اضطر الناطق باسم البيت الأبيض لإعلان ان الرئيس جورج بوش "لم يغير" موقفه من "جدار برلين" الاسرائيلي. طبعاً لم يغير موقفه لأنه يؤيد أساساً هذا الجدار طالما ان مجرم الحرب ارييل شارون أبلغه ان هذا الجدار أقيم لدواع أمنية، أي لمحاربة الارهاب. وما أن يسمع بوش كلمة "الارهاب" حتى يتلبسه رد الفعل الغريزي اياه كما في تجارب بافلوف ويصاب بالعمى فلا يعود يرى إلا ما يقدم اليه على أنه ارهاب. ولم يغير بوش موقفه من مسألة الأسرى الرهائن الفلسطينيين، فهو يؤيد استمرار احتجازهم، وبالتالي يؤيد الابتزاز الذي يتبعه الثنائي شارون موفاز سعياً الى مبادلة الرهائن بتنازلات فلسطينية. ولم يغير بوش رأيه من اقامة دولة فلسطينية، فهو يؤيدها لكن شرط "انهاء الارهاب". هذا رئيس دولة عظمى وحيدة، ولديه مئات الخبراء والباحثين لافهامه أسباب النزاعات الدولية، وعليه مسؤوليات دولية تجاه الدول والشعوب، لكنه يضع طموح الشعب الفلسطيني في اطار لعبة أمنية سقيمة نسجها الاسرائيليون ونجحوا في زرعها في رأس هذا الرئيس الأميركي. لا يدل ذلك إلا الى عجز وضعف اسطوريين للديبلوماسية العربية. فما نشهده أمام عيوننا هو، مرة أخرى، للمرة الألف، سيناريو أكاذيب وخدع اسرائيلية يعرض أمام رئيس أميركي لديه كل الاستعداد لتصديقها وتبنيها لأنه يفكر في أصوات وأموال اليهود التي سيحتاج اليها في معركته الانتخابية المقبلة. ومن أجل هذا الهدف العظيم للعالم وللانسانية لا فرق إذا اطلقت عصابة شارون الرهائن الفلسطينيين أو واصلت احتجازهم، ولا يهم ان يقضم "جدار برلين" الجديد مزيداً من الأراضي الفلسطينية أو أن يهدم "الثقة" بين الاسرائيليين والفلسطينيين، بل لا داعي لافتعال أزمة مع شارون بسبب الاستيطان، وبالتالي لا مبرر لأي تغيير في سياسة أميركا التقليدية لمجرد تنفيذ "خريطة الطريق". في النهاية، هذه "الخريطة" وجدت أصلاً لإسكات الفلسطينيين. في غضون ذلك قال رئيس الوزراء الفلسطيني انه "مرتاح كثيراً" لتفهم الادارة الأميركية للقضايا التي طرحها. يصعب القول ان كثيرين يشاطرونه هذا الارتياح، خصوصاً بعد التصريحات البوشية والشارونية إثر لقاء البيت الأبيض. وفيما لا يزال الجدل ساخناً على مسألة الاسرى الرهائن، أعلن الاسرائيليون انهم اعتقلوا، أي خطفوا أمس، اثنين من ناشطي حركة "حماس" في الضفة الغربية. وفيما بنى شارون نجاح زيارته لواشنطن على سلسلة اجراءات أعلنها قبل سفره اليها، فإن الجميع يعلم ان تنفيذ هذه الاجراءات مسألة مختلفة تماماً عن مجرد اعلانها. فالمهم هو تمرير الخدعة على الاميركيين وبعدئذ لكل حادث حديث. وفي المقابل، عندما يعلن المسؤول الفلسطيني "ارتياحه" لمجاملة الأميركيين، فإن هؤلاء برهنوا في مرات سابقة انهم يأخذون مثل هذه التصريحات على أنها شهادة على حيادهم ونزاهتهم وحكمتهم وحسن تصرفهم، وهو ما لم يثبت بعد ولن يثبت. في وقت كانت المساعي مستمرة للافراج عن 15 رهينة اختطفتهم عصابة مسلحة في الصحراء الجزائرية، كان بوش وشارون يناقشان في واشنطن شروط اطلاق ما يقارب ستة آلاف من الرهائن الفلسطينيين، تحتجز عصابة اسرائيل حريتهم منذ سنوات وسنوات لأنهم يقاومون الاحتلال. عدا ان بوش وشارون لا يعتقدان أن هناك احتلالاً، فإنهما توصلا الى اتفاق لن تكذبه الوقائع لاحقاً: اطلاق بعض الرهائن ل"دعم" موقف رئيس الوزراء الفلسطيني، ثم اطلاق بعض آخر لقاء انجازات للحكومة الفلسطينية في مجال تفكيك "البنية التحتية للارهاب"، ثم بعض آخر لقاء السكوت عن الجدار، ثم للسكوت عن الاستيطان... شرط أن يبقى لدى العصابة الاسرائيلية عدد كاف من الرهائن لاستخدامهم في ابتزاز تلك الحكومة في مراحل لاحقة. بعد ذلك، انتقل بوش وشارون الى موضوع الجدار. ومن الواضح انهما لم يتوقفا طويلاً عنده، وإلا لكانا خرجا بموقف جدي يليق بلقاء بين رجلي دولة لا بثرثرة بين متواطئين. فلو أصدر الرئيس الأميركي بياناً يؤكد فيه تفهمه إقامة الجدار لأسباب أمنية موقتة، ويعلن ان الولاياتالمتحدة لن تعترف بهذا الجدار في أي مفاوضات على الحدود، لكان في امكان رئيس الوزراء الفلسطيني ان يقول عن حق انه "مرتاح" الى الموقف الأميركي.