير مثال على ذلك التوجه الجديد. كتبت جورج صاند "مستنقع الشيطان" في العام 1846، أي بعد المرحلة التي كانت قد تأثرت فيها بأفكار الكاتب السان سيموني بيار ليرو، وراحت تقترب من نزعة صوفية كاثوليكية تغمرها ليبرالية واضحة. وحتى لئن ك ن العام الذي كتبت فيه جورج صاند "مستنقع الشيطان" سابقاً عامين على الخيبة الكبيرة التي اعترتها ازاء فشل ثورة 1848، فإن في توجه الكاتبة العام في الرواية ما يشي بأن الخيبة ازاء العمل السياسي الاشتراكي كانت منذ ذلك الوقت المبكر بدأت تترسخ لديها. وهذا الترسخ لم يطل من خلال موضوع الرواية وأفكارها، وإنما من خلال ابتعاد الكاتبة هنا عن أي موضوع يشي باهتماماتها السابقة، مكتفية بتقديم حكاية غرام ريفية طيبة، بل أكثر من هذا مكتفية، كجوهر للرواية، بوصف ليلة واحدة جعلت منها محور العمل وأجمل ما فيه. تدور رواية "مستنقع الشيطان" من حول جرمان، الفلاح الشاب الهادئ والبسيط الذي يرمّله وفاة زوجته التي ماتت مخلفة له ثلاثة أطفال يتعين عليه العناية بهم... لكن جرمان يبدو عاجزاً دون التوفيق بين ما يقتضيه منه عمله من تفرغ، وبين ضرورة العناية بالأطفال، فلا يكون من حميّه، إلا أن يشير عليه ذات يوم بأن الوقت قد حان لكي يتخذ لنفسه زوجة، ليس حباً بالزواج وبملذاته، بل لكي يكون لديه في البيت امرأة طيبة تعنى به وبصغاره. وبعد تردد يرى جرمان ان الأمر ممكن، وأن عليه أن يكون واقعياً. ويتفق مع أهل فتاة شابة يعيشون في منطقة بعيدة بعض الشيء عن البلدة التي يعيش هو فيها. وهكذا يتوجه ذات يوم بصحبة أصغر أبنائه، وفي رفقتهما الخادمة المراهقة ماري، وهي في الأصل مزارعة أحوجتها الضرورة لكي تعمل في منزل أسرة تقيم في المنطقة التي يقصدها جرمان وطفله. وهكذا يبدأ الثلاثة رحلتهم. ولكن بعد حين تثور عاصفة عاتية تجبر الثلاثة على أن يلتجئوا الى غابة صغيرة يعرف جرمان ان الاختباء فيها وسط تلك الظروف يقيهم المخاطر... وتقع تلك الغابة في منطقة يطلق عليها اسم "مستنقع الشيطان" ومن هنا عنوان الرواية. وإذ يصل الثلاثة الى مكان يلجئهم، يسود صمت ليلي حيث يشعل جرمان وماري ناراً يتدفأون من حولها... وهنا، ازاء تلك الوضعية التي تولد ما يكفي من عواطف، يتوجه جرمان بحديثه الى ماري عارضاً عليها حبه وأن تصبح هي زوجته. لكن الفتاة تسارع الى الاستنكار وقد هالها فارق السن بين جرمان وبينها. وكذلك الوضع الاجتماعي بينهما... ولسوف ندرك لاحقاً ان استنكار الفتاة لم يكن يعني في الحقيقة رفضاً كلياً للفكرة، ذلك أن ماري في عمق أعماقها كانت ممتلئة بالاعجاب ازاء هذا الرجل الطيب والبسيط. أما استنكارها فإنما كان بفعل المفاجأة وكذلك بفعل شيء من الحياء استبد بها فجأة. بيد أن جرمان، لحيائه هو الآخر، لم يلح... وما ان حل الصباح حتى واصل الثلاثة رحلتهم، وقد استبد شيء من الحزن بجرمان... لا سيما حينما وصلت ماري الى نهاية الدرب الذي ترافقه فيه، إذ بات عليها أن تنفصل عن الأب وابنه لوصولها الى منطقة بيت مخدومها الجديد. المهم ان جرمان حين يصل الى عروسه العتيدة، يخيب أمله تماماً ازاء شخصيتها الوقحة وجشعها فيقرر ألا يتمم ذلك الزواج، وفي الوقت نفسه لا يكون وضع ماري مع مخدوميها أفضل، خاصة وان سيدها الجديد، ما إن وصلت، حتى راح يراودها عن نفسه. وهكذا في الوقت نفسه يعود جرمان الى قريته خائب المسعى، وتعود ماري الى القرية وقد قررت الاستغناء عن خدمة اسيادها الجدد. وإذ يلتقي جرمان وماري في القرية من جديد يكتشفان ان العواطف بينهما متبادلة وانهما معاً تعبا من التجربة التي خاضها كل منهما. وهكذا "يعودان" الى بعضهما البعض ليستأنفا تلك العلاقة الغرامية العذبة التي كانت بدأت تولد بينهما خلال تلك الليلة التي قضياها قرب مستنقع الشيطان. من الجلي ان الموضوع في حد ذاته لا يخلو من بساطة تجعله جديراً، مثلاً، بفيلم ميلودرامي مصري ينتمي الى سنوات الخمسين. ولكن من الواضح في الوقت نفسه ان قوة هذه الرواية ليست في موضعها، بل في أجوائها. إذ بشكل عام عرفت جورج صاند كيف تقدم هنا عملاً تصف فيه الحياة الريفية بتفاصيلها الصغيرة، بما في ذلك الإطلال على طيبة ابناء الريف وبساطتهم، وهو ما فعلته في العديد من الروايات التي كتبتها خلال تلك المرحلة الأخيرة من حياتها، اما بشكل خاص، فإن قوة هذه الرواية تتركز على تفاصيل تلك الليلة التي قضاها الريفيون الثلاثة في الغابة مختبئين من العاصفة: لقد كانت ساعات قليلة شحنتها الكاتبة بقدر هائل من العواطف والتفاصيل الصغيرة... وبالحوارات الليلية التي دارت بين جرمان وماري هناك... حيث يبرز الجو مناخاً من الهدوء والدعة والسلام قلما حفل به عمل أدبي، وحيث بدت الشخصيتان الأساسيتان جزءاً من الأرض والطبيعة في عتمة الليل. حينما كتبت "مستنقع الشيطان" كانت جورج صاند المولودة أورور دوبان في باريس عام 1804 في الثانية والأربعين من العمر، كانت بعيدة - بالنسبة إليها - تلك الأزمان التي صارت فيها، بالزواج البارونة دوديفان، ثم بالارتباط مع جول صاندو، كاتبة اختارت لنفسها اسماً مستعاراً هو جورج صاندر، قبل أن تصبح على التوالي عشيقة لألفريد دو موسيه ثم للموسيقي البولندي الكبير شوبان. في ذلك الحين كانت انصرفت كلياً للكتابة ولتأمل حياة الناس، بعيداً عن صخبها السياسي والاجتماعي القيم. كتبت جورج صاند خلال مراحل متفرقة من حياتها، عدداً كبيراً من الروايات، من أبرزها، عدا ما ذكرنا، "مويرا" 1837 و"كونسويلو" 1842 - 1843 و"فرانسوا لي شامبي" 1848 و"فاديت الصغيرة" 1849. وهي عاشت حتى العام 1876.