لا شك في ان الجزيرة العربية وبلاد العرب عموماً، بدت في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر خصوصاً، مركز الانبهار الحقيقي لرحّالة الغرب. إذ كان هناك، أكثر من نداء، استجاب له هؤلاء القادمون من قلب الحضارة الأوروبية، الى الأرض البعيدة المترامية في مقلب البحر الأحمر والربع الخالي وبحر العرب. فمن نداء الإسلام، الى نداء الصحراء وغموضها، الى استطلاع الأرض التي أنبتت "الفارس العربي"، في نجد والحجاز، بالإضافة الى آلاف القصص والأساطير والحكايات، اجتمعت عوامل كثيرة، استطاعت ان اتجتذب بقوة لا مثيل لها قوافل الرحالة المستشرقين، الذين شدّوا الرحال الى بلاد العرب والمسلمين، حالمين أو مستطلعين أو مستكشفين. وفي طليعة هؤلاء يأتي المستشرقون الاسكندنافيون. إذ بدأ الاستشراق في فنلندا مع تأسيس أول جامعة في "توركو"/ العاصمة العام 1640م. ولا تزال جامعة هلسنكي تضطلع الى اليوم بالدراسات العربية والإسلامية وذلك في قسم الدراسات الآسيوية - الأفريقية التابع لها. ووضع المستشرقون الاسكندناف كتباً عن الشرق العربي الإسلامي، سجّلوا فيها وصفهم وانطباعاتهم عنه. كما قاموا برحلات طويلة الى البلاد العربية، من أجل أن تأتي دراساتهم وكتاباتهم أكثر دقة وأمانة للواقع السائد في بلادنا. وهذا ما أتاح لهم أن ينقلوا صورة عن المنطقة العربية، الى فنلندا نقلاً منصفاً، وذلك من خلال التحقيقات، ومن طريق مشاهدة الأماكن التي قاموا بزيارتها. ومن خلال اضطلاعهم اليومي والوقائعي والعلمي، بدراسة الإسلام، ودراسة اللغة العربية وآدابها. ويعتبر جورج أوغست فلين/ الملقب ب"عبدالولي"، أكثر المستشرقين الاسكنديناف شهرة، على رغم قصر عمره 1811 - 1852 الذي لم يتجاوز ال41 عاماً. كما يعتبر كتابه: "صور من الجزيرة العربية" جورج أوغست فالين عبدالولي: صور من شمالي جزيرة العرب في منتصف القرن التاسع عشر، ترجمة سمير سليم شبلي. مراجعة يوسف ابراهيم يزبك الطبعة الثانية/ هلسنكي. من بين أهم الكتب التي وضعها الرحالة المستشرقون أو الاسكندنافيون عن البلاد العربية التي زاروها، بدافع الاستطلاع أو الاستكشاف. إذ بدا فالين كثير الاهتمام بطبيعة المنطقة التي زارها، وبأحوال الناس الذين اختلط بهم، وباللغة العربية التي أحبها وشغف بها وبالدين الإسلامي الحنيف الذي سرعان ما آمن به واعتنقه، وبالحضارة العربية الإسلامية، التي أغنت بلاد العرب والمسلمين وتأثر بها العالم الأوروبي حتى فجر النهضة العلمية. ولا غرو، فقد شرع فالين في دراسة اللغة العربية وحضارتها في جامعة هلسنكي العام 1829، بعد أن أنهى دراسته في مدارس "توركو" في فنلندا. وكانت أطروحته بعنوان: "مقارنات في العربية بين الفصحى والعامية" والتي نوقشت سنة 1939. ثم تعمق في دراسة اللغة العربية في جامعة بطرسبورغ، وعاد الى هلسنكي، لتظهر له أبحاث ودراسات في الشعر العربي وفي مقامات الحريري وفي كتاب ألف ليلة وليلة. وهذه الرغبة الجامحة في حب العربية وأهلها، هي التي أملت عليه الخروج في ثلاث رحلات متتالية الى بلاد العرب بتشجيع من جامعة هلسنكي. فكان ان غادر الجامعة في تموز يوليو العام 1843 الى باريسفالقاهرة، فوصلها في كانون الثاني يناير من العام 1844 وأقام فيها لمدة عام تقريباً. رحلة 1845: وفي شهر نيسان ابريل من العام 1845، غادر فالين القاهرة عبر جزيرة سيناء، ومرّ في صحراء الجوف. وبعد أربعة أشهر، تابع طريقه الى مكةالمكرمة، وأدى فيها مراسم الحج، كما طاف مع الحجاج وأقام الصلاة، وتلقب ب"الحاج عبدالولي". واستمرت رحلته هذه، عاماً كاملاً، الى ان عاد الى القاهرة في آذار مارس العام 1846. ويذكر فالين ابتداءه في هذه الرحلة فيقول: "استأجرت دليلين من قبيلة "حيوي" ليرافقاني من عاصمة مصر الى العقبة التي قررت الانطلاق منها، عبر جبال الشراة الى مدينة الجوف في داخل صحراء البلاد العربية الشمالية، فغادرنا القاهرة الى السويس في الثاني عشر من شهر نيسان سنة 1845، واتبعنا طريق التجار الى الهند، فوصلنا بعد يومين الى عجرود، أول محطة في طريق الحج المصري الى مكةالمكرمة". ص 11. وكتب أثناء هذه الرحلة، يومياته ووقائع أحداثها وأوصاف طبيعتها ومشاهداته العينية والعلمية يوماً فيوماً. فهو يقول مثلاً: "في نيسان - وصلنا بعد ساعة وربع الساعة الى آبار قريش في وادٍ عميق، أرضه طبشورية بيضاء، ينحدر من الشمال الغربي الى الجنوب الشرقي، وهي ست آبار، مياهها على غزارتها، ضاربة الى الملوحة. ووصلنا بعد ثماني ساعات الى وادي القيه. وهنا تعدّدت اتجاهاتنا، فسرنا في أودية عميقة وضيقة، وفي ممرات وعرة في قمم الجبال، حتى وجدنا مضارب دليلي". وفي مكان آخر يقول: "قضيت هنا بضعة أيام، واستشرت مضيفي على أحسن الطرق الى الجوف وأكثرها أمناً، فنصح لي بالعدول عن الذهاب الى العقبة، وأشار عليّ بأن أتبع طريقاً أقصر يمرّ عبر وادي عربة وسلسلة جبال الشراة الى "معان"، ووعد بمرافقتي الى أحد أقاربه رئيس شيوخ قبيلة "العُمران" الضاربة في المنحدرات الشرقية من الجبال التي ذكرتها". 17. ولا شك في أن الجزيرة العربية التي ظلت الشمس، طوال عشرين عاماً، تحولها من دون هوادة الى رمل وصخر، على حدّ تعبير بيتر برنت، كانت مغرية الى حدّ بعيد بالنسبة الى جورج أوغست فالين. إذ وجد انه من شبه الجزيرة هذه، طلعت أكثر الهجرات خصوبة في تاريخ العالم، ومنها طلعت تلك الدعوة المشرقة المملوءة بالإيمان التي غيرت التاريخ في ثلاث قارات. وقد حركت الحياة المطلقة بين الرمل والفضاء، بين القمر والشمس، فحيلة هذا الرحالة الفنلندي الشاب، على صعيد ايقاع القوافي الجميلة واللغة العربية الجميلة، مما جعله ينصرف لدراسة هذه الآثار العربية في بيئاتها ويستطلع نابتها ويقف على منابعها ويقرأ شواهد اطلالها. وهذا ما أحفزه للحاق بالقوافل الصعبة على أرض الصخر البركاني الحار والرمل الطيَّار المتعدد الألوان والظلال. فكان ان أدهشه أيضاً ذلك البدوي الحرّ، الفقير، الشجاع والجميل. إذ البداوة على حدّ تعبير كارستن نايبور، تساوي الحرية. و"الفقر لدى العربي الجوال/ البدوي، أمر طوعي تماماً، لأنه يفضل الحرية على الثروة، والبساطة على حياة التغيير والضنك مهما كانت عوائدها. معان - طريق الحاج السوري وسوقهم ويصف فالين مدينة معان التي وصل اليها برفقة دليله الجديد الشيخ حميد بن سلمان العمراني فيقول: انها من أكبر البلدان في طريق الحاج السوري. اختلط أهلها بالمهاجرين النازحين اليها من القرى السورية الأخرى. وهم أقوياء البنية، سوريو الملامح، يستطيعون تعبئة قوة محاربة من مئة وخمسين مقاتلاً، وهم يخضعون لشيوخ القبائل المجاورة من الشرارات والحويطات وعُنزة ويدفعون "الخوّة" لها. وإذا كانت الخوة شائعة بين العرب الرحل، فإن الصلات بين القبائل كانت على ثلاثة أنواع: صلات الأخوة وتشمل حماية الغرباء والقرويين. وصلات الصداقة، وهي لا تضمن حماية الغرباء. أما إذا لم يكن هناك علاقة صداقة أو أخوة، فالقبائل عدوة بعضها بعضاً. ويقول ان البدو يعدّون جميع المزارعين الحضر أعداء طبيعيين لهم، ولا يجيزون اقامتهم في أراضيهم إلا بحماية يمنحونهم اياها لقاء ثمن يستطيعون الحصول عليه. ويصف فالين معان في أيام الحج، فيعتبرها أهم الأسواق في خلال اليومين اللذين تحط فيهما عادة قوافل الحج السوري، وهي في طريقها الى مكة. إذ يجتمع البدو في هذا الموسم في معان آتين اليها من الصحراء القريبة فتصير مكتظة بالناس، تماثل أشهر الأسواق الدورية في أوروبا على حدّ تعبير فالين نفسه ص23. ويقول ان الصناعيين الرئيسيين في معان، هم نحاس وحدّاد وصانع سلاح. وقد نزحوا اليها من الخليل. وجميع سكانها بلا استثناء، حنفيون، يدققون في تأدية فرائض الدين، على جهلهم للشريعة والأدب العربي مثل سائر أبناء الصحراء. ويبلغ فالين في رحلته هذه من معان جبال الشراة. ويقول: سكان هذه الجبال هم من قبائل الحويطات يأتون الشعائر ظاهراً ويجهلون كل الجهل أمور الدين كلها. وفي 25 من أيار مايو، يصل الى سلسلة جبال "جال الجوف" التي تحيط بالوادي الدائري الشكل حيث مدينة الجوف. ويراها تشكل جوف القسم الشمالي من الجزيرة، إذ تمتد سلسلة الجبال في وادي الجوف حتى تصل الى النفوذ والدهناء، في الجهة الجنوبية من الجوف. وفي هذه لجبال تنتصب قلعة المارد المطلة على الجوف والوادي بكامله، وهي خربة خالية من السكان، تبدو وكأنها مركز البلدة، إذ شيدت حولها الأسواق والأحياء. ويرى فالين ان سكان الجوف تسودهم العادات والطباع والملامح السورية. كما تغلب الهندسة السورية على منازلهم. ولذلك فإن اتصالهم بسورية أنشط من اتصالهم بالعراق. وتتألف الجوف من 12 حياً تسمى أسواقاً هي: الغرب والدرع والسعيديين أو السراح والرجيين والعلاج وخذما والدلهمية والقراطين والوادي وغُطّي والسعيدان والجرعاوي. ويقول فالين ان البلدة عند ظهور الإسلام كان يحكمها حاكم مسيحي اسمه الأكيدر يقيم في قلعة مارد، هزمه خالد بن الوليد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وإذ يعتبر فالين ان أهل الجوف يتميزون بطباعهم القاسية، غير انه يصرّح أيضاً بأن الجميع يشهدون لهم بأنهم مضاييف كرماء ومهذبون مع الغريب. كما أنهم يفوقون البدو الآخرين بمواهبهم الشعرية والموسيقية. ويقول: ان سكان الجوف يعتقدون ان مدينتهم وسط الدنيا، ولذا يطلقون عليها اسم جوف الدنيا. إذ انها على مسافة واحدة من دمشق والنجف والمدينة في الحجاز والكرك في فلسطين. ويذكر ان الجوفيين لا يزورون العراق إلاّ نادراً. وواصل فالين رحلته من وادي الجوف باتجاه جنوبي شرقي فوصل الى جبال "الطوال" ثم الى جبة في سهل فسيح إهليلجي. وقد وصف جبة ومنازلها من اللبن وآبارها وأشجارها. كما تحدث عن عائلاتها وتقاليدهم. ثم قصد من هناك جبل شمّر حيث يقع جبلا: أجأ وسلمى المشهوران لطيء. وقد توقف عند هذين الجبلين، ودرس كل ما وقع تحت ناظريه أو ما سمعه بأذنيه أو ما خالج فكره وهزّ نفسه. ولشدّ ما هزّه رفقة الصغار للمسنين، يأخذون عنهم الحديث ويتعلمون منهم التقاليد ويحفظون الشعر. وقد وصل أيضاً الى حائل، حين ذهب مع قافلة الحجاج العراقيين والفرس الى المدينةومكة، متماً فريضة الحج بعدما شهر إسلامه، واصفاً كل ما كان يشاهده من حجر أو بشر أو شجر، ملقباً نفسه بالحاج عبدالولي. رحلة 1848: إذا كان فالين قد بدأ رحلته الثانية الى فلسطين خلال كانون الأول ديسمبر من العام 1846 من القاهرة، غير أنه عاد اليها في العام 1847 ليبدأ رحلته الثالثة في كانون الأول من العام 1847 باتجاه البحر الأحمر ومرفأ المويلح على الشاطئ الغربي للجزيرة العربية. ومنها الى دمشق فبيروت. ثم نراه يعبر البحر الى الاسكندريةفالقاهرة، التي وصلها في حزيران يونيو من العام 1849. وعرفت رحلته هذه برحلة 1848. ويذكر ان فالين أنهى رحلته الأخيرة متوجهاً الى الاسكندرية فهلسنكي ماراً بلندن، ليحصل على جائزة "الجمعية الملكية الجغرافية" عام 1850، كأحد أوائل الأوروبيين الذين اجتازوا شمال الجزيرة العربية. يقول فالين عن ابتداء هذه الرحلة: "انطلقت من القاهرة في أواخر سنة 1847، وفي الطريق التي تمرّ بقرب بلدة السويس، عبر منبسطات الشاطئ... وبعد سفر طال ثمانية أيام وصلت الى الطور، وهو مرفأ قلّ ان لا تتوقف فيه المراكب التي تمخر هذا الخليج، وقدرت أني استطيع تأمين نقلي بسرعة بحراً، عبر الخليج، الى محلة ما على ساحل بلاد العرب المقابل". ص 137. ويصف فالين الشرم الذي يعرف بعذوبة مائه وأمن مرفأيه. ويقول ان الصيادين المقيمين في الميناء فقراء الحال، من أصل بدوي. وان أراضي هذا الجزء من بلاد العرب تعرف بالساحل. ومن هناك انتقل الى النفوذ فوادي كحلة فوادي صواوين فوصل الى مرتفعات تفصل بين جزءين مستقلين من بلاد العرب كما يقول. ومن يتتبع فالين في رحلته هذه يجده يتحرى حالة القبائل وأوضاع المناطق وائتلاف الناس بالأرض، فهو يقول في هذه الرحلة داخل الحجاز: "ليس لحد علمي ان بين العرب الرحل، أو في القرى والمدن داخل البلاد العربية، اشخاصاً يعتنقون غير الإسلام ديناً. "ذلك "لأن الدين الإسلامي يأتلف كل الائتلاف بالبلاد التي نشأ فيها" ص 155. ويتحدث فالين عن تبوك وعن جبال الحرّة في ناحية وادي نجد. كما يتحدث عن "الوجه" ووادي القرى وتيماء وجبل قيسي وجفرة العراق، بأسلوب علمي دقيق. * أستاذ في الجامعة اللبنانية.