هل يكفي أن تغضب إسرائيل على "مسؤول" عربي كي يغدو هذا الأخير قائداً وطنياً يُفدى بالأرواح؟ وهل تكفي أن تنزل "الجماهير" إلى الشارع ليشعر "المثقفون" بضرورة الالتحاق بها والالتصاق بمطالبها والدفاع عن احساسها القومي؟ قبل أن يصدر ارييل شارون فرمانه بطرد رئيس السلطة الوطنية السيد ياسر عرفات، كانت مكانة هذا الأخير في الحضيض، على الأقل في معظم وسائل الإعلام العربية، حتى الفلسطينية منها، التي كانت بدأت تهاجم سلطويته، وعدم سماحه لأحد بمشاركته الحكم، وما يشبه طرده لأبو مازن، ونظام الرشاوى، وقصر النظر السياسي… الخ. وغدت المطالبة باستقالته، وازاحته، والتخلص منه، يومية، كما غدا التذكير بمغامراته الفاشلة والتهكم على شخص "يظن أنه سيعيش ألف سنة"، مما يتجاوز خطاً سياسياً بعينه ليطال الصحافة العربية عموماً. وبدا لوهلة كما لو ان التخلص من قيادة عرفات اضحى الاجماع الوحيد في الإعلام العربي. بيد أن القرار الإسرائيلي بإبعاد رئيس السلطة الفلسطينية هو ما قلب الأمور رأساً على عقب. صحيفة "الشرق الأوسط" التي لم تكن يوماً بين المتحمسين لياسر عرفات، أخذت تتكلم عن "قبلاته الحارة… قبلات حب صادقة" وان "أبو عمار هو الوحيد المؤهل لاستكمال مشوار التفاوض الذي سار متعثراً" وكأن تعيين رئيس وزراء فلسطيني كان مجرد نزوة عابرة. أما مركز "أمين" الفلسطيني على الويب، فحافظت نشرته بالانكليزية على ما يصون ماء الوجه، من طريق نشرها مقالا للإعلامي الفلسطيني داودد كتّاب يعلن فيه أنه لم يصوّت لعرفات في انتخابات سنة 1996، وأن السيد عرفات ليس خياره الأول بين الزعماء الفلسطينيين، وأنه في عهد سلطة عرفات تعرّض للاعتقال والسجن. مع هذا فالاعتداء على رئيس السلطة الفلسطينية ما لبث ان اصبح اعتداء على الأرض والاستقلال، بحيث أنه "في هذا الجو يغدو كل فلسطينيعرفات". وهكذا اعادت مقالات "أمين" باللغة العربية إلى الذاكرة ما كان يُكتب في مديح الديكتاتور الكوري الشمالي كيم ايل سونغ، أو أدبيات رومانيا في زمن نيكولاي تشاوتيشكو. اليكم، مثلاً، هذه اللهجة: "شجر فلسطين ومعه كل الجذور الصلبة والعزائم والبواسل وصقور الشعب والانتفاضة ينزلون إلى ميادين التضامن والتحدي ويصرخون بصوت واحد: لن تبعدوا الرئيس عرفات، لن تبعدونا عن الرمز القائد… شجر فلسطين… لوزاً، برتقالاً، زيتوناً…". أما صحيفة "القدس العربي" التي، لأسباب شديدة الاختلاف عن أسباب "الشرق الأوسط" في مجافاتها عرفات، لم تتأخر قبلاً في توجيه أعنف الانتقادات لسلطته، فتذهب في مديحها اليوم أبعد مما كُتب في الصحافة التي تصدر في رام الله: "هكذا وقف عرفات أمام آلة البطش والعدوان الإسرائيلية. وهكذا بالأسلوب نفسه، وبالأباء نفسه وفي ظروف تكاد أن تكون مطابقة، وقف نيلسون مانديلا، الزعيم الافريقي الأسود الشامخ، رافضاً ما عرضوه عليه…". وللتذكير فإن الأزمة الأخيرة بين شارون وعرفات لا تعود إلى عرض إسرائيلي رفضه عرفات، بل إلى اتهام من إسرائيل له بأنه "لا يحارب الإرهاب". و"القدس العربي" في مقالتها تعود ثانية وثالثة إلى هذه المقارنة: ف"عرفات بلا شك مانديلا العرب"، و"المقارنة أمر سهل وواضح للعيان…". وبعد مانديلا تجد "القدس العربي" أن "هرولة الآلاف في ظلام الليل" تذكّر بالتفاف الشعب العربي حول جمال عبدالناصر بعد هزيمة حزيران يونيو، من غير ان يتساءل كاتب تلك السطور عن مسؤوليات الزعماء العرب في كل تلك الهزائم! وفي نهاية المقال يظهر أيضاً مارتن لوثر كينغ إلى جانب مانديلا وعبدالناصر كأشباه لياسر عرفات "هذا الرجل - الرمز". وبالطبع لا ينسى كاتب المقالة لصق "الخزي والعار" ب"هؤلاء الكتّاب الصغار، الأقزام" الذين ينتقدون رئيس السلطة الفلسطينية. ومديح عرفات لا يقتصر على العرب. فمنظمة "ناطوري كارثا" اليهودية الدينية المعادية للصهيونية، استنكرت "بشدة الخطة التي تهدف إلى طرد رئيسنا المبجل والمحبوب أبو عمار…". والمنظمة اليهودية أعلنت أنها "تصلي لله لانقاذ قائدنا المبجل أبو عمار من أيدي هذا الوحش…". تساءل الإسرائيليون مراراً كيف يمكن لشعب أن يجد في ياسر عرفات، شكلاً ومضموناً، رمزاً له؟ بالفعل إلى أي درجة من البؤس وصلنا…