عندما أعلن ارييل شارون قرار منع ياسر عرفات من مغادرة رام الله 3 كانون الأول - ديسمبر الماضي، قام رئيس "حركة السلام" النائب الاسرائيلي السابق يوري افنيري بزيارة مفاجئة لرئيس السلطة الفلسطينية. ومع ان رئيس الحكومة الاسرائيلية انتقد هذه الخطوة الجريئة، واعتبرها خرقاً متعمداً لعملية الحصار، إلا ان افنيري أراد تسجيل موقف معارض لئلا يقال ان كل الاحزاب والهيئات السياسية تؤيد اجراءات القصاص التعسفي. تماماً مثلما فعل عام 1982 عندما زار عرفات في ملجئه في بيروت ليؤكد له ان الحركة التي يمثلها تتضامن معه وترفض أسلوب الانتقام والضغط بواسطة المدفع. وكان من الطبيعي ان يستقبل الرئيس الفلسطيني صديقه افنيري بالعناق والقبلات، ثم يذّكره بأن دبابات شارون التي طوقته في بيروت منذ عشرين سنة تقريباً، عادت لتحاصر منزله ومكتبه في رام الله وتمنعه من مغادرة المدينة، سواء الى قطاع غزة أو الى خارج الضفة الغربية. واستفظع الزائر الاسرائيلي عملية الحجر السياسي، وعاد الى تل ابيب ليدبج رسالة استنكار نشرتها جريدة "هيرالد تريبيون" في صدر صفحة الافتتاحيات يقول فيها ان النزاع اليهودي - الفلسطيني الذي بدأ منذ 120 سنة، وصل اليوم الى مرحلة مصيرية. والسبب ان كتلتين بشريتين ضخمتين تتواجهان بشراسة: واحدة يقودها شارون بقوة حربية تصعب مقاومتها... واخرى يتزعمها أبو عمار بموقف صامد لا يتزحزح. وعبّر افنيري في الرسالة عن استيائه من المعلقين الذين يصفون شارون بأنه انسان مغامر لا يملك رؤية مستقبلية واضحة، وبأن تصرفاته توحي بالتخبط والارتجال والمجازفة. وقال في تحليله ان ارييل شارون وحده من دون كل العسكريين والسياسيين، يعرف ماذا يريد، وان رفضه القاطع لمختلف معاهدات السلام مع العرب، كان نتيجة قناعة راسخة. ذلك انه يؤمن بضرورة استرجاع أرض اسرائيل من مغتصبيها، وبأن رسالته التاريخية تستكمل عبر مشروعين: الأول، مشروع الحد الأدنى، الممثل بدولة فلسطينية مقطعة الأوصال، مزروعة بالمستوطنات والطرق الالتفافية تؤمن العمالة الرخيصة لدولة اسرائيل، ولا تزيد مساحتها على 24 في المئة من الأرض، والثاني، مشروع الحد الأقصى، الهادف الى طرد الفلسطينيين من مناطق "اسرائيل الكبرى"، بمن فيهم جماعة 1948 الذين حصلوا على الجنسية الاسرائيلية، ولكي يحقق هذه الأمنية استغل شارون أحداث 11 ايلول سبتمبر وما خلفته من أحقاد ضد العرب على الصعيد الدولي، ليشن حرب إبادة على أمل ارغام الفلسطينيين على الاستسلام الكامل. ولكنه فوجئ بحجم الصمود الذي وصفه أبو عمار بالخيار الأخير لمنع شعبه من مواجهة حرب إفناء كالتي حصدت الهنود الحمر في اميركا. في كتابه "التاريخ اليهودي" يشير المؤرخ اسرائيل شاحاك الى اقتراح خطير طرحه ارييل شارون داخل مؤتمر ليكود أيار - مايو 1993 وطالب فيه بضرورة تبني الحدود التوراتية كسياسة رسمية. والحدود التوراتية كما يتصورها شارون، تشمل كل فلسطين والأردن والصحراء السورية. وهي نسخة مخففة عن حدود المطامع الصهيونية التي تبناها "كاهانا" صديق شارون، واعتبرها مرجعاً للحدود التوراتية المثبتة في مبادئ غوش ايمونيم. وتشمل هذه المبادئ المناطق التالية: جنوباً، كل سيناء وجزءاً كبيراً من شمال مصر حتى ضواحي القاهرة. شرقاً، كل الأرض وقطعة كبيرة من المملكة العربية السعودية وكل الكويت وجزءاً من العراقجنوب نهر الفرات. شمالاً، كل لبنان وسورية وجزءاً كبيراً من تركيا حتى بحيرة "فان". وغرباً، جزيرة قبرص. وترى الهيئات الدينية في اسرائيل ان حروب استرداد أرض الميعاد هي أمر مقدس، وان اعادة صحراء سيناء الى مصر كانت خطيئة مميتة عاقب الله اسرائيل عليها بفشل احتلال لبنان. وفي ضوء هذه الاستراتيجية التوراتية، وضع حزب ليكود تصوراته لإنشاء دولة ذات أهمية بالغة، وسط دول الشرق الأوسط. والمؤسف ان الادارات الاميركية المتعاقبة تبنت سياسة اسرائيل واعتبرتها الخط المحافظ على الأهداف الامبريالية ومصالح الدول الصناعية. واستطاع شارون خلال زياراته المتكررة لواشنطن اقناع الرئيس جورج بوش بأن الحرب التي يشنها ضد الفلسطينيين هي جزء متمم للحرب التي أعلنتها الولاياتالمتحدة لاستئصال الحركات الأصولية الاسلامية. كما أقنعه أيضاً بأن السلطة الفلسطينية على وشك الانهيار، وان التدخل الاميركي الديبلوماسي يجب ألا ينقذها من معارك الاستنزاف. هذا ما يفسر احجام الرئيس بوش عن التجاوب مع رغبة وزير خارجيته كولن باول، ومع طلب العاهل الأردني والرئيس المصري في ضرورة ارسال الوسيطين جورج تينيت وانتوني زيني. ولقد كشف يوم الاربعاء الماضي عن اصراره على الامتناع عن التدخل - حسب توصية شارون - لأن السلطة الفلسطينية لم تقم بجهد كاف لوقف الهجمات ضد الاسرائيليين. وسارعت الصحف الاميركية والبريطانية الى تبرئة الرئيس بوش من تهمة "السادية"، ومن ترويج سلوك الانتقام فانديتا كأنه يتجاهل عن عمد تحول مخيمات اللاجئين الى مسلخ بشري. وبررت التعليقات موقف البيت الأبيض بسببين يتعلقان بمرحلة الإعداد لضرب النظام العراقي. السبب الأول يقول ان كسر دوامة العنف والانتحار بعد مرور سنة ونصف السنة على الانتفاضة ربما يؤدي الى انقاذ عرفات وتعزيز مكانة التيارات المتطرفة مثل "الجهاد الاسلامي" و"حماس". ومثل هذه النتيجة لا ترغم الفلسطينيين على اعلان الاستسلام الكامل، الأمر الذي يستوجب تدخل اميركي مشروط. السبب الثاني الذي صارح به الرئيس بوش حلفاءه الأوروبيين وبعض زعماء العرب، يشير الى تشجيع اسرائيل لكسب المعركة العسكرية بطريقة تسمح بشن معركة ديبلوماسية اميركية. أما الهدف البعيد من كل هذه المناورات، فيختصر بالحصول على موافقة عربية لضرب النظام العراقي مقابل انقاذ القضية الفلسطينية وانتشال زعمائها من مستنقع الدم. ويبدو ان اصرار الرئيس الاميركي على تنفيذ عملية الغزو لم ترق للعديد من زعماء أوروبا الذين ترددوا في دعم خيار الحرب ضد العراق. ولم تكن انتقادات الحكومة الفرنسية في هذا السياق سوى دعوة الى التعقل، خصوصاً وان القتال في افغانستان لم يستكمل أهدافه السياسية والأمنية بعد. وهذا ما لمحت اليه الحكومة الالمانية التي وجدت نفسها بعد نصف قرن من الحياد، غارقة في أوحال كابول. وما ينسحب على حلفاء اميركا ينسحب على اصدقائها في العالم العربي ايضاً. ولقد حذر الملك عبدالله الثاني الرئيس الاميركي من مغبة التورط في العراق، ومن خطر تداعيات هذه الحرب على بلاده خصوصاً، وعلى المنطقة عموماً. وكان بوش يتوقع مساندة أردنية غير مشروطة وغير متحفظة نظراً للاهتمام الذي ابدته واشنطن نحو الأردن. ذلك انها زادت مساعداتها ثلاث مرات خلال السنوات العشر الأخيرة بهدف فصل الاقتصاد الأردني عن العراق، وتمكينه من اتخاذ قرار مستقل في حال نشوب حرب جديدة. وكان من نتيجة هذه السياسة ان أُلغيت ديون الأردن البالغة 700 مليون دولار. وفي عام 1997 ارتفعت مستويات الدعم الى 225 مليوناً سنوياً على أمل ان تلعب عمان دوراً متقدماً في عملية السلام. ثم كوفئت بهبة قيمتها 300 مليون دولار اضافة الى 198 مليوناً كمساعدة عسكرية ترمي الى تحصين الحدود الشرقية. وأُعتبرت هذه الهدية جزءاً من صفقة تسلح متكاملة اعدها الأردن لتحديث اجهزته الدفاعية وبينها التزود ب80 طائرة اف - 16. ولكن واشنطن فضلت إرجاء صفقة الطائرات وركزت على الموضوع الاقتصادي بغية نسف جسور الاعتماد على العراق. ولم تكن اتفاقية التجارة الحرة مع اميركا سوى محاولة جادة لاخراج الاقتصاد الأردني من أزماته. علماً أن الخبراء فسروا هذه الاتفاقية بأنها مكافأة عملية لدولة أيدت الموقف الاميركي في افغانستان. في حين قال بوش انها حاجة حيوية لضمان استقرار دولة صديقة تقف في وسط الأعاصير. بالنسبة الى زيارة الرئيس حسني مبارك، لم تكشف المعلومات طبيعة المحادثات، والدوافع التي حالت دون اتخاذ قرار اميركي حاسم يوقف العنف في الضفة وغزة. ومع ان الرئيس المصري تسلح بالمبادرة السعودية وبموقف الاتحاد الأوروبي، ليؤكد صعوبة الحل اذا بقي شارون معتمداً على الصمت الاميركي، إلا ان بوش لم يتراجع عن موقفه. أي الموقف المعادي للانتفاضة باعتبارها تمهد الطريق لإحداث متغيرات داخل الحياة السياسية في اسرائيل. وكل ما يخشاه بوش هو تنامي المعارضة لسياسة شارون بشكل يسقط ميزان المعطيات الكفيلة ببقاء حكومة الائتلاف الوطني. وواضح من تهديد شمعون بيريز بالانسحاب من الحكومة، انه بدأ يتلمس ضغوط المعارضة واثرها الكبير في الشارع وداخل الجيش. خصوصاً بعد تحذير صدر عن ايهود باراك ورفاقه الجنرالات، بأن التيار المعارض لبقاء بيريز في الحكومة سيعلن عن تأسيس حزب جديد منشق عن حزب العمل، ولعل ازدياد التأزم الداخلي سيطلق يد شارون خوفاً من تعزيز فرص الانتخابات ووصول منافسه بنيامين نتانياهو الى الحكم. في المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس مبارك، أشاد الرئيس بوش بالمبادرة السعودية ووصفها ب"الخطوة الايجابية لأنها تبلور رؤية لأفق السلام في المنطقة". ولكن الرؤية التي ولدت كإطار عربي ضامن لأمن اسرائيل في حال نفذت شروط القرارين 242 و338، ستتحول في قمة بيروت العربية الى مشروع سلام شامل يجيب على الايضاحات المتعلقة بحق عودة اللاجئين ومصير القدس العربية والأماكن المقدسة فيها. ولقد عهد الى وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل وأمين عام الجامعة العربية عمرو موسى ووزير التخطيط الفلسطيني نبيل شعث، ادخال التعديلات اللازمة على مبادرة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز بحيث تصبح خطة متكاملة. كما تصبح في الوقت ذاته موقفاً استراتيجياً يعكس السياسة العربية الرسمية. يبقى سؤال أخير: ما هو مصير رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات؟ وكيف ستتعامل القمة مع غيابه وحضوره؟ يقول عرفات ان انعقاد مؤتمر القمة في غيابه أشبه بحفلة عرس من دون عريس. وكان الرئيس مبارك تحدث عن أهمية حضور عرفات، محذراً من ان غيابه يؤكد نية شارون نسف كل محاولات التهدئة. ولقد تحدث مع الرئيس بوش حول هذا الموضوع، مبيناً خطورة الانعكاسات السلبية التي سيتركها قرار منع عرفات من مغادرة رام الله. ويبدو ان الملك عبدالله طلب تدخل الرئيس الاميركي مع وعد بأنه سينقل عرفات بطائرته الخاصة ثم يعيده معه الى معتقله. ولكن شارون اتخذ قرار المنع عبر اللجنة الأمنية بحجة انه يريد التأكد من موقف ياسر عرفات داخل القمة. وبناء على هذا الموقف يزعم شارون ان قرار الافراج الموقت، سيتخذ سلفاً. ومعنى هذا ان قرار الحضور سيخضع لعملية ابتزاز مسبقة من المؤكد ان عرفات لن يقبل بشروطها المكبلة. وعليه يتوقع رفاقه في الجهاد ان يبقى رهين سجنه مثلما كان صديقه وملهمه مانديلا، بانتظار اسقاط شارون بواسطة المعارضة الاسرائيلية. * كاتب وصحافي لبناني.