1 تركنا دير مار الياس بعد أن زودنا الرجل الذي كلف بالعناية بنا بفطور جيد وزوادة حرزانة، ويممنا جسر الحجر. وهو جسر طبيعي حفرت المياه التي تتجمع من الأمطار منفذاً لها في الأجزاء الهشة نسبياً من الصخر، وظل الجسر معلقاً فوق مجرى المياه وكان يستعمل للانتقال عليه من ناحية من الطريق الى أخرى. والسير في الجبل صيفاً، مع ما يقتضي ذلك من صرف للطاقة يقتضي ان يريح الواحد أولاً، وإذا أراح أحس بالجوع فأفاد من الزوادة التي يحملها. خصوصاً أن تلك المناطق في لبنان، كما كنت اكتشف يوماً بعد يوم، لا تعدم نبعاً صغيراً أو كبيراً يزودك بالماء القراح. فكنا نفرغ المطرية التي كان حملها حصتي، في مقابل أن يحمل درويش الكاميرا التي كانت ترافقنا، ونملأها ماء طيباً منبثقاً من صميم الصخر. وهكذا فإننا استهلكنا القسم الأكبر من الزوادة ونحن بعد في النصف الأول من الطريق! لكن ما يهمنا فإننا لما انتقلنا من بيروت الى صوفر بالقطار اهتم أحد الركاب بنا فتحدثنا وقلنا له عن مشروعنا في الانتقال من الضهور الى العاقورة عبر جسر الحجر وخربة أفقة. فنصحنا الرجل أن نعول في "المُنَيْترة" على وجيه الضيعة وزودنا باسمه، فستلقون هناك كرماً وحسن ضيافة. وهكذا سرنا يحدونا الأمل بأن نستمتع بالطريق ونزور أفْقَة أو على الأصح "خربة أفقة" ونحصل في ما بعد على غداء وراحة قبل أن نتم الزيارة الى العاقورة وقال لنا الرجل أما في العاقورة فضيافتكم في بيت العماد. كانت أفقة مركز عبادة يعود الى أقدم الأزمنة. فالمكان مرتفع وينبع من مغارته ماء غزير يزود نهر ابراهيم بما لديه من الماء. والمكان المرتفع يحمل الناس على اختياره للعبادة. ولما وصل الرومان الى بلاد الشام ورأوا أفقة بنوا فيها هيكلاً كبيراً وجميلاً. والواقع ان موقع أفقة على طرفي جبلين يتوسطها منخفض هو النبع داخل المغارة الكبيرة، مما يحمل المرء على أن يسبح الله بسبب هذا الجمال الأخاذ. كل هذه الأبنية كانت لما زرناها ركاماً يتكدس أحجاراً ضخمة وأعمدة صحيحة أو مكسرة حول النبع في الداخل والمغارة وما حولها على مسافة كبيرة في الخارج. ذلك ان زلزالاً ضرب المنطقة سنة 1911 أو 1912، فلم يبق حجر على حجر. والإشارة الوحيدة الى ما كان قائماً هو الأكوام المتعددة للحجارة التي كانت تؤوي من البناء أجمله ومن الحفر، على ما يبدو على أطراف العمدان وبعض عتبات الهياكل ما جوده ازميل البناء الروماني. وبهذه المناسبة لما وصلت المسيحية الى تلك المناطق استمر التقليد على اعتبارها أماكن صالحة للعبادة، فأقيمت هناك كنيسة، أصابها ما أصاب سواها من التدمير. 2 بعد زيارة خربة أفقة، اتجهنا الى المنيترة الى بيت الوجيه الزعيم. كانت الساعة الثانية عشرة تماماً لما طرقنا الباب وأذن لنا بالدخول. كان بيتاً حرياً بالوجاهة والزعامة. واستقبلنا الرجل في صالون لا أنسى انبهاري به لأن يكون في مثل هذا المكان النائي. كان الاستقبال فاتراً. وأحسب انه من الطبيعي لرجل في منتهى أناقة اللبس، ان يدخل عليه اثنان بالبنطلون القصير الشورت والقميص المنبر والشعر الأشعث. لكن مع كل ذلك لم أغفر له إهمالنا، لأن كبار القوم لا ينفرون من الزائر عادة. بعد نحو ثلث الساعة من الحديث عن مشوارنا وغرضنا من ذلك وكم كنا نسأل عن الغرض أو الغاية طلبنا كأساً من الماء، فقدمت الليموناضة. أملنا خيراً. ولكن بعد عشر دقائق، لما استأذنا الوجيه بالسير، مع أنه عرف اننا نقصد العاقورة، أذن لنا من دون الإشارة بكلمة واحدة للطعام ونحن والله لو نقلنا الى المطبخ وأطعمنا هناك، لما تذمرنا. فشكلنا وثيابنا لا تسمح لنا بأكثر من المطبخ. خرجنا جائعين خائبين تعبين وليس في الطريق مكان للحصول على أكل، إذ لا قرى هناك، كما أبلغنا. أخذنا بالسير لكن التعب بسبب الجوع لم يكن مشجعاً. على كل لا بد من صفا! ومررنا بوادي الجوز، أرحنا، وتبردنا، وشربنا. لكن ذلك كله لا يحل عقدة الجوع. سرنا وحول الساعة الرابعة أو حول ذلك وصلنا وادي موسى. في سنة 1952 كنت أقضي مع أسرتي أياماً في ضيافة حليم طربيه وأهله في تنورين التحتا. فقد كان تلميذي في بيروت، ونشأت بيننا صداقة، كان من تتويجه ان زرناه في بلده سنتين متواليتين، ونعمنا بأيام مانعة. كنا نسهر في أحد الأمسيات على أطراف بيته، فسألت أين يقع وادي موسى من هنا، فأشار أحدهم الى الجهة الشرقية من الضيعة وقال في الجرود هناك. لكنه استغرب سؤالي. فقلت أنا أعرف هذا الوادي منذ 1925، ورويت بعض أخبار الرحلة وما أصابنا من خيبة الأمل في بيت الزعيم، ثم قلت اننا وصلنا الى وادي موسى حيث عثرنا على رعيان. كانت ثمة تحية وجلسة للراحة، ولم يلبث أحدهم ان قال، من دون أن نتكلم نحن، هل أنتم جياع، ولما قلنا له نعم قال خبز شوي يابس ويمكن بقية جبنة. وأخرج هذا من جربنديته. ووضعه أمامنا. كان هناك خبز شوي كثير ناشف، لكن لم يكن ثمة جبنة، فقد كانت قد استهلكت. أخذنا الخبز وأكلنا منه ما استطعنا مع ماء يُطرِّيه. على الأقل سندنا قلبنا كما يقول المثل. وبعدها اتجهنا الى العاقورة. وكنا نخشى أن يصيبنا هناك ما أصابنا في المنيترة. في أول العاقورة، وكانت الشمس قد غابت لكن آثارها لا تزال تنير الشفق، لقينا امرأة عجوزاً تملأ جرتها من نبع القرية السفلي. سألناها اذا كان يوجد فندق في العاقورة. كان جوابها حازماً: "لا ليس عندنا أوتيل، لكن من يأتي مساء فهو ضيف البلدة. تفضلوا عندي". تأملنا خيراً، وسألناها عن بيت العماد فقالت في أعلى العاقورة، سيروا على هذه الطريق تصلون إليه. سرنا وكان الطريق تسلقاً. وأخيراً وصلنا الى البيت، طرقنا الباب، فتح وقيل لنا تفضلوا. بعد قليل جاءت سيدة البيت وقالت ان زوجها سيعود بعد قليل فهو يزور الكروم. لكن انتم ضيوفنا أهلاً وسهلاً. وكان ثمة ماء وقهوة. لم يتأخر صاحب البيت، فلما جاء رحب بنا وقال اسمحوا لنا ببعض الوقت كي نعد العشاء، واستأذن للتغيب قليلاً للعناية ببعض شؤونه الخاصة. ولم نلبث أن سمعنا طرق جرن الكبة. كان لا بد من ذلك. فنحن ضيوف ولا يكفي أن تقدم لنا حواضر البيت. وبعض فترة وجيزة جاء بالمائدة الطبلية، وذهبنا فأرحنا وغسلنا أيدينا. وتحلقنا حول المائدة، وقد استدعى البعض من صحبه ليشاركونا في هذه المائدة المتواضعة، وقد كان عليها كبة نية ونوعان من المآكل المطبوخة والبيض المقلي والجبنة واللبنة والبندورة المحلية. وجاء كاس العرق، واعتذرنا، لا درويش ولا أنا قد اعتدنا تناول الشراب. كانت وليمة عوضتنا عن جوع النهار. وسمرنا وسمر القوم معنا. سألونا عن فلسطين، وعن الحركات الوطنية، والحكومة البريطانية وكانت هي المنتدبة في فلسطين يومها وعن أعمالنا وأعجبوا بفكرة الرحلة. نمنا شبعين سعيدين وحلمنا في سفرة الغد. الى الأرز، نعم الأرز ما غيره.