إحداهما فرنسية والثانية إنكليزية. كل منهما امرأة جذابة في شكل أو آخر، ذكية عاشت حياتها في أنوثة طاغية، ومع هذا اختارت كل منهما أن تجعل لنفسها اسم رجل، هو في الحالين: جورج. ومن هنا غالباً ما تختلط الأمور على القراء بحيث انهم يعتقدون للوهلة الأولى أن الفرنسية جورج صاند والإنكليزية جورج إليوت، ذكران، حتى ولو كان كل ما في كتابة كل واحدة منهما، يشي ألف مرة بأن الكاتبة امرأة. ولكن لئن كانت حياة جورج صاند الصاخبة المليئة بالغراميات والقلق والأحزان تبدت أحياناً أهم من كتاباتها، فإن العكس صحيح بالنسبة إلى جورج إليوت، حتى وإن كانت حياتها هي الأخرى لم تخل من ضروب التقلب والقلق - الفكري بخاصة -. ومن هنا لن يكون غريباً أن نعرف أن جورج إليوت توضع دائماً إلى جانب تشارلز ديكنز ووليام ثاكري، على اعتبار الثلاثة معاً، أعمدة ما يمكن أن يسمى بالأدب الاجتماعي الإنكليزي في زمنهم. صحيح أن تحليل ثاكري للمجتمع يبدو أكثر عمقاً، وأن شاعرية ديكنز الواقعية تبدو طاغية، لكن إليوت تتميز بصدق أكثر عمقاً، وبنزعة فلسفية أخلاقية من الواضح أنها استقتها من تجربتها الحياتية والفكرية مباشرة. ومن هنا ما يقال دائماً من أن روايات جورج إليوت تبدو أشبه بنصوص سيرة ذاتية لكاتبة انضجتها تجاربها الفكرية والحياتية. والحال أن هذا لن يبدو غريباً لمن عرفوا شيئاً عن حياة جورج إليوت، هي التي لم تندفع إلى كتابة الرواية إلا في وقت كانت فيه قد تجاوزت الأربعين من عمرها. إذ أن روايتها الأشهر «آدم بيد» لم تظهر إلا في العام 1859، بعدما كانت ماري - آن - ايفانز (وهذا هو اسمها الحقيقي) انتقلت من الريف إلى لندن، ومن الحياة العائلية المتفانية (تحت سلطة أب هادئ ورع سيطرت حياته على العقود الأولى من حياة ابنته، لكنه خاصمها حين وجد ذات يوم، وكانت لا تزال منصرفة إلى البحث الفكري قبل مرحلتها الروائية، أنها انصرفت عن الإيمان الديني المطلق إلى نوع من اللاأدرية) إلى حياة أقرب إلى البوهيمية الفكرية حين ارتبطت بعدد من الفلاسفة الأصدقاء وبخاصة بجورج لويس الذي ارتبطت عاطفياً به وعاشت معه سنوات حياتها اللاحقة. إذاً، خلال السنوات العشرين من حياتها، انصرفت جورج إليوت إلى كتابة الرواية. ودائماً ما كانت تمحور أحداث رواياتها، من حول تصويرها شخصيات مستقاة مباشرة من أهلها ومعارفها. والمثال الأسطع على هذا هو رواية «آدم بيد» التي جعلت البطولة فيها لنجار شاب حنون وطيب، حملت الرواية اسمه، ويبدو في حقيقة الأمر نسخة طبق الأصل عن والدها. ومهما يكن من الأمر علينا أن نذكر هنا أن جورج إليوت استقت الرواية كلها مما كانت حكته لها عمتها إليزابيث ايفانز، التي كانت في الأصل داعية إنجيلية (نجدها في الرواية، أيضاً، تحت ملامح دينا موريس، إحدى الشخصيات الأساسية). الموضوع الأساسي في «آدم بيد» هو حكاية حسناء تحمل بطفل، من علاقة آثمة، فتقتل الطفل قبل فترة يسيرة من ولادته (وكان الإجهاض في ذلك الحين يعتبر بالنسبة إلى الكنيسة الطهرانية الإنجيلية، جريمة الجرائم). ويبدو، مما روته إليزابيث ايفانز، لابنة أخيها، أن الجريمة حدثت حقاً. ومن هنا شغفت ماري - آن (جورج إليوت لاحقاً) بالحكاية وظلت تهجس بها سنوات طويلة. ولاحقاً حين انتقلت من الاهتمام بالفكر الفلسفي إلى الرواية، أسرعت إلى تحويل الحكاية إلى تلك الرواية التي تعتبر اليوم من كلاسيكيات الأدب الإنكليزي. الشخصية النسائية المحورية في «آدم بيد» هي شخصية هيتي سوريل الفاتنة الحسناء، وابنة أخ المزارع المرح مارتن بويزر. وهيتي هذه يحدث أن يقع في غرامها النجار الشاب آدم بيد، المعروف بتقشفه ولكن أيضاً بأخلاقه الطيبة. بيد أن هيتي الأنانية واللعوب بطبعها، تستسلم أمام إغواء الثري آرثر دونيثورن لها، فتغرم به متطلعة إلى الزواج منه. غير أن آدم الطيب والعارف بحقيقة النفوس ينصح هيتي بعدم الدنو من هذا الرجل، لأنه - في رأيه - سوف يوقعها في غرامه ثم يتخلى عنها. وهذا ما يحدث بالطبع، ما يجعل هيتي بدلاً من التجاوب مع حب آدم النقي لها - تقبل الزواج من آدم، انطلاقاً من يأسها وقبولها بالأمر الواقع، ما يجرح آدم، لكنه يتغاضى عن جرحه ويقرر الزواج. وهنا، قبل يوم العرس، تكتشف هيتي أنها - في الحقيقة - قد حملت من آرثر دونيثورن، فلا يكون أمامها إلا أن تهرب من المنزل بعارها، إلى حيث تجهض جنينها. وإذ يقبض عليها وتحاكم، يصدر الحكم عليها بالإعدام، لكن الحكم يخفف بناء على تدخل آرثر دونيثورن نفسه، الذي يكون الندم على ما اقترفه قد استبد به بعض الشيء. أما آدم بيد، فإنه بعد الصدمة التي أصابته من جراء ما آلى إليه حبه لهيتي و«زواجه» بها، يغرم بدينا موريس، ناشرة الدين والأخلاق في البلدة. لقد كان أخوه سيث مغرماً بها. لكن دينا فضلت آدم على سيث، هي التي تسعى دائماً وراء الطيبة، وتصر على أن تنشر النقاء في كل مكان تحل فيه. ومن هنا يكون ارتباطها بآدم طبيعياً. وعليه تختتم هذه الرواية التي كانت أول محاولة جدية لجورج إليوت في هذا النوع من الكتابة. وعلى رغم أن الرواية هذه تعتبر عملاً أدبياً خالصاً، فإن بعض الباحثين يرى أنها، في الأصل، تستجيب إلى الناحية الفكرية من اهتمامات جورج إليوت في ذلك الحين (1859)، إذ أنها، أكثر ما تتمحور من حول أحداث ومن حول عواطف شخصياتها ونفسياتها، تدور من حول المجابهة الأخلاقية والفكرية بين أربعة أنماط من البشر: العامل البسيط غير القابل للفساد، مالك الأراضي الغني الباحث عن المتعة بأي ثمن ومن دون أي رادع أخلاقي، والمرأة الرومانسية المستسلمة أمام عواطفها والتي يقع في حبها النمطان السابقان، وأخيراً الواعظة الأخلاقية التي تمارس تأثيرها الشافي على الجميع. إذا كانت «آدم بيد» الأشهر بين أعمال جورج إليوت، فإن روايتيها الأخريين: «طاحونة على نهر فلوس» (1860) بطابعها كسيرة ذاتية مواربة لكاتبتها، و«ميدل مارش» (1862) التي تسرد تحليلاً شاملاً وثاقباً للحياة الريفية خلال الحقبة الأولى من العصر الفيكتوري، لا تقلان أهمية عن «آدم بيد». وجورج اليوت تمكنت في الروايات الثلاث معاً، كما في بعض الأعمال الأخرى الأقل أهمية، من أن ترسم بخاصة أخلاق شخصياتها في علاقة مع بيئتهم ونفسياتهم، من دون أن تصور لنا كيفية تأثر هذه النفسيات بالأحداث. ومن هنا فإن لغة التأمل الأخلاقي هي التي تسيطر دائماً على عمل هذه الكاتبة التي، حتى حين فقدت إيمانها بالكنيسية بعد أن كان ذلك الإيمان عميقاً، ظلت محتفظة بحس أخلاقي، كان يتحول في بعض أضعف لحظات رواياتها إلى وعظ ممل، هي التي كانت ترى انه إذا كان بعض الناس يعتبر أن ليس عليه واجبات تجاه الكنيسة، فإن عليه واجباً تجاه الأخلاق. كما كانت ترى أن الإنسان لا يجب عليه أن يكون متفائلاً أو متشائماً، بل واعياً متبصراً لا أكثر، خصوصاً أن التطلع إلى الخير هو وحده الذي في إمكانه أن يحسن وضعية العالم والبشر. ولدت ماري - آن ايفانز (جورج إليوت) العام 1819 ورحلت العام 1880، وهي كانت سيدة بيت منذ السادسة عشرة حين اعتنت بأبيها النجار في مسقط رأسها الريفي، بعد وفاة أمها. لكن هذا لم يمنعها من أن تقرأ كثيراً وتتقن العديد من اللغات. أما موت أبيها في العام 1849 فإنه كان ما حررها، عائلياً ولكن مالياً أيضاً، إذ أنها ورثت عنه ما مكّنها من الانتقال إلى لندن، حيث ارتبطت بمفكرين وكتاب كان من أبرزهم هربرت سبنسر الذي عرفها على جورج لويس، الذي سترتبط معه. وهي عزّزت تحت تأثير هذين، نزعتها اللاأدرية. ولقد انعكس تفكيرها هذا على رواياتها التي ما أن نشرت حتى حققت نجاحاً كبيراً وسجالات أكبر. [email protected]