حققت السينما الإيطالية نجاحات باهرة بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال تيار الواقعية الإيطالية الذي توفرت له ثلاثة عناصر مهمة، ساهمت في تشكيل ملامحه الخاصة، وتتمثل هذه العناصر في ظهور أدب روائي وقصصي جديد، وولادة جيل من المخرجين السينمائيين ذوي المواهب المتعددة، وبروز جيل من الممثلين المثقفين الذين وصلوا الى مواقع التصوير السينمائي من بوابات المسرح. ويمكن أن نلاحظ أن التنافس بين المخرجين أخذ شكلاً من التعاون والتناغم النادر، حيث كان أكثر المخرجين يمارس التمثيل والكتابة أو الرسم، وانفرد بازوليني بكتابة الشعر. أما مايكل أنجلو انطونيوني الذي ولد في فيرارا عام 1912 فقد أضاف الى موهبته في الإخراج الكتابة والرسم والموسيقى، مع أنه درس الاقتصاد في جامعة بولونيا الأيطالية، ولكنه يظل مولعاً بفن العمارة دائماً. وتبدو أعمال أنطونيوني قليلة، بالقياس الى معاصريه، حيث بدأ العمل في السينما مساعداً للمخرج الفرنسي مارسيل كارنيه في فيلم "زوار المساء" عام 1942، وكان أول أفلامه الروائية الطويلة "حكاية حب" عام 1950. وتتركز اهتمامات انطونيوني دائماً حول دراسة طبائع الناس الذين عرفهم جيداً وعاش بينهم، وهم عموماً من الطبقة الوسطى في ايطاليا، وتتلخص معاناتهم في عدم القدرة على التكيف مع نمط الحياة الجديدة، وفي مواجهة أعبائها، وهو يصرّ دائماً على البحث المستمر في عمق تلك النماذج التي يختارها من هذا الوسط، ويفضل انطونيوني اختيار تلك النماذج من المثقفين، لأنهم أكثر حساسية وتفاعلاً مع الأزمات. يضم كتاب أنطونيوني "بناء الرؤية" أهم كتاباته واللقاءات الصحافية التي أجريت معه منذ نهاية الخمسينات، وقد صدر بالعربية في سلسلة الفن السابع عن المؤسسة العامة للسينما في مئتين وعشر صفحات من القطع الكبير بترجمة أبية حمزاوي. يصرّ أنطونيوني، بعد كل تجربته الطويلة، على أنه لا يعرف معنى محدداً، أو تعريفاً للإخراج السينمائي، وهذا ما يوحي بأن علاقته مع مهنته مفتوحة دائماً على البحث والتجديد والتغيير، وهو ما يتيح له رؤية الحقيقة بطرق مختلفة، وليس من زوايا مختلفة، فالمهادنة في الأخلاق والسياسة أصبحت أكثر انتشاراً في عالم اليوم، وهو يريد أن يصور شخصياته التي تعاني من مشاعر العزلة، لأن التواصل يتطلب كشف الحقائق، والشجاعة في اتخاذ القرار، وهذا ما يبدو صعباً في نمط الحياة الجديدة. وإذا كان لكل مخرج أسلوبه الخاص في التعامل مع السيناريو والممثل، فإن أنطونيوني يؤمن بأهمية الارتجال أثناء التصوير، لأن الارتجال يمكن أن يبني صوراً وأفكاراً جديدة لم تكن متوقعة من قبل، ومع أن المخرج هو الذي يحرك التفاصيل، ويوجّه الممثلين. إلا أن أنطونيوني يعتقد أن حرية الممثل في تنفيذ دوره لها أهمية خاصة، لأن حساسيته قد تكون مختلفة نحو المواقف المرسومة على الورق، فالمخرج يرتجل معتمداً على عقله، بينما يعتمد الممثل على غريزته في الارتجال، ويعمل على الصعيد الخيالي وليس النفسي، فالمخرج والممثل يعملان على مستويين مختلفين تماماً، وليس مطلوباً من المخرج أن يقدم للممثل سوى الخطوط العامة للشخصية، دون الدخول في التفاصيل، أو كشف النيات الخاصة به، ومن هنا قد يتحول الممثل الى حصان طروادة في قلعة المخرج. في عام 1950 قدم أنطونيوني أول أفلامه الروائية الطويلة "حكاية حب" طرح فيه موضوعاً تكرر في أفلامه الأولى وهو أزمة العواطف والقيم في المجتمع الإيطالي، وفي فيلم "الصديقات" نلتقي برسام يعاني من أزمة، وفي فيلم "المغامرة" يرصد أنطونيوني شخصية مهندس معماري لا يخطط ولا يرسم، وإنما يعالج أرقاماً ويضع احتمالات لعناصر انشائية، أما شخصية الكاتب التي يؤديها ماستروياني في فيلم "الليلة" فإنها تعاني من مشكلة من نوع آخر. وفي فيلم "هوية امرأة" نلتقي بمخرج سينمائي يحاول تقديم فيلم حول شخصية امرأة، ولكن هذه الشخصية ليست واضحة في ذهنه، حيث تختلط صور النساء اللواتي يلتقي بهن بصور نساء أخريات يعشن في خياله، ويعتمد أنطونيوني في ذلك على فكرة تقول بأن الرجل لا يستطيع أن يفهم سلوك النساء دائماً، وبشكل تام، وهذا ما جعل من علاقة الرجل بالمرأة موضوعاً أساسياً في الأدب العالمي، وسيظل كذلك حتى لو سافر الناس للعيش في كوكب آخر. وكان فيلم "الصحراء الحمراء" - 1964 - أول فيلم ملون لأنطونيوني، وهو يلخص مرحلة من النضوج الفني والأسلوبي الخاص به، وكان ذروة أدوار مونيكافيتي التي أدتها في أفلام أنطونيوني، وفي "الصحراء الحمراء" أدت دور امرأة تعيسة تعاني من الكوابيس والاضطرابات النفسية، وبرزت الألوان في هذا الفيلم لتخدم الأفكار التي يريد أنطونيوني الوصول اليها، وكانت تلك بداية اهتمام انطونيوني بتوظيف الألوان في أفلامه اللاحقة، ويؤكد أن الألوان ترعبه، وهو يرى كل الأشياء بالألوان، وفي المرات النادرة التي يحلم فيها تأتيه مشاهد الحلم بالألوان التي تحمل معها وظيفة نفسية ودرامية، وينسحب اهتمام أنطونيوني بالألوان على اهتمامه الخاص بالموسيقى. ان اهتمام أنطونيوني بالموسيقى التصويرية ينصب على المؤثرات الطبيعية، لأنه يرى أن الموسيقى نادراً ما تستطيع أن تؤكد قوة الصورة، فهي غالباً ما تساعد المشاهدين على النوم، أو تحرف الانتباه الى مجال مختلف، وإذا كان لا بد من وجود قائد أوركسترا لكل فيلم فإن أفضل من يقوم بهذا العمل هو المخرج نفسه. كان أنطونيوني عازفاً على البيانو والكمان، ولكنه توقف عن العزف بعد أن أصيب برجفات عصبية، كما توقف عن حضور الحفلات الموسيقية لأن حركات العازفين والجمهور تشتت الذهن وتصرفه عن الاستمتاع باللحن، ولهذا اكتفى بالاستماع الى الموسيقى المسجلة في المنزل، وهو يؤكد أن الموسيقى هي حبه الضائع، وعلينا أن نعطي للصمت مكانه اللائق به. وهنا نجد أن تعامل أنطونيوني مع الموسيقى في الأفلام واحترامه للصمت، يشبه تعامل المخرج الفرنسي روبير بريسون الذي طرح أفكاره الخاصة في كتابه الوحيد "ملاحظات في السينماتوغرافيا" ونجد اعترافاً صريحاً من أنطونيوني بأن المخرج الوحيد الذي تأثر به هو بريسون في فيلم "سيدات غابة بولونيا" من انتاج عام 1945. ويترافق اهتمام أنطونيوني بالموسيقى والرسم مع اهتمامه بالعمارة التي تسحره دائماً، منذ طفولته، حيث كان يصنع تشكيلات معمارية، من كومة يلعب بها أو بينها، وقد انعكست هذه العادة على رسومه، واحتلت أهم ما كان يتخيله من الأشكال وهو يرسم أو يخطط لمشاهد أفلامه القادمة، وكانت الأمكنة التي يراها أو يتجول فيها توحي له بحكايات أفلام لم ينجزها. كان للأفلام التسجيلية نصيب وافر في التجربة السينمائية الطويلة لأنطونيوني، فمنذ بداية الأربعينات الى الخمسينات، عمل أنطونيوني مساعداً لكبار المخرجين الإيطاليين، بعد تجربة عمل مع مارسيل كارنيه، ومنهم روسيليني ودي سانتيس وفيليني، وفي تلك الفترة صور فيلمه التسجيلي الأول "سكان سهل البو". وأفلاماً قصيرة أخرى، قبل أن يصور فيلمه الروائي الطويل الأول "حكاية حب"، وتوالت أفلامه تباعاً: هؤلاء أبناؤنا، الصديقات، الصرخة، المغامرة، الليلة، الكسوف، الصحراء الحمراء، انفجار، نقطة زابريسكي، المسافر أو المهنة صحافي، ويعتبر أنطونيوني كل أنواع الأفلام تسجيلية إذا كانت تحكي عن فترة ما في مكان ما. لكن أهم الأعمال التسجيلية التي أنجزها أنطونيوني هو "شونغ كيو" الذي صوره في الصين عام 1972، ومع اعتراف أنطونيوني بصعوبة فهم الصين واكتشافها في سنوات، إلا أن الذين شاهدوا فيلمه "شونغ كيو" من الذين لم يشاهدوا الصين عبروا عن اكتشافهم للصين من خلال هذا الفيلم، ولكن أنطونيوني كان قد عانى كثيراً من البيروقراطية وسوء التفاهم مع المسؤولين الصينيين في مراحل تصوير الفيلم، بسبب الاختلاف في أسلوب التفكير بينه وبينهم، أو خوفهم من الأجانب الذين ينشرون عنهم ما لا يريدون نشره. عندما يتحدث أنطونيوني عن خصوصية الرؤية، فإنه يعني الانتقال من الخاص الى العام، مع الاهتمام بالتفاصيل، ونسيج المكان وألوانه، فهو حينما يحب مكاناً ما، تراوده فكرة تحريك أشخاص في هذا المكان، فالرسام الذي يهتم باكتشاف حقيقة ساكنة، أو ايقاع ثابت، يختلف عن السينمائي الذي يبحث عن حقيقة متحركة، يحاول الإمساك بها، في اطار زمنها المتغير، ومن هنا فإن بناء الرؤية لحقيقة ما يظل مشروطاً بالمكان والزمن، لدى كل مخرج سينمائي.