تخرج ليلى من منزلها السابعة والنصف صباحاً ولا تعود إليه قبل الخامسة مساء. حياة هذه الصبية الآتية إلى دمشق حديثاً من إحدى قرى القامشلي شمال شرقي سورية حيث المساحات الخضراء الممتدة مع الأفق، تبدلت جذرياً. خلال أيام قليلة أصبحت فتاة تقضي ساعات طويلة وراء إحدى المكنات بين أربعة جدران، فضلاً عن اعتماد أهلها عليها في تأمين بدل ايجار المنزل الذي استئجر في إحدى الضواحي، فيما يتكفل شقيقاها الآخران ووالدها بأمور المعيشة وادخار ما يمكن ادخاره. لا تختلف ليلى عن آلاف الشباب والفتيات القادمين من شتى القرى والبلدات السورية البعيدة بحثاً عن حلم العيش في العاصمة حيث وهم "كل شيء متوافر وكل شيء ممكن التحقيق". الحلم نفسه يتكرر كما في معظم العواصم والمدن الكبرى في عالمنا العربي، مع تمايز خاص ربما بدمشق يفرضه النمو الهائل في أعداد القادمين للعيش في محيط هذه المدينة التي تضاعف عدد سكانها خلال العقدين الماضيين. الشباب هم الأكثر تحسساً بهذا التغيير الجذري. هنا تنشأ مجتمعات جديدة تختلف عن مثيلاتها في القرية أو البلدة البعيدة، فينخرط الأبناء القادمون للعمل أو الدراسة في علاقات جديدة بل ويحتاج الكثير منهم إلى وقت طويل للتأقلم والتماهي معها. ويقول مسعود الآتي من قرية في شمال حلب: "أمضي ساعات طويلة في العمل تمتد إلى 16 ساعة متواصلة أحياناً، ما جعلني بعيداً من الاختلاط بالناس إلا في ما يخص عملي. وحتى في أيام الجمعة العطلة الأسبوعية نادراً ما أخرج من المنزل حيث يجتمع أخوتي وبعض أقاربنا الذين جاؤوا مثلنا إلى دمشق". شباب آخرون يفضلون التواصل مع أقاربهم وأبناء منطقتهم وربما قريتهم الذين اجتمعوا بهم هنا في الأحياء المكتظة المحيطة في دمشق كالسيدة زينب، ومعضمية الشام، والحجر الأسود، والسبينة، وعش الورور. ويشير سامر 22 عاماً الى هذا الوضع، فيقول إنه ولد في الحي نفسه الذي لا تزال عائلته تقطنه: "لقد جاء والدي واشترى هذا المنزل إلى جوار اخوته وأبناء عمومته الذين سبقوه قادمين من درعا إلى دمشق حيث العمل والجامعة وتحسين مستوى المعيشة". ويضيف الشاب الذي يدرس في كلية العلوم ويقطن في حي نهر عيشة: "أصدقائي هم من أبناء الحي ذاته وكلهم أقارب لي ومن أبناء بلدتي الأصلية جنوب سورية، نسهر عادة مع بعضنا ونشارك في أفراح ومناسبات الآخرين معاً!". غير أن هذه "الميزة" التي يعيشها سامر لا تتوافر لكثير من الشباب المتعلقين "بالضيعة" أو القرية حيث ترك الأصدقاء والأحباب، كما تقول ألين 32 عاماً، مضيفة: "لا أنكر أن لي بعض الصديقات هنا بخاصة وأنه مضى على وجودي نحو 9 سنوات لكن هذه الصداقات سطحية تحكمها علاقات العمل أو الجوار على الأغلب، أما علاقات الصداقة الأهم فهي في الواقع هناك في سلمية مع زميلات دراستي منذ المرحلة الابتدائية وحتى أيام المراهقة والشباب". وتقول ألين العاملة في مصنع خاص لإنتاج الأغذية: "اضطررت كالآلاف غيري للقدوم إلى دمشق بحثاً عن العمل، وتعيش معي الآن شقيقتان إحداهما موظفة والأخرى تدرس في الجامعة وكلتاهما لا تستطيعان البقاء في مدينتنا الصغيرة". ألين غير مرتاحة حتى الآن لظروف حياتها هنا والأمر لا يتعلق بالناحية المادية كما تقول: "فهذه شكوى مملة نتحدث عنها يومياً، لكن الأمر يتعلق بعدم الانسجام مع الحياة التي نعيشها وسط خليط يضم عشرات العائلات القادمة حديثاً من شتى المحافظات والمستقرة في الحي عينه الذي استأجرت فيه شقتي". العائلات الوافدة إلى جوار دمشق تعلن عن نفسها بأكثر من طريقة حاملة معها عاداتها وموروثها إلى هنا حيث تتجاور الأسر وتحتك ببعضها يومياً. الجميع يبحث هنا عن دراسة أو ربح في عمل أو تجارة بسيطة لتتحول الجهود جميعها نحو تحسين الدخل ولو على حساب الصحة. ثمة تمازج واضح تعكسه أسماء المحلات والحوانيت المنتشرة في الأزقة الضيقة فترى تسميات نقلها الشباب معهم وأصروا على استخدامها، من قبيل "تسجيلات دجلة" في إشارة من صاحبها عن قدومه من الحسكة أو القامشلي، و"بقالية الفرات" كناية عن النهر المعروف الذي يخترق محافظتي دير الزور والرقة، وصولاً إلى "سوبر ماركت الجولان" أو "حوران" و"الساحل" و"العاصي". وينتقل هذا التمازج إلى العادات وأبرزها الأعراس، فيصر الشباب على تلوين أعراسهم بما حملوه معهم من قراهم الأصلية غناء ورقصاً وطقوساً أخرى. ويقول حسان القاطن في منطقة السبينة: "نحاول الحفاظ على عاداتنا لكن المهمة تبدو شبه مستحلية، نحن نقطن في هذه المنطقة منذ نحو 20 عاماً وفي وسط مزدحم بالقادمين من القنيطرة، لكن مع ذلك هناك أمور كثيرة تغيرت وتسللت إلى مراسم الأفراح والأحزان والأعياد". ويضيف الشاب الذي يعمل سائقاً على إحدى حافلات النقل العامة: "في القرية تستطيع أن تقيم عرساً كبيراً بكل تفاصيله وتقاليده والكل يشارك مسروراً وحريصاً على إنجاح المناسبة، لكن هنا الوضع مختلف جداً ومع ذلك يصر أهلنا على إتمام هذه المناسبات بالطقوس نفسها، ففي العرس يجتمع آلاف البشر بدعوة ومن دونها وغالبيتهم العظمى من المراهقين والعاطلين عن العمل والباحثين عن التسلية". ويضيف حسان: "لذلك نادراً ما تجد عرساً من أعراسنا يمر بسلام من دون أن تعكره مشكلة يفتعلها مراهق فقد صوابه تحت تأثير المشروب أو في مصادمات بين آخرين يجدون في مثل هذه المناسبات فرصة للاستعراض أو حتى تصفية المشكلات". ويحاول مروان 33 عاماً تفسير هذه الظاهرة التي تشكل عنواناً لافتاً في كثير من الأحياء المكتظة، فيشير إلى أن "الناس لا تعرف بعضها، وكل عام يأتي أناس جدد ومن أماكن مختلفة بحيث تحولت هذه المناطق إلى خليط يضم أعداداً من العائلات الفقيرة أو المتوسطة، وبذلك يصعب وضع ضوابط لسلوك الأبناء". ويضيف: "إن الروابط السائدة في القرية لم تعد موجودة هنا، فلا وجود لكبير العائلة الذي يأتمر الباقون بأمره ناهيك بتشتت الأسر". والكلام عينه يؤيده أحمد 28 عاماً مستشهداً بمشكلات عايشها شخصياً في هذه الأحياء، ويقول: "لقد أصبحت ظاهرة تجمع المراهقين على ناصية الشوارع والأزقة وأمام المدراس جلية وتزعج المارة وهي مرشحة للتطور في ظل انتشار البطالة وجلوس الآلاف من الشباب في المنازل من دون عمل". إلا أن هذه الصور والشكاوى ليست هي الجانب الوحيد للحياة في الأحياء المحيطة بدمشق، بل "هناك نجاحات باهرة على المستويين المادي والمعنوي"، يقول محمد 29 عاماً، مضيفاً: "إن كثيرين من زملائي وأصدقائي تعلموا في هذه الأحياء وتمكنوا من الوصول إلى الكليات العلمية الأعلى بل إن بعضهم واصل تخصصه في الدراسات العليا". ويتابع الشاب الذي تخرج في كلية الطب وافتتح عيادته أخيراً في الحي الذي درس فيه: "لو بقيت في قريتي البعيدة لما تمكنت من مواصلة دراستي ودخول كلية الطب، هذه حقيقة أعرفها ويحدثني عنها والدي كل يوم والأمر ذاته ينطبق على المئات وربما الآلاف من الذين تخرجوا في جامعة دمشق ومعاهدها وخرجوا من هذه الأحياء المكتظة التي قد لا تعجب أحداً الآن". هكذا ابتلعتني المدينة ! ما زلت أذكر جيداً يوم أتيت الى دمشق للمرة الاولى. كان ذلك في صيف 1992 موعد التسجيل في المفاضلة العامة. حملت وثائق نجاحي في الثانوية العامة وقليلاً من التين المجفف والعدس والحمص إلى عائلة من أقاربنا كانت قد غادرت منذ سنين طويلة إلى منطقة الحجر الأسود، الضاحية الملاصقة لدمشق. استغرقت الرحلة نحو ثلاث ساعات من ضيعتي الوادعة في أطراف محافظة حماة إلى حيث رسمت أحلاماً وردية للدراسة والوظيفة الرفيعة المستوى في العاصمة. منذ اللحظة الأولى أحسست بوطأة الازدحام البشري والتلوث ورحت طوال الأشهر اللاحقة أحاول التوفيق بين ما كنت عليه في ضيعة أعرف كبيرها وصغيرها وارتبط بهم بعلاقة مودة واحترام، وبين حيّي الحالي حيث يقطن نحو ربع مليون إنسان وسط علب متناثرة من الاسمنت ترسم في ما بينها أزقة ضيقة. مضى على إنهائي الدراسة قرابة سبع سنوات ومع كل يوم يمر أستصعب العودة إلى "الضيعة". لقد اصبحت لي وظيفة هنا كما اشتريت منزلاً متواضعاً بمساعدة الأهل وأجد نفسي أغوص مثل عشرات الآلاف الذين قدموا على أمل العودة القريبة إلى الضيعة. باختصار المدينة تبتلعنا واحداً إثر الآخر وسط انهماك الجميع بالجري وراء متطلبات المعيشة. سالم 29 عاماً