لن تكون الانتخابات النيابية الفرعية في عاليه - بعبدا مجرد معركة عادية بغض النظر عن نسبة المقترعين، بل ستكون "أم المعارك" بين الأحزاب والقوى المسيحية اللبنانية لمعرفة الجهة التي تعتبر نفسها الأكثر تمثيلاً للشارع المسيحي في ظل خلط الأوراق المسيطر على المنافسة. ويعتقد كثير من المراقبين ان "التيار الوطني الحر" بقيادة ميشال عون قرر التعامل مع الانتخابات الفرعية على أنها معركة مصير بالنسبة إليه، ويحاول الإفادة من تزكية رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ترشيح هنري الحلو الخصم الرئيس لمرشح التيار حكمت ديب بغية استحضار منافس له من خارج الصف المسيحي يتيح له خوض معركة تصفية حسابات مع منافسيه في الساحة المسيحية، علماً أن موقف جنبلاط لم يختلف عن موقف "حزب الله" الداعم لحلو سوى في الأسلوب وفي طريقة التعبير. ويرى المراقبون ان عون عازم على خوض "معركة إلغاء" جديدة، ولكن سياسية هذه المرة، بعد "حرب الإلغاء" التي دارت رحاها بينه وبين القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع مطلع التسعينات. ويؤكد هؤلاء ان ما يهم عون تسجيل انتصار كاسح في الشارع المسيحي على مؤيدي حلو وفي مقدمهم الرئيس السابق أمين الجميل وجزء من تيار "القوات" إضافة الى رئيس حزب الوطنيين الأحرار دوري شمعون الذي يبدي لامبالاة تجاه المعركة ويرى ان الشارع كان في غنى عنها. ويضيف المراقبون ان عون يطمح الى تحقيق مفاجأة بإيصال مرشحه الى الندوة النيابية. لكن طموحه الأساسي يتركز على تجيير أكبر عدد من أصوات المقترعين المسيحيين لمصلحته بما يخوله مخاطبة منافسيه في الساحة المسيحية بأن "الأمر لي". ويلفت هؤلاء الى أن عون خاض في الماضي "حرب التحرير" ضد الوجود السوري في لبنان متهماً من لم يقف الى جانبه بالخيانة، وانه يحاول الآن استحضار التهمة نفسها في حق كل من يقاطع الانتخابات أو يدعو الى الوقوف على الحياد، خلافاً لاتهامه الذين شاركوا في الانتخابات العامة عام 2000 بالخيانة. ويتصرف الجنرال مع خصومه على أنه وحده على حق وان على الآخرين تبني مواقفه من دون نقاش، وانه قرر العودة عن المقاطعة والانخراط في اللعبة السياسية مستفيداً من وهج الانتصار الذي نسبه الى محازبيه في الانتخابات الفرعية في المتن الشمالي بإيصال غبريال المر الى المجلس النيابي قبل إبطال نيابته. ويلفت المراقبون الى أن عون يحاول الإفادة من إعلان وزير الداخلية والبلديات إلياس المر وقوف السلطة على الحياد، مشيرين الى أن مرشحه ديب بادل هذا الموقف بالمثل من خلال تجنبه أي كلام سلبي عن سورية ودورها في لبنان. ويتصرف ديب برغبة معلنة في مراعاة موجبات الحياد رافضاً إدراج الهجوم على سورية أو التحريض ضدها في صلب بيانه الانتخابي خصوصاً أن الموقف الحيادي الرسمي شجعه على تسجيل اختراق أقله لجهة تحرك أنصاره ومؤيديه بحرية في المناطق ذات الغالبية الإسلامية دروز وشيعة وسنة من دون أن يغيب عن باله تسليط الضوء على جنبلاط في حملاته ظناً منه انه يؤمن له استنفار الشارع المسيحي ومحتفظاً لنفسه في الحديث عن المصالحة في الجبل وحماية التعايش المسيحي - الإسلامي ومن خلاله المسيحي - الدرزي. ويبدو جلياً ان عون على صدام مستمر مع جنبلاط على رغم ان البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير أبدى تفهماً لخلفية موقف الأخير الذي رفض اعتبار انخراطه في المعركة محاولة لفرض مرشحه على المسيحيين، إضافة الى أن بكركي كانت تتمنى لو توصل أهل القرار الى توافق يحول دون حصول معركة، معتبراً أن ممارسة الديموقراطية لن تتوقف في حال التفاهم على مرشح يكمل ولاية النائب المتوفى بيار حلو. كما ان عون خفف، من خلال ديب، من هجومه على السلطة، لا سيما في جولاته على المناطق الإسلامية، ولا يعتبر ان المعركة محصورة بين المعارضة والموالاة في مقابل تجنبه أي شكل من أشكال الصدام مع "حزب الله" وقواعده في الضاحية الجنوبية، مع ان الحزب أعلن موقفه المؤيد لحلو. وباشر منذ أكثر من أسبوع استنفار ماكينته الانتخابية. ويرى المراقبون في تحييد التيار العوني ل"حزب الله" والتركيز على جنبلاط أكثر من رسالة تتجاوز الانتخابات ودعم الحزب لمنافسه، الى الحفاظ على حد أدنى من التواصل، خصوصاً أنه لم يسبق للطرفين الدخول في صراع مباشر في انتخابات المهن الحرة. وعليه فإن عون من خلال تياره الذي انسحب من قرنة شهوان قبل إذاعة البيان التأسيسي للقاء على رغم أن ممثله فيه سامي نادر متزوج من ابنة عون أعلن موافقته عليه قبل ان يتراجع، ومن ثم انسحابه من لجنة التنسيق التي كانت تضم ممثلين عنه إضافة الى ممثلين عن الأحرار والقوات، يحاول الآن فرض واقع جديد في الشارع المسيحي يمكن أن يهدد لقاء القرنة إذا لم يستجب لمعظم شروطه. وقد يكون البديل أمام عون عن لقاء القرنة في ضوء وقوف غالبية أركانه الى جانب حلو، البحث في احتمال تأسيس جبهة سياسية جديدة تكون أقرب الى "الجبهة اللبنانية" التي ولدت أثناء الحرب بزعامة الرئيس كميل شمعون ومؤسس حزب الكتائب بيار الجميل، منها الى لقاء القرنة الذي يتصرف بواقعية في تعاطيه مع الشأنين الإقليمي والدولي المرتبطين بالوضع الداخلي. وليس من باب الغرابة مبادرة عون الى تسليط الأضواء على نديم بشير الجميل القادم حديثاً من باريس والتصرف معه على أنه وريثه السياسي بذريعة خلو الساحة المسيحية من الزعماء الذين يتخذون المواقف الجريئة. ويمكن القول ان نديم الجميل يتعامل "على بياض" في تحالفه مع عون، مستفيداً من أن جده الشيخ بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب وان والده بشير الجميل مؤسس "القوات اللبنانية" وان تيار "البشيريين" كان أسهم في تأسيس القوات، لكنه تقاعد في وقت مبكر لخلافه مع قائدها سمير جعجع وان الظروف مواتية لاستنهاض هذا التيار وإعادته الى صلب المعادلة السياسية في الشارع المسيحي. ويحرص نديم الجميل، بحسب الذين عرفوه عن كثب، على تقليد والده، مستعيناً بمعظم خطبه ومواقفه ومقلداً إياه في حركاته ومبدياً استعداده للعودة الى أرشيف الرئيس الراحل لينهل منه ما يقوله في المناسبات التي تحتاج الى التعبئة، في مقابل تعذر الوصول الى حل وسط مع عمه الشيخ أمين الجميل ونجليه النائب بيار وسامي مع أن الأخير غالباً ما يظهر مع نديم في المناسبات. وفيما يتذمّر بعض أركان لقاء قرنة شهوان من الطريقة التي يتعاطى بها عون مع اللقاء وتهجمه في بعض الأحيان على خط الاعتدال الذي يرعاه البطريرك صفير، بدأ هؤلاء يتصرفون منذ الآن على أساس استحالة التعايش مع "التيار الوطني"، ويعتبرون ان الانتخابات في عاليه - بعبدا ستضع الشارع المسيحي في منتصف الطريق بين التطرف والاعتدال، وان آثارها السياسية ستمتد الى سائر المناطق الجبلية وان شظاياها ستتطاير في كل اتجاه في محاولة هي الأولى بعد الحرب لإعادة خلط الأوراق من تبدل في الأحلاف الى تأسيس تحالفات جديدة. ويرى هؤلاء ان جنبلاط كان في غنى عن الهجوم على بشير الجميل، الذي يُستغل حالياً لصالح ديب برغم انه يعتقد، أي جنبلاط، ان الخطاب السياسي هو الأساس في حض ناخبيه على الاقتراع بكثافة، مشيرين الى ضرورة حياد السلطة وهو أمر طبيعي لا يجوز الا ان تتصرف كذلك، لكنهم أملوا من عون الصمود أمام خطابه الهادئ وعدم الاسراع فور اعلان النتيجة الى استبداله بخطابه القديم في محاولة للمزايدة على المعتدلين ولجر المترددين الى موقعه. وهناك من يعتقد من باب التخفيف من الهجمة العونية على الرئيس الجميل، بأن الأخير استعجل في تسمية حلو كمرشح داعم له فاستفز الآخرين، لكن أصحاب هذا الرأي سرعان ما يتراجعون انطلاقاً مما توافر لديهم من معطيات تؤكد ان عملية الفرز حاصلة لا محالة وان المترددين يحاولون الآن البحث عن مواقع لهم بأقل الأضرار، فيما يغيب دوري شمعون عن دائرة المنافسة لاعتبارات شوفية حفاظاً على علاقته بجنبلاط على رغم ما يشوبها من شوائب، لكنه في الوقت نفسه يأمل بألا يحصد ديب أصواتاً لا يستهان بها في بعبدا - عاليه التي كانت تعتبر المعقل الرئيس للتيار الشمعوني في الجبل. إضافة الى أن البعض يراهن على أن رئيس الأحرار لن يكون بعيداً من قرار يمكن أن يتخذه لخوض الانتخابات سنة 2005 عن هذه الدائرة بالذات. ويعتقد البعض أيضاً بأن لقرار عون الدخول في لعبة الانتخابات ترشحاً هذه المرة، بعدما عدل عن المقاطعة اقتراعاً في انتخابات المتن الشمالي الفرعية، اعتبارات أخرى في مقدمها ان تياره الذي يمتلك ماكينة انتخابية منظمة، بات على قناعة بأن مؤيديه كانوا وراء تحقيق المفاجأة المتنية التي أوصلت غبريال المر الى الندوة البرلمانية، وبالتالي ينظرون الى الانتخابات الفرعية الحالية على أنها ستتيح لهم فرصة جديدة لإثبات وجودهم وتأكيد تفوقهم في الشارع المسيحي. ويعزو هؤلاء السبب الى أن التيار العوني الذي يتزعم حالات الرفض من خلال حضوره الشبابي أخذ يعيد النظر في ممارسته السياسية على قاعدة ان المقاطعة لم تبدل من التوجه السياسي العام في البلد وان المشاركة تؤمن له الشاشة لمخاطبة الرأي العام على نطاق واسع. وعلى خط آخر، يراهن التيار العوني على ان التأثير الكتائبي الرسمي في انتخابات عاليه - بعبدا سيكون محدوداً وان رفع شعار الخصومة للرئيس الجميل سيدفع بمن تبقى من القاعدة الكتائبية بزعامة الوزير كريم بقرادوني الى التردد في الاقتراع لمصلحة حلو، نظراً الى أن ما يهم انصاره خروج الجميل منهكاً من المنازلة، باعتباره كان وراء انقسام الحزب. وهم يلتقون مع بعض القاعدة الكتائبية المعارضة وممثلها رئيس الحزب السابق إيلي كرامه الذي هو على نقيض مع الجميل لأسباب احتجاجية على طريقة تعامله معه. وبالنسبة الى القوات اللبنانية التي تدين بالولاء لجعجع، فإن شظايا الانتخابات ستطاولها سواء قررت الوقوف على الحياد أو ارتأت الدخول في المعركة بحياء من خلال توزيع كلمة السر على القواتيين. فانضمام سلمان سماحة المسؤول السابق عن الطلاب في القوات الى الحلف المناصر لديب لم يشكل مفاجأة لأحد، لأنه كان على خلاف مع ستريدا جعجع، بدأ عندما قرر في المتن الشمالي توسيع رقعة تحركه لمصلحة غبريال المر من دون العودة إليها، وسرعان ما تطور الى عزوفه عن القيام بنشاط مباشر، فيما جان عزيز ممثل القوات في لقاء القرنة الى جانب توفيق الهندي الذي يكتفي حالياً بمراقبة الوضع على الأرض ولم يسجل له أي نشاط ميداني يذكر يحاول الآن ان يستدرك حماسته فوق العادة للمرشح العوني، وتردد أخيراً أنه قرر بملء إرادته ان يضبط خطواته تجنباً لمزيد من الإرباك الذي تعيشه القوات على رغم الألوف التي احتشدت في حريصا الأحد الماضي تلبية لدعوة زوجة سمير جعجع. وفي مطلق الأحوال تعتبر القوات جعجع في طليعة القوى الناشطة والمؤثرة في بعبدا - عاليه وقد لا تكون لها مصلحة في الاندفاع في المعركة مفضلة الاحتماء بموقف بكركي ورافضة الدخول في حرب تعداد الأصوات رغبة منها بأن تحتفظ بقوتها الفاعلة الى الانتخابات العامة المقبلة في انتظار تبدل الظروف التي قد تفضي الى مخرج قضائي - سياسي يخرج قائدها من السجن. لكن حيادية القوات لن تكون في المطلق وقد يتوزع انصارها في ساحل المتن الجنوبي المعقل الأساس للتيار العوني بين مؤيد لديب وآخر لحلو مع ميول فريق منهم الى عدم الاقتراع من دون أن يسقط من حسابه محاولة نديم الجميل الدؤوبة تسجيل اختراق يحاول من خلاله توسيع رقعة انتشاره حتى لا تبقى مقتصرة على "البشيريين" الذين سلخوا عن جعجع بعد وفاة قائدهم الرئيس الراحل. لكن الأمر الوحيد الذي يركز عليه تيار القوات يبقى في عدم المساس بالمصالحة الدرزية - المارونية في الجبل التي رعاها البطريرك صفير ولا بالعيش المشترك، للحؤول دون تهديد مشروع استكمال عودة المهجرين. وختاماً لا بد من الإشارة الى أن نتائج بعبدا - عاليه تسهم في نهاية المطاف في تظهير الصورة الأولية للعناوين التي سيحملها قانون الانتخاب الجديد خصوصاً إذا نجح التيار العوني في تسجيل رقم انتخابي لا يستهان به. وهذا ما أشار اليه جنبلاط في مؤتمره الصحافي الأخير الذي أراده مناسبة لإعلان حال الاستنفار لرفع نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع علماً أن استهدافه اليومي من عون وديب يأتي في ظروف سياسية مختلفة عن السابق إذ أن رئيس التقدمي يخوض المعركة وعلاقته جيدة بالبطريرك صفير ويستهدف في شكل رئيس الثنائي عون - نديم الجميل مبدياً رغبته في الانفتاح على الرئيس الجميل والقوات وشمعون وكأنه بذلك يمهد لتكريس خطابين لمشروعين سياسيين متناقضين.