عندما سئل السينمائي الفرنسي جاك لوك غودار: من هو روبير بريسون؟ جاءت إجابته بإيجاز حاسم انه "السينما الفرنسية مثلما دوستويفسكي هو الرواية الروسية وموتزارت هو الموسيقى الألمانية". مبدع استثنائي يشار إليه عادة الى انه العبقرية الناسكة، السرية، للسينما الفرنسية. لكنها سرية تفتضح اسرارها شيئاً فشيئاً إذا ما قرأنا كتابه اليتيم "ملاحظات" الذي ما هو إلا انعكاس لمسيرة بريسون في الفن والحياة. وهو كتاب اضحى في إمكان القارئ العربي اليوم كشف اسراره من خلال "ملاحظات في السينماتوغرافية"، الترجمة العربية للسينمائي والكاتب العماني عبدالله حبيب الصادر في سلسلة "الفن السابع" عن منشورات وزارة الثقافة في سورية - المؤسسة العامة للسينما. مسيرة حافلة بداية مشوار روبير بريسون الفني تعود للعام 1933 عندما كتب سيناريو فيلم "كان موسيقياً" قبل ان ينتقل الى الإخراج في السنة التالية مع فيلم "قضايا عامة" وهو فيلم كوميدي متوسط الطول لم تبق منه اي نسخة. ثم ما لبث ان اشترك في كتابة العديد من السيناريوات منها مشروع فيلم مواطنه رينيه كلير "الهواء النقي" الذي لم يُقيض له ان يكتمل. ولاعتقاله اثناء الحرب العالمية الثانية أثر واضح في سينما بريسون، إذ راحت تلمع هذه التجربة في رأسه لتختمر لاحقاً وتثمر فيلماً معبراً عن واقع مؤلم. إنه فيلم "هرب محكوم بالإعدام" 1956 الذي يعتبر واحداً من اهم افلامه على الإطلاق على رغم انه كان يصر دوماً ان حياته السينمائية ابتدأت فعلياً مع فيلمه الروائي الطويل الأول "ملائكة الشوارع" 1943. "ملاحظات" روبير بريسون دقيقة ومدرسة في عالم السينما او السينماتوغرافيا كما يحلو له تسميتها لأسباب تمدّ القارئ بخفايا النجاح في هذا العالم الذي لا يعرف عنه المشاهد إلا ما يقدّم امامه على الشاشة. إنها ملاحظات تدفع اي ممثل او "موديل" كما يسميه بريسون الى إعادة النظر في الكثير من مسلمات التمثيل بعد ان يجد اجابات دقيقة، مناقضة لما يعرفه، اجابات لا يمكنه إلا ان يقتدي بها إذا إراد الوصول الى المشاهدين من دون تصنّع وتزلف. كيف لا وهي صادرة عن السينمائي "الوحيد الذي ربما كان حقق التوحد المثالي للعمل المنجز بمفهوم نظري شكّل سلفاً" بحسب ما جاء على لسان اندري تاركوفسكي. ويقسم الكاتب ملاحظاته الى حقبتين، الأولى تمتد من عام 1950 الى 1958 والثانية من 1960 الى 1974، وكلها خلاصة مكثفة لتجربة سينمائية غنية بترجمة عربية صافية من سينمائي عماني مولع بأعمال بريسون وكتاباته كما نلاحظ في سياق مقدمته التي جاء فيها: "إن بول فاليري ربما كان يفكر في بريسون عندما كتب ان "الكمال لا يتحقق ابداً إلا بتجنب كل ما يمكن ان يؤدي الى مبالغة في الوعي". "هذه المعادلة الإبداعية الدقيقة بين "المفهوم النظري الذي شكّل سلفاً" والذي يختلف في رؤياه عن الذهنية و"عدم المبالغة في الوعي" هي سر بريسون، وهي، في تصوري، التحدي الذي تفرضه السينما في انتمائها المشترك الى وحشية الشعر وعفويته، حيث "انس انك تصنع فيلماً" كما يقول، وإلى الصرامة السنتمترية المحسوبة بالثانية للآلات والأجهزة من حيث هي "معضلة" ان تجعل ما ترى يرى بواسطة ماكينة لا تراه كما تراه انت" في قوله ايضاً. وربما كان هذا العبور الدقيق والحرج هو ما حدا بشاعر وسينمائي مثل جان كوكتو الى ان يقول واصفاً بريسون ب"أنه يعبّر عن نفسه سينمائياً كما يعبّر شاعر عن نفسه بالقلم". ويتابع حبيب: "يدعو بريسون الى "سينما" خالصة يسميها "السينماتوغرافيا" ويقاوم بعناد تأثير الفنون الأخرى. فهو، على سبيل المثال، يرفض الحبكة التقليدية على اعتبار انها "خدعة روائية". كما انه يختار "ممثليه" من غير المحترفين طلبة معاهد السينما هم من يفضّل، اذ يقاوم بريسون بتطرف شديد فكرة "التمثيل" هذه ايما مقاومة، ويرى انها من ادوات المسرح. وهكذا فإنه ينبغي الانتباه الى الفرق الصارم الذي يؤسسه بريسون بين "السينما" و"السينماتوغرافيا"، فالأولى هي المسرح المصور كما يسميها او "النسخ الفوتوغرافي لعرض مسرحي"، اي السينما بشكلها الحالي الذي هو ليس بأكثر من صورة مشوهة من المسرح بكل تبعياته وإنماطه التعبيرية. اما "السينماتوغرافيا" فهي لا تعني العمل التقني والجمالي الذي يقوم به المصور السينمائي كما هو مألوف، فذلك ينعته بريسون، كما كثر غيره، بالمترادفتين "فوتوغرافيا" و"تصوير"، وإنما يستعمل بريسون مفردة "سينماتوغرافيا" ليسبغ عليها بعداً مفهومياً خاصاً به. فالسينماتوغرافيا تصبح لديه الشكل المثالي المفتقد لما ندعوه اليوم "سينما"، إنها الصورة الإبداعية والجمالية الصرف التي ينبغي على السينما ان تنتهجها وتكونها. وتصل "السينماتوغرافيا" في المفهوم البريسوني هذا الى درجات من الشغف والتوق - كما يضيف حبيب - تكون معها اقرب الى الوجد الصوفي او الهيام الروحي: نيرفانا او حلول، من نوع ما... ويكفي في هذا الصدد ذكر بعض الأقوال التي عالج فيها هذا الأمر لنتبين حقيقة الأمر. يقول: "السينما تغترف من منهل عام، السينماتوغرافي يقوم برحلة اكتشاف في كوكب مجهول"، "السينماتوغرافيا طريقة جديدة للكتابة وبالتالي للشعور"، "السينماتوغرافيا كتابة بالصور في الحركة والأصوات"، "ان نلبس وجهه وحركاته العواطف فهذا فن الممثل، إنه المسرح، ألا تلبس وجهه وحركاته العواطف فهذا لا يزال ليس بالسينماتوغرافيا، موديلات معبّرة لا إرادياً وليس موديلات غير معبّرة إرادياً". "افلام السينماتوغرافيا مشحونة بالعاطفة ليست تمثيلية. اداء الممثل مجرد لا يتحول: إنه يبقى على ما هو. السينماتوغرافيا بالصور هي فن تمثيل لا شيء"، "إخفاق السينما. لا تناسب مضحك بين الإمكانات الهائلة والنتيجة: سينما النجوم". عين الرسام من جهة اخرى يضيف حبيب ان بريسون ينحت ويحتفي بمفهوم "الموديل" الذي يحله في مكان الممثل، "فالموديل، بالمعنى البريسوني، هو طين الخلق الطازج، والخامة الإبداعية الفريدة التي يستكشفها ويشكلها "المخرج" في "الممثل" غير المحترف، كيف يبعث الحياة من خلال تلك الطاقة - الموديل - في الشخصيات وعوالم الفيلم على النحو الذي يريد. ونتلمس ذلك جلياً في قوله: "لكي تكون كما اريدت، ليس لأفلام السينما ان تتخذ إلا ممثلين لا غير، افلام السينماتوغرافيا ليس لها ان تتخذ إلا موديلات لا غير"، "إقمع النيات جذرياً في موديلاتك"، "أن أصور ارتجالاً مع موديلات غير معروفة في اماكن غير متوقعة من النوع المناسب لإبقائي في حالة كثيفة من اليقظة"، "موديل تملي عليه الحركات والإيماءات. يعطيك في المقابل جوهراً"، "موديل. إن السبب الذي يجعله يقول هذه الجملة او يأتي بتلك الحركة ليس فيه، إنه فيك. ليست الأسباب في موديلاتك. يتوجب على الممثل، على خشبة المسرح او في افلام السينما، ان يجعلنا نصدق ان السبب يكمن فيه". وهكذا نلاحظ اللغة الساخرة التي يكتب بها بريسون عن الممثلين، والتي تقابلها لغة عشقية تقريباً، بحسب تعبير مترجم الكتاب، لدى كتابته عن الموديلات، اللغة الساخرة نفسها يتابع بريسون في كتابته عن الأفلام المصحوبة بموسيقى فيقول: "ينبغي ألا يهبّ صوت لمساعدة صورة ولا صورة لمساعدة صوت ابداً"، "الصوت والصورة ينبغي ألاّ يساندا بعضهما بعضاً، بل يجب ان يعمل كل منهما بالتعاقب عبر ضرب من سباق التناوب". "موسيقى. انها تعزل فيلمك من حياته بهجة موسيقية. هي موزون قوي، بل ومدمّر للحقيقي، مثل الكحول او المخدرات". "لا موسيقى بصفتها مصاحبة، او دعماً، او تعزيزاً. لا موسيقى على الإطلاق". وفي الختام يغمز بريسون من قناة بعض المخرجين حينما يقول: "لا مخرج ولا كاتب سيناريو. انس انك تصنع فيلماً"، رسالة وضعها بين ايدينا قبل مفارقته الحياة من شأنها ان ترفع مستوى الفن وتغني الشاشات بأفلام يتمتع مخرجوها "بعين رسام"، "رسام يخلق بالنظر".