ارتفاع الدولار بعد رسوم ترامب على الصلب والألمنيوم    «الإحصاء»: ارتفاع مؤشر «غير النفطية» 4 %    بدء العمل في إنشاء قاعدة تصنيع جديدة في الرياض    أم تقتل ابنها المعاق بعد تشخيصها بسرطان مميت    المنتدى السعودي للإعلام 2025.. منصة عالمية تستشرف المستقبل والتحولات المقبلة    رئيس "سدايا" بجلسة مصاحبة لقمة باريس : المملكة قدّمت أنموذجًا رائدًا في تعزيز الحوكمة الشاملة للذكاء الاصطناعي على المستويين الإقليمي والعالمي    مستشفى دله النخيل بالرياض ينقذ مريضة من ورم في الرقبة ممتد للقفص الصدري    الصحة العالمية: الصرع لا يزال محاطًا بالوصمة الاجتماعية    رياح وأمطار خفيفة على بعض المناطق    السماح بإقامة الأكشاك في مواقف المجمعات التجارية    المملكة.. مواقف تاريخيّة لدعم فلسطين    عبدالعزيز بن سعد يواسي أُسر المايز والتميمي والجميلي في وفاة فقيدتهم    الهلال الأحمر يعيد النبض لمعتمرة إندونيسية    تسجيل 1383 حالة ضبط في المنافذ    العيسى يلتقي رئيس وزراء غينيا بيساو ويقف على برنامج جراحات العيون    حل الدولتين ثمنه باهظ.. لكن فلسطين تستحق هذا الثمن    سباق تدّمير العقول    تواصل أمريكي – روسي لإنهاء الحرب الأوكرانية    السودان.. إعلان خارطة طريق لما بعد الحرب    سيادة المملكة «خط أحمر»    السفير الإيراني ل «عكاظ»: لا رجعة عن مسار التواصل والتفاعل بين السعودية وإيران    ولي العهد يستقبل رئيس اللجنة الأولمبية الدولية    استعرض العلاقات الثنائية وتعزيز التعاون مع البلدين.. وزير الخارجية يبحث مع نظيريه الأرجنتيني والأوكراني المستجدات الدولية    في الجولة ال(21) من دوري يلو.. قمة تجمع الحزم والطائي.. ونيوم والنجمة يواجهان العين والصفا    القادسية والعروبة يصعدان لأولى اليد    بونو: أكبر خصم للهلال هو الهلال    «المناورات» تجهّز الأهلي والنصر ل«قمة الإنماء»    الجوير ينافس 4 أجانب على صناعة اللعب في«روشن»    مصر تستضيف قمة عربية طارئة حول تطورات القضية الفلسطينية    تخريج الدورة التأهيلية للفرد الأساسي للمجندات الدفعة السابعة بمعهد التدريب النسوي    موجز اقتصادي    وزير الصحة يزور جناح وزارة الداخلية في «ليب 2025»        غيبوبة على الطريق.. تنتهي بحفل تكريم «اليامي» !    شاهد.. الإطاحة ب 3 شبكات إجرامية تمتهن تهريب المخدرات والاتجار بها في 3 مناطق    عزّت مفتي إلى رحمة الله    مناطق الجنوب الأقل ممارسة للسباحة    «هيئة الأدب» تنظم «جازان للكتاب» وتبرز إرث المكان    وزارة الثقافة تشارك في مؤتمر «ليب 2025»    «الدارة» تصدر كتاباً حول القطع الفخارية المكتشفة بتيماء    الأوركسترا والكورال الوطني.. روعة الإبداع في شتى الصور    %75 نسبة تفوق الحرفيات على الذكور    إرث الصحراء    ضمك.. جبل ونادٍ    شعبان.. محطة إيمانية للاستعداد لرمضان    حسن التعامل    لكمة السرعوف تعادل رصاصة عيار 22    دورات لتعزيز مهارات منسوبي الحرس الملكي    ولادة أول صغار المها بمحمية عروق بني معارض    كيف يتكيف الدماغ بسرعة مع التغيير    ميكروبيوم معوي متنوع للنباتيين    الاتحاد السعودي لكرة القدم يقيم ورشة العمل الإعلامية الرابعة    أمير الشمالية يتسلّم تقرير الإحصاء    القيادة تعزّي رئيس ناميبيا في وفاة الرئيس المؤسس للجمهورية    وفاة الممثلة السورية إنجي مراد    من أعلام جازان.. الشيخ العلامة الدكتور محمد بن هادي المدخلي    الحجاج في القرآن    مفوض الإفتاء موجهًا رؤساء الجمعيات اللحمة الوطنية من القيم الأساسية التي تعزز من تماسك المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشمال اللبناني من جديد مسرح للعنف الجنسي . ملامح من صورتي الجاني والضحية ... فهل الجريمة قدر موقع ؟
نشر في الحياة يوم 03 - 06 - 1999

لا تمر أشهر من دون أن يهتز الرأي العام اللبناني بجريمة في الشمال اللبناني ضحيتها طفل، والجاني وهو ضحية ما شاب أو شابة: حادث الطفلة فاطمة الجاسم التي عذبت في منزل مخدومتها، وحادث الشاب الذي أحرق خطيبته لأنها طلبت منه الزواج. وبين هذه الحوادث تنشر الصحف في أعمدتها الداخلية وقائع اغتصابات وجرائم جنسية متفرقة، الشمال ساحتها أيضاً. أما الحادث الأخير فكان اغتصاب الطفل أحمد الصيداوي وقتله ثم اغتصابه ميتاً من قبل الشاب علي القدور.
"الحياة" زارت منطقة حصول الجريمة المجاورة لمناطق حصول الجرائم الأخرى وحاولت تحديد ملامح بيئة الجريمة هناك، علماً أنها بيئة الضحايا أيضاً.
السابعة والنصف من مساء الأحد 23 أيار مايو الماضي، وقف علي القدور على زاوية في ساحة تتوزع منها عشرات الأزقة في محلة الميناء في مدينة طرابلس. في هذا الوقت حيث الباعة المتجولون عائدون الى منازلهم بغلالٍ قليلة. وأطفال لم يتجاوزوا سن العاشرة يحملون ألواحاً خشباً ثقيلة وضعوا عليها كعكات بقيت لديهم مما باعوه على مدى النهار. وفي ذلك الوقت تجمع صبية الحي عند أسفل تلك المباني المتلاصقة والمتآكلة المختلط اسمنتها ببقايا أحجارٍ كانت تؤلف جدراناً لمباني قديمة، غطي نصفها السفلي بطبقة رقيقة من الإسمنت في الانتخابات النيابية في العام 1996، ثم دهن هذا النصف بطلاء أبيض في الانتخاباات البلدية.
في الركن المقابل للزاوية التي وقف فيها علي، كان الطفل أحمد الصيداوي يلعب مع رفاقه في بهوٍ قديم مطل على نافذة منزله التي تخرج أمه رأسها منها منادية عليه كلما تأخر، نادى علي على أحمد، وقال له أن شقيقه الأكبر وهو صديق علي، طلب من الأخير أخذ الطفل الى البحر وتعليمه السباحة، جر أحمد من يده عابراً تلك الأزقة الضيقة التي تنتهي بكورنيش الميناء. وهناك وبالقرب من مرفأ صغير للمراكب السياحية وعلى خليج صخري رطب، اغتصبه ثم قتله ثم اغتصبه بعد قتله. أحد الذين شاهدوا علي في التاسعة والنصف مساء، أي بعد حصول الجريمة بقليل، قال أنه لاحظه شاحب الوجه ومرتبكاً، وأنه صعد فور صعوده الى الزورق حيث ينام عادة، علماً أن الزورق صناعة محلية ومعد بطابقيه لنقل السياح الوافدين الى مرفأ طرابلس وخلع ثيابه وصعد الى الطابق الثاني منه وشرع يقفز الى الماء ثم يصعد الى الزورق ثانية ليعود ويقفز من جديد في حركة عنيفة ومضطربة.
في تلك الغرفة الضيقة التي يجلس فيها أشقاء أحمد وأقاربه يتقبلون التعازي، توسطت الجدار المقابل صورة كبيرة لوالد أحمد المتوفى قبل خمس سنوات أثناء صيده السمك في البحر، والى جانبها صورة أصغر منها لشقيق الوالد المتوفى قبله بقليل ولكن بالظروف نفسها. المنزل مؤلف من غرفتين وعدد أفراد العائلة بعد وفاة أحمد أصبح ثمانية أشخاص. يجلس الجد بين المعزين واضعاً يده على قطعة القماش البيضاء التي تغطي المقاعد، مطرقاً برأسه عن الأحاديث التي يديرها أقاربه الآخرون والتي تدور على حجم استهوال الرأي العام للجريمة وتقطع الأحاديث أصوات مفاجئة تطلقها مروحة السقف البيضاء التي تدفع الهواء أيضاً في اتجاه غرفة النساء المجاورة، النساء اللواتي يعبرن مسرعات من أمام أنظار الرجال الجالسين على مقاعدهم. جميع أقارب الضحية صيادون. وأضافت شمس البحر على وجوههم الداكنة شيئاً من الحمرة والتغضن.
لأحمد ثلاثة أشقاء شباب. الأول وهو شاب طويل الشعر ورطبه ويكاد يكون حديث المظهر، يعمل دهاناً في شركة بناء، والثاني يعمل بائع مناقيش في الحي، والثالث يبيع مثلجات على عربة تركها له جده بعدما كبر هذا الأخير. الجميع يتحدثون عن علي القدور، ذلك الشاب الذي جاء قبل ثلاث سنوات من منطقة المنكوبين في ضاحية طرابلس الشمالية، حيث يقيم عشرات الآلاف من النازحين الى المدينة من قضائي عكار والضنية. جاء الى الميناء طالباً العمل. الحديث عن علي متفاوت وتقطعه تحفظات كثيرة. فمن المعروف أنه صديق أشقاء الضحية وصديق معظم شبان الحي الذي قدم اليه وأقام برعاية أهله.
عمل ككثيرين منهم حارساً على زوارق الصيادين، ثم عمل عند رجل من أقارب الضحية يملك قارباً سياحياً ويتزعم فرقة انقاذ بحرية. صادق علي عائلات في حي الميناء، وكان يزورها، فيما كان تردده وخجله مصدر عطف عليه، أنشأ صلات متفاوتة مع الشبان، فبعضهم كان يعمل معه في الميناء حمالاً أو حارساً أو مقدماً خدماته الى أصحاب الزوارق من الأغنياء، وآخرون قالوا انهم كانوا يتبادلون خدمات معه، كأن يساعدهم في عمل ما، ويقدمون اليه طعاماً وملابس، ولم يكن ذلك يحصل على سبيل المقايضة، وإنما بمودة متبادلة. لكن أبناء الحي وبعد مقتل الطفل بدأوا يصبحون حذرين أكثر في الحديث عنه، فيقول شاب كان علي يتردد على منزله ويتناول الطعام وسط عائلته "والدتي لم تكن تحبه، لكنها كانت تعطف عليه". ويقول آخر "كان علي يغيب من الحي ثلاثة أيام أو أربعة لم نكن في أثنائها نعرف عنه شيئاً، ربما كان يمارس أفعاله الشنيعة في أماكن أخرى أثناء غيابه". أشقاء الطفل قالوا أنهم يعرفونه معرفة عابرة، لكنهم قالوا في وقت سابق أنهم يعرفونه جيداً وأنهم يحضرونه الى منزلهم، وأن شقيقهم الضحية ما كان ليقبل بالذهاب معه لولا معرفته أنه صديق أشقائه.
يعيش في حي الميناء نحو 70 ألف نسمة، اكتظاظ السكان في ذروته والاختلاط حاد بين القادمين من أماكن وثقافات مختلفة، عبر البحر والجبل والسهل. الميناء بيئة تهجين دائمة ومفتوحة. أقدم ما يتذكره الأحياء من أبنائها هجرة العائلات الأنطاكية المسيحية التي جاءت من تركيا في عشرينات هذا القرن، هرباً من الاضطهاد التركي، فأقامت في الأحياء المسيحية من الميناء. ولا يعرف أحد من الأحياء أيضاً تاريخاً لبدء النزوح من الساحل السوري الى المنطقة، ومعظمهم حاز جنسيات لبنانية. ولقبوا بأسماء المناطق التي قدموا منها كعائلات لاذقاني وطرطوسي وحمصي وجبلاوي، علماً أن النزوح من مناطق الشاطىء السوري ما زال مستمراً الى اليوم. ثم ان نزوحاً داخلياً ومستمراً ما زال يرفد الميناء بفقراء القرى العكارية اللبنانية، فضلاً عن السكن الفلسطيني القديم والمستجد.
يقف الشرطي البلدي على مدخل الحي مشيراً بيده الى ذلك الخان القديم الذي تسكنه اليوم نحو 40 عائلة، محتجاً على أصوات النسوة المنبعثة من بين قناطره التي نال الدخان الأسود الطالع من مواقد حلل "الغسيل" من مهابتها. أقفلت في ذلك الخان قناطر أخرى بأحجار الباطون لتتسع شرفاته لسكن عائلات جديدة وافدة من عكار وسورية، وقال محدثنا الطرابلسي أن هؤلاء لم يأتوا جماعات وإنما على مراحل ومن أماكن مختلفة وهم لم يتعرفوا بعضهم الى بعض الا هنا. لكنهم تجاوروا واختلطوا وتزوجوا وانجبوا أولاداً، وبدأ جيل جديد لا يعرف إلا هذه الأمكنة والأحياء. كل ذلك يشعرك أن هذا التجاور والدمج الجسدي والاجتماعي والذي يقابل بفصلٍ حاد بين الجنسين، ألغى الحدود الضرورية التي تفصل الأجسام والأشخاص والعائلات، وأتاح امكان حصول أنواع من المزج لا يمكن توقع ما سيحدثه، وتقوم بين هؤلاء الناس علاقات لا توزن إلا بميزان الإلفة، ولا يعقلها إلا ذلك الدفء الذي يحدثه الاحتكاك والتجاور. فالعيش في مثل هذه الظروف يتطلب أنواعاً من التضامن بين أخلاط رهيبة التنافر. انه وسيلة الحماية الوحيدة، حتى علاقات العمل التي تفترض مصالح وحسابات أخرى، خاضعة بينهم للدورة نفسها، في حين أن ما يجري في نفوس الأفراد منافٍ لما تفترضه "الجماعة" المؤتلفة، وما يولده هذا التجاور قد ينقلب عنفاً وتصريفاً قاتلاً للغرائز.
قدم أهل علي القدور قبل نحو 35 عاماً من بلدة البيرة في عكار، ونزلوا في منطقة الميناء، وهذا أمر لم يذكره أحد من أبناء حي الميناء حيث وقعت الجريمة. وقبل خمس سنوات انتقلوا للسكن في حي المنكوبين حيث بنوا منزلاً في أرض للدولة هناك. منزل عائلة علي في أعلى المنطقة، ويقع بين منازل قليلة بنيت حديثاً هناك. الطريق اليه ترابية، وكثير من الصخور الناتئة في وسطها لم تسوَّ. معظم المنازل لم يطل أسمنتها، وهي واطئة وصغيرة، ويظهر واضحاً ان الازدحام أتٍٍ اليها في السنوات بل الأشهر المقبلة، لذلك شرع السكان الحاليون يمهدون للقادمين ظروف الحياة المشابهة للأحياء المكتظة، لكنهم استغلوا أيضاً تأخر وصول هؤلاء، فأقام معظمهم عتبات أمام منازلهم، تظللها خيم بعضها معدني وبعضها من القماش الرخيص الثمن. ويبدو أن السكان سرعان ما تآلفوا. على رغم قصر مدة التجاور، وانفتحت أبواب منازلهم لبعضهم، إذ يصعب تمييز سكان المنزل عن الزائرين من الجيران.
ومنطقة المنكوبين ملاصقة لمخيم البداوي للاجئين الفلسطينيين، اختلط سكان أطراف المخيم بسكان المنطقة، ولامس لسان المخيم المتمدد، أطراف منازل المنطقة الجديدة في الحي. فبين جيران أهل علي عائلات فلسطينية كثيرة. وهنا لا بد من ملاحظة أن مناطق الحدود بين هذه الجماعات المتجاورة، التي غالباً ما تشهد اختلاطاً، هي مناطق تزاوج ومصاهرة ولكنها أيضاً مسرح لأنواع من العنف العائلي والفردي. فهناك من لاحظ في بيروت أن هذه المربعات تزدهر أعمال من نوع خطف الأطفال والمقايضة عليهم، ونسب مرتفعة من الطلاقات، وفيها أيضاً حصلت جرائم مشهودة.
تجلس والدة علي وأشقاؤه العشرة، وهو أصغرهم، على تلك المصطبة وتتجمع حولهم نسوة الحي وأطفاله متضامنين. تعمل الوالدة حاجبة في إحدى المدارس، أما الوالد فيعمل بائعاً على بسطة في حي الميناء أيضاً. وهذا ما لم يذكره أبناء هذا الحي الأخير. إذ قالوا أنهم "لا يعرفون أهل الجاني، ويسمعون حكايات بعيدة عن أن والده عاطل من العمل وأن أهله يعانون مشكلات كثيرة".
والد علي لا يعيش مع العائلة وهو مقيم بالقرب من بسطته في حي الميناء، ويردد الجيران والمعارف أن توتراً بين الوالدة والوالد عمره سنوات حال دون سكن الأخير في منزل العائلة، لكن الانفصال عن السكن مع العائلة تقطعه زيارات متباعدة.
على عتبة المنزل تقف شقيقة علي وهي مطلقة صديقه الذي استمر في علاقته به على رغم انفصاله عن شقيقته، لتقول إن زوجها السابق أنكر في التحقيق علاقته بشقيقها، على رغم أنها تعرفت الى زوجها عن طريق علي. ثم تتابع "زوجي السابق كاذب وشاذ، فهو حاول اغتصاب شقيقته أمامي". وتؤكد أن شقيقها كان برفقته لحظة وقوع الجريمة وهذا ما يؤكد براءته، وأن زوجها كان يشركه في "أعمال الحمالة والعتالة عندما يحتاج اليه". تُجمع نساء الحي والشقيقات على أن علي شخص مسالم وبسيط وخجول، ويستدللن الى خجله من الذي فعله ليلة عرس أخته إذ صعد الى سطح المنزل وبقي وحيداً هناك ولم يغادره حتى انتهاء العرس. سيدة أخرى لا تقل حماستها لبراءة علي عن حماسة أمه جاءت بابنتها التي لا يتجاوز عمرها السبع سنوات، وقالت أن علي كان يحممها وينام بقربها ولم يؤذها مرة. ثم وبصوت مرتفع تسأل ابنتها لتؤكد أمام الجميع ذلك "هل فعل لك علي شيئاً"؟ الطفلة أجابت ب"لا" ثم شرعت تبكي، والدة الطفلة لا ترى أن تحميم علي ابنتها أمراً مستغرباً، وتقول لم يكن لدينا ماء ساخن وكنت أرسلها الى منزل أهل علي حيث يتوفر هذا الماء هناك. الحجج التي شرعت النساء في تعدادها لإثبات عدم إقدام علي على فعلته، توحي كم أن حياة سكان هذه المنازل متداخلة في شكل غير مفهوم، وكم أن هذا الاختلاط وليد حياة مرتجلة ويحفها الغموض والفقر والأعمال الهامشية والنزوح والتنقل بين الضواحي الفقيرة، ولا تلطفها في الشمال اللبناني علاقات القرابة والحمى العائلية، التي غالباً ما ينقلها القرويون معهم الى المدن، ولكن هناك، في ضواحي طرابلس تشعر أن الناس نسوا أنسابهم وقراهم التي جاؤوا منها، واستأنفوا حياة وسط مصانع الحديد والورش الصناعية التي تطلق غبارها على وجوههم، وبجانب أوتوستراد تمر عليه شاحنات ضخمة مسرعة كثيراً ما تقتل أولادهم وبين أعمدة كهرباء عملاقة مزروعة على تلك التلال الجرداء التي بدأت منازلهم تتمدد اليها. أما مشهد البحر فتحجبه عنهم منشآت محطة كهرباء الشمال المعدنية والصدئة.
تقول والدة علي أنه طلى بيوت الجيران جميعهم. وكان يدخل منازلهم ساعة يشاء من دون أن يلاحظ أحد عليه شيئاً. وتشير الى أن "معلمه" في العمل وهو من آل الصيداوي، عائلة الضحية، لم يكن يستطيع الاستغناء عنه، وأنه أغرقه بالوعود التي كان آخرها دفع بدل تجديد جواز السفر، إذ كان علي يرغب في السفر في المدة الأخيرة. وعند سؤالها عن وجهة سفره، قالت أن بواخر عدة تأتي الى الميناء، وهو كان ينوي السفر على متن أي واحدة منها.
لم يقبل أحد من محامي طرابلس التوكل عن علي. فوالدته زارت معظم مكاتب هؤلاء وطردت من معظمها. انها معضلة في المقلب الآخر للمدينة الذي لا يقل تهشماً. فالجريمة في عرف هؤلاء، على ما يبدو، فعل عقلي واعٍ تماماً، ولا يوازيه إلا وعيهم معنى القانون.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.