عندما أوصى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات محمود عباس ابو مازن باستكشاف مدى رغبة دمشق في استقباله، لم يكن مقتنعاً بأن ادارة جورج بوش ستظل ماضية في تجاهلها لموقف السلطة الفلسطينية. كان ابو عمار يتوقع ان تحقق محادثات الوفد المصري مع الوزير كولن باول بعض التقدم، خصوصاً ان الرئيس حسني مبارك اختار للمهمة اكثر مستشاريه قدرة على ترجمة سياسة مصر. ومع هذا كله، فقد خيّبت واشنطن أمل اكبر دولة عربية عقدت اول معاهدة صلح مع اسرائيل. وصارح المسؤولون الاميركيون اسامة الباز بحقيقة موقف الادارة التي تعتبر اسرائيل دائماً على حق، وان مسعى القاهرة يجب ان يضغط على عرفات لارغامه على اعلان وقف الانتفاضة. ولكي يلغي الرئيس بوش اي اجتهاد ملتبس لموقفه الصريح، ابدى معارضة علنية لوساطة الوزير الالماني، يوشكا فيشر، وكرر تأييده لتدابير الحكومة الاسرائيلية التي تحمّل الفلسطينيين مسؤولية اعمال العنف. ثم تبنى في خطابه الاخير سياسة شارون داعياً عرفات الى حض الارهابيين على وقف التفجيرات الانتحارية كشرط لمحاورة الاسرائيليين. وقرأ ياسر عرفات في خطاب سيد البيت الابيض عناوين واضحة مفادها ان واشنطن عازمة على نسف المبادرة الاوروبية، وان التناقض في تصريحات ديك تشيني وكولن باول ستُحسم لصالح نائبه الذي برر العنف الاسرائيلي تجاه الفلسطينيين. كما قرأ ايضاً ان الادارة الجديدة ليست مستعدة لتجديد العلاقة المريحة التي اقامها معه كلينتون، وان التوغل العسكري في مناطق السلطة الفلسطينية لا يبدو، في نظرها، عملاً عدوانياً تمارسه قوة احتلال. والد الرئيس الاميركي واجه تصرفات نجله باستياء سافر. ولقد حاول مراراً ايجاد اسباب انتخابية مقنعة تبرر سياسته الخارجية المتأرجحة، فلم يفلح. وحدث ان عاتبه قبل شهرين مسؤول خليجي على الطريقة العشوائية التي يقود بها نجله الرئيس دفة الحكم، فاذا به يدافع عنه مدعياً ان قلبه كان دائماً مع العرب. وأضحكت هذه الملاحظة المنتقد الخليجي، واجابه بأن العرب يفضلون ان يكون عقله معهم لا قلبه! ويبدو ان الشكوى المستمرة من السياسة المشوشة التي يمارسها جورج دبليو بوش، قد أقلقت حلفاء اميركا الاوروبيين لاعتقادهم بأنه يرسم لبلاده صورة جديدة مختلفة عن الصور السابقة. والحقيقة ان المقالات التي يطلع عليها في صحفه المفضلة هي التي تشكّل العنصر المركزي في تصاميم سياسته الخارجية. ويقول مستشاروه انه معجب ببعض المحللين ممن يعتبرهم يمثلون دعامة الفكر المحافظ مثل: وليام سافير ومايكل كالي وجورج فايل. وبسبب تأثرة بكتاباتهم يحرص الديبلوماسيون في واشنطن على قراءة مقالاتهم بهدف استخلاص توجهات البيت الابيض. ويجمع السفراء العرب في العاصمة الاميركية على القول بأن المقالة التي كتبها جورج فايل منذ شهرين تقريباً كانت بمثابة مرشد الادارة لسياستها الشرق اوسطية. ذلك انه وضع خطة مفصلة من اربعة اهداف لحرب خاطفة برر فيها قتل الناشطين الذين رفض عرفات اعتقالهم. كما برر تدمير البنى العسكرية والاعلامية للسلطة الفلسطينية. واستخدم المعلّق فايل شعارات القوات الاميركية اثناء حرب فيتنام ليجد بالمقارنة اعذاراً اخلاقية للخراب الذي يلحقه سلاح الجو الاسرائيلي بالمدن والقرى الفلسطينية. اضافة الى المقالات المختارة، فان سياسة بوش الخارجية تعتمد ايضاً على قسم التحليل في وكالة الاستخبارات المركزية سي اي ايه. ولقد استعان الرئيس بوش بخبير علم النفس جيرالد بوست كي يحلّل له شخصية ياسر عرفات في هذه المرحلة، وكان بوش قد أسس "المركز الحكومي الاميركي" الخاص بتحليل السلوك السياسي للشخصيات العالمية. وعُرف عنه انه قدم للرئيس الاسبق جيمي كارتر تحليلاً لصالحه عندما صوّر له وضع انور السادات ومناحيم بيغن عشية مؤتمر "كامب ديفيد". باشر الخبير "بوست" تحليله للظروف الشخصية والموضوعية التي ساهمت في صنع قرار عرفات، ودفعته الى التوجه نحو اوسلو. واختار عام 1992 كنقطة تحول على اعتبار ان الزعيم الفلسطيني تعرض لسلسلة نكسات سياسية وصحية كان لها تأثير كبير على انعطافته التاريخية. ففي هذه الفترة تعرضت منظمة التحرير لضائقة مالية خانقة نجمت عن توقف المساعدات العربية بسبب تعاطف ابو عمار مع صدام حسين. وصدف في تلك الفترة ان سقطت طائرة ياسر عرفات في صحراء ليبيا ونجا هو من الحادث بأعجوبة. ونقل الزعيم الفلسطيني الى مستشفى الملك حسين حيث أُزيلت من رأسه كتلة من الدم المجمّد نتجت عن حادث ارتطام الطائرة بالارض. وأمضى في النقاهة اكثر من شهرين قبل ان يسمح له الاطباء باستئناف نشاطه. ويزعم البروفسور "بوست" في تقريره ان عرفات اتخذ قرار الذهاب الى مؤتمر اوسلو تحت وطأة ضغوط سياسية وصحية أقنعته بأن الوقت لم يعد يعمل لصالحه. لذلك مشى باتجاه التسوية التاريخية مع اسرائيل، الامر الذي قاده للحصول على جائزة نوبل للسلام. ويقول التقرير الذي نشرت نصه صحيفة "يديعوت احرونوت" 9/8/2001 ان عرفات ظل يحكم السلطة الوطنية بعقلية الثائر والزعيم الاوحد الذي يرفض المشاركة في القرارات السياسية. وعلى رغم انضمامه الى المسيرة السلمية فانه بقي متمسكاً بكل مطالبه الوطنية، بدءاً بالقدس وانتهاءً بحقوق اللاجئين. ويدّعي "بوست" ان ياسر عرفات هو المسؤول عن فشل قمة كامب ديفيد الثانية بشهادة كلينتون وايهود باراك. وكتب في آخر تقريره الى الرئيس جورج بوش يقول ان الزعيم الفلسطيني يرفض كبح جماح الانتفاضة لانه يعتبر هذا القرار دليلاً على ضعف قيادته ازاء العناصر الخطيرة التي أفرج عنها من "حماس" و"الجهاد الاسلامي". ويُستنتج من مضمون التقرير ان البروفسور "بوست" اهمل مسؤولية الدور الاسرائيلي في فشل "كامب ديفيد" الثانية، وكيف ان ايهود باراك قدم لعرفات حلاً لا يستطيع قبوله. خصوصاً الحل المتعلق بتجاهل حقوق اللاجئين في العودة. اضافة الى هذا، فان اسرائيل لم تسمح للسلطة الفلسطينية بممارسة اي نفوذ على الارض التي اعادتها او التي وعدت بالتنازل عنها. اما الشرط الذي وضعه شارون حول ضرورة وقف الانتفاضة قبل مباشرة الحوار، فانه يُعتبر بمثابة لغم من شأنه ان يفجّر النزاعات المحلية بين الفصائل الفلسطينية. يقول المسؤولون السوريون ان ياسر عرفات اعرب عن رغبته في زيارة دمشق عشرات المرات من دون ان يلقى استجابة الترحيب. ولقد عهد بهذه المهمة الى شخصيات فلسطينية معروفة بصداقاتها مع اصحاب النفوذ في سورية. وكان جواب الرئيس الراحل حافظ الاسد سلبياً بحجة ان برنامجه لا يسمح له بهذا اللقاء، وان ابواب الوزراء مفتوحة امامه، فليتفضل. ويبدو ان الرفض السوري كان مبنياً على اعتبارات عدة يصعب تخطيها: اولاً - ان عرفات أساء بتصريحاته الى سمعة القوات السورية إثر الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، وان الرئيس حافظ الاسد امر شخصياً بطرده من دمشق، مع انه كان موجوداً في مكتب شقيقه رفعت الاسد. وأُخرج ابو عمار يومها في طائرة ركاب عادية من دون ان يُسمح له بركوب طائرته. ثانياً - ذهب ابو عمار الى اوسلو، متفرداً بالقرار الفلسطيني من دون ان يكشف لدمشق عن نيته فصل مسار القضية القومية عن المسارات العربية الاخرى. وفي ضوء هذه الخلفية كانت سورية تشعر بأن عرفات يطلب مصالحتها كي يحتمي بتغطيتها وتغطية فصائل الرفض الفلسطينية الموجودة فوق ارضها. وكانت دائماً تطالبه باعلان فعل الندامة والتقيّد بالثوابت القومية والقرارات الدولية كشرط لتناسي اخطائه السياسية. بعد غياب دام ثمانية عشر عاماً قرر الرئيس الفلسطيني قبول شروط دمشق لأن شارون ألغى من جانبه اتفاق اوسلو وكل ما تفرضه سياسة المصالحة التاريخية من شراكة مع عرفات. وتوقع خلال المواجهات العسكرية الضارية في الضفة وغزة ان تخضع الادارة الاميركية لضغوط تدويل النزاع وتقبل بالمراقبين على طول الخط الاخضر. ولكن الرئيس بوش خيّب امله عندما حمّله مسؤولية التصعيد واعتبره المحرّض الرئيسي على العمليات الانتحارية، ثم جاء خطاب الرئيس حسني مبارك ليؤكد له خروج الولاياتالمتحدة من التزامات دور الوسيط، ويتهمها بالانحياز الكامل والمفضوح لاسرائيل. وعندما بلغت ازمة العلاقات المصرية الاميركية الاسرائيلية هذا المستوى من الانهيار، ادرك عرفات ان الرهان على احياء اتفاق اوسلو قد سقط نهائياً. وهكذا اضطرته الظروف الاقليمية والدولية للانعطاف باتجاه سورية لعلها تؤمن له مظلة ووقاية ودعماً، وتحميه من مصير شبيه بمصير ابو علي مصطفى. قبل ان يُحدد موعد زيارة ياسر عرفاتلدمشق في 12 ايلول سبتمبر الجاري، وضع وزير الخارجية السوري فاروق الشرع مع الوزير الفلسطيني نبيل شعث مسودة الاتفاق الملزم الذي اتفق عليه الطرفان. وهو في حقيقته تعهد من قبل رئيس السلطة الفلسطينية بانه لن يكرر عملية الاستفراد بالقرار القومي، وبانه سيضم المسار الفلسطيني الى المسارين السوري واللبناني، وبانه يوافق على الشروط التالية: اولاً - التمسك بقراري مجلس الامن 242 و338 وعدم التسليم بمرجعية اوسلو بديلاً منهما. ثانياً - الحرص على اقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس تقوم على جميع الاراضي لعام 1967. ثالثاً - عدم التفريط بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين. رابعاً - تمتين التعاون مع سورية والتنسيق الكامل في مواجهة العدوان الاسرائيلي. يعتبر المراقبون ان الخطوة الجديدة التي اقدم عليها ابو عمار هي بمثابة اعلان صريح بخروجه من التزامات اتفاقية اوسلو، والشروع في وضع استراتيجية بديلة تمهد لقمة عربية تبحث في مصير الانتفاضة. ومن المؤكد ان دمشق ترحب بعودة "الابن الضال"، ولكنها تدرك ايضاً حجم المسؤولية التي ستتحملها اثناء انقاذ عرفات من ورطته السابقة، خصوصاً انه قد يضطر للجوء الى سورية على اعتبار ان وساطة مصر لم تعد مجدية له. ومثل هذه العودة الدائمة قد تغريه بتحريك جبهة الجنوب اللبناني بواسطة مقاتلي المخيمات الذين أراحتهم المصالحة وأفرحتهم. ولكن دون هذه الرغبة محاذير عدة تبدأ عند "حزب الله" وتنتهي عند دمشق التي منعت مشاركة اي نفوذ عربي او دولي في لبنان. لا سيما ان النظام السوري يعرف اهمية احتضانه للانتفاضة، وخطورة الدفاع عنها في عهد شارون. كما يعرف ايضاً ان علاقته الوثيقة مع ايران، والانفراج الاقتصادي الذي منحه للعراق، قد وضع بين يديه كل القضايا الساخنة في المنطقة... بل كل القضايا التي تحاربها الولاياتالمتحدة واسرائيل. * كاتب وصحافي لبناني.