بعد قصة سفينة السلاح "كارين A" التي سيطرت عليها القوات الاسرائيلية في عرض البحر الاحمر، صعدت حكومة شارون حملتها الديبلوماسية والاعلامية ضد السلطة الفلسطينية ورئيسها. وتعمل بكل الوسائل على عزله واضعاف مكانته السياسية والمعنوية داخلياً وخارجياً. وواصلت أمام العرب والعالم منعه من مغادرة مدينة رام الله وتحاصر مقر اقامته بالدبابات. وتحاول اقناع الرأي العام الاسرائيلي والدولي بأن عرفات طلّق السلام وتحول الى ارهابي خطير يهدد امن الشرق الاوسط كله. وتتهمه بادارة الارهاب وتنظيمه ضد اسرائيل والتستر على "ارهابيين"، وتوسيع دائرة تعاونه مع ايران واستعادة علاقته بحزب الله لتخريب استقرار المنطقة فهل هذه الحملة الاسرائيلية المركزة عابرة واغراضها تكتيكية، تستهدف اضعاف السلطة الفلسطينية وابتزاز رئيسها وانتزاع تنازلات سياسية، أم انها فصل من فصول مشروع خطير يبيته شارون ضد السلطة وقيادتها وضد السلام مع العرب وضد ايران وحزب الله؟ بالاستناد الى تاريخ شارون السياسي العسكري وتجربة الصراع العربي - الاسرائيلي، يمكن الجزم بأن الحملة الاسرائيلية الجديدة تتجاوز حدود الابتزاز السياسي للسلطة الفلسطينية ورئيسها، ولها اهداف سياسية وعسكرية وامنية كبيرة تتجاوز حدود الضفة وقطاع غزة. فالابتزاز السياسي يعني وجود نية وتوجه للعودة الى طاولة المفاوضات تحت شروط معينة. ومواقف شارون المعلنة من المفاوضات مع السلطة تؤكد ان هذا الامر غير وارد في تفكيره وتفكير شركائه في الحكم اقطاب اليمين. خصوصاً ان الادارة الاميركية ودول الاتحاد الاوروبي تبنت "تقرير ميتشيل" الذي يدعو الى وقف كل أنواع واشكال الاستيطان. وممارساته العملية على ارض الضفة والقطاع، منذ استلامه دفة الحكم، تؤكد انه ماض في تدمير ما تبقى من الاتفاقات التي توصل اليها الطرفان. وينتظر اللحظة المناسبة لإلغائها بصورة رسيمة، باعتبارها خطأ استراتيجياً ارتكبه قادة حزب العمل يقود حتما الى قيام دولة فلسطينية معادية لاسرائيل. وبصرف النظر عن ملابسات "سفينة السلاح" فقد سقطت عليه هدية من السماء في الوقت المناسب. ووجد فيها صيداً ثميناً ينقذه من المأزق الذي واجهه على ابواب جولة المبعوث الاميركي الخاص الجنرال انتوني زيني الثانية. حيث نجح عرفات في "امتحان اسبوع التهدئة" وفرض سيطرته على الاوضاع وتوقف اطلاق النار وتشكل اجماع دولي في حينه على ضرورة عودة الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي الى طاولة المفاوضات والشروع في تنفيذ تقرير "لجنة ميتشيل"، كخطوة اولى على طريق تنفيذ الاتفاقات الرسمية الموقعة بين الطرفين، ووضع آلية لتنفيذ "الرؤية الاميركية" التي تحدثت عن دولة فلسطينية. ويسجل للاستخبارات العسكرية الاسرائيلية نجاحها بالتعاون مع جهات امنية اميركية باختراق السفينة مسلسل السفينة "كارين A" من بدايته. وصورتها وكأنها مدمرة حربية تحمل رؤوسا نووية قادرة على تدمير اسرائيل.. ورغم انها ليست اكبر ولا اقل من مشروع نقل سلاح تقليدي، بهدف التجارة والسمسرة، من نقطة مجهولة في المياه الدولية الى نقطة اخرى اقرب الى ساحة الصراع العربية الاسرائيلية الملتهبة، حيث تزدهر تجارة السلاح، نجحت القيادة الاسرائيلية في خلط الحقائق بالأكاذيب، وفبركت وقائع جديدة وصاغت رواية كاملة، تم اخراجها في فيلم بوليسي طويل متقن، تعمل على عرضه في واشنطن وعواصم الدولة الاوروبية اطول فترة ممكنة. لا شك في ان تورط عناصر فلسطينية في قصة "كارين A" الحق ضرراً فادحاً بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني، وأربك الحركة الفلسطينية في حقل السياسة الدولية وداخل اسرائيل، وسهل على المؤسسة السياسية الامنية الاسرائيلية صرف الانظار عن ممارسات الجيش الاسرائيلي العنصرية ضد الفلسطينيين وزود شارون وحكومته بما يلزم لأسر الموقف الاميركي والايرانيواللبناني دفعة واحدة بشبكة واحدة: اشركت الولاياتالمتحدة الاميركية في "القصة" من بدايتها قبل بضعة شهور، وشغلت اجهزة الاستخبارات الاميركية في جمع المعلومات عن السفينة وحركتها في المياه الدولية. وحصلت المخابرات الاسرائيلية على معلومات اقمار التجسس الاميركية أولاً بأول، ووظفتها في افشال مهمة المبعوث الاميركي الجنرال زيني واستقبلته بالاعلان عن سيطرة الجيش الاسرائيلي على السفينة وكشفت عن محتويات السفينة قبل وصولها الى ميناء ايلات فأسرت موقف زيني واضطرته الى تعديل جدول اعماله الذي اعده قبل وصوله المنطقة، فمنح "قصة السفينة" اولوية على ما عداها من المسائل. وسيطرت المسائل الامنية على اجواء اللقاءات التي عقدها مع الفلسطينيين وعكرتها. وتحولت الى ذريعة لشطب جميع الجهود التي بذلتها القيادة الفلسطينية لتهدئة الوضع فترة اربعة اسابيع، وتبخر الحديث عن "خطة تنيت" وتقرير "ميتشيل". وعاد الجنرال "الزين" الى واشنطن "بخفي حنين"، ولم تتردد ادارة بوش في تحميل السلطة الفلسطينية مسؤولية فشل مهمته. وبعد مغادرة زيني المنطقة تنفس شارون الصعداء، وتابعت الديبلوماسية الاسرائيلية في دهاليز البيت الابيض ووزارة الخارجية الاميركية حملتها ضد السلطة الفلسطينية وضد حزب الله وايران. وقرر شارون، رغم انف شمعون بيريز، وقف الاتصالات السياسية والامنية مع الجانب الفلسطيني، التي احياها المبعوث الاميركي. ورغم ان احتجاز السفن في المياه الدولية يعتبر في القانون الدولي عملية قرصنة بحرية الا ان شارون سرق المثل العربي "ضربني وبكى وسبقني واشتكى". واتهم عرفات بالوقوف خلف تهريب السلاح بهدف احداث تغيير استراتيجي في موازين القوى العسكرية...! ينسجم مع التحول الاستراتيجي عن السلام الذي اعتمده، حسب اشاعة شارون، منذ ايلول سبتمبر الماضي بعد فشل مفاوضات قمة كلينتون وباراك وعرفات في كامب ديفيد. واتهم شارون ايران وحزب الله ومن يقف وراءه في سورية ولبنان بالضلوع في العملية ومساندة استراتيجية عرفات "الحربجية" وتزويده بالمقومات اللازمة لتنفيذها. وكان 50 طنا من الاسلحة التقليدية الخفيفة والمتوسطة كافية لاحداث هذا التغيير وتهديد وجود دولة اسرائيل المدججة بالاسلحة النووية. ورغم نفي السلطة الفلسطينية اي علاقة بالسفينة وتشكيل لجنة تحقيق رسمية خاصة لكشف ملابسات اشتراك بعض الكوادر الفلسطينية في العملية، واصدرت امرا بتوقيف جميع الفلسطينيين المتورطين فيها، الا ان ادارة بوش لم تأخذ ما قامت به السلطة في الاعتبار وتبنت جوهر الرواية الاسرائيلية، واستثنت رئيسها عرفات بشكل موارب وخجول. وصدقت مقولة شارون ان الاموال التي تصل السلطة ورئيسها تنفق على اجهزة ومؤسسات بعضها يمارس الارهاب وبعضها الآخر ينفق على شراء البواخر والسلاح. ولم تحرك ساكنا ازاء استمرار اسرائيل في مصادرة اموال السلطة الفلسطينية التي تجبيها من الضرائب والجمارك على بضائع يستوردها فلسطينيون. ورغم نفي ايران وحزب الله علاقتهما بالقصة، وتلميحهما الى مواقفهما السلبية من سياسة الرئيس الفلسطيني وتوجهاته "الاستسلامية"، الا ان بوش وأركانه رفضوا التوضيحات الايرانيةواللبنانية، وتبنوا الادعاء الاسرائيلي من دون دليل ملموس يلغي الادلة الكثيرة على تشنج هذه العلاقة منذ توقيع اتفاقات اوسلو، وهذا الموقف الاميركي شجع شارون على الايعاز لوزرائه الليكوديين برفع أصواتهم والمطالبة بتدمير السلطة ومؤسساتها وابعاد رئيسها عرفات الى خارج الاراضي الفلسطينية. ومع اقتراب عودة الجنرال زيني للمنطقة، اعلن شارون ان حكومته تنوي عقد جلسة خاصة لتقييم استراتيجيتها ازاء السلطة ورئيسها وطلب من الادارة الاميركية ارجاء الزيارة، وارفق طلبه بتصعيد نوعي لاعمالها العدوانية ضد الفلسطينيين، شعبا وقيادة وممتلكات. ونسف الجيش الاسرائيلي عشرات المنازل في مخيم رفح للاجئين امام سمع وبصر اهالي مدينة رفح المصرية. واستأنفت اجهزة الامن الاسرائيلية حرب الاغتيالات واغتالت المخابرات الاسرائيلية رائد الكرمي قائد كتائب الاقصى في منطقة طولكرم بهدف استدراج حركة فتح التي يترأسها عرفات الى رد فعل يمكنها من اختتام معركة تدمير السلطة والاطاحة برئيسها. وبصرف النظر عن النوايا والانفعالات التي تولدها مواقف شارون وممارسات جيش الاحتلال، اعتقد ان حركة "حماس" و "كتائب الاقصى" التابعة ل"فتح" وقعتا في الفخ الذي نصبه شارون، عندما قتلت الاولى اربعة جنود من البدو، ونفذت الثانية عملية انتحارية شوهت صورة النضال الفلسطيني، واضعفت موقف القوى السلام، خاصة وانها استهدفت قاعة افراح تغص بالمدنيين. ورغم وضوح نيات شارون قبلت ادارة بوش المبررات الاسرائيلية وصمتت على اجراءاتها العدوانية العسكرية والامنية والاقتصادية ضد الشعب الفلسطيني، وصمتت محاولات اذلال القيادة الفلسطينية وصنفتها أعمالاً تندرج في نطاق الدفاع عن النفس. اعتقد ان قصة السفينة وما سبقها وتلاها من مواقف اسرائيلية سياسية معلنة واعمال عسكرية ملموسة ضد الفلسطينيين، كافية للتأكيد على ان شارون ماض في تنفيذ مخططه المدمر لعملية السلام واخضاع الفلسطينيين والعرب لارادته ولا شك في ان مجاراة الادارة الاميركية لهذه المواقف وتبريرها لتلك الاعمال "وتفهمها"، وظهور النظام الرسمي العربي عاجزاً ومرتبكاً، يشجعه على تطوير مواقفه واعماله. ويعتقد شارون وأركانه ان تبدل اولويات الادارة الاميركية بعد احداث 11 أيلول سبتمبر العام الماضي في واشنطن ونيويورك وتركيز توجهها نحو محاربة الارهاب، يوفر فرصة ثمينة لتوريط ادارة بوش في حروب متفرقة في انحاء المنطقة بدلا من الانشغال في احياء عملية السلام وصنع استقرار الشرق الاوسط. ولئلا يفاجأ العرب كما فوجئوا عام 1967 يجب النظر الى حملة اليمين الاسرائيلية المتصاعدة ضد عرفاتوايران وحزب الله باعتبارها، من جهة، عملية تعبئة للشارع الاسرائيلي لتقبل قيام الاذرع الامنية الاسرائيلية بأعمال حربية نوعية واسعة تستهدف تقويض السلطة الفلسطينية وليس مفاوضتها، وقد تطال لبنان وسورية، وقدرات ايران العسكرية وخصوصاً برنامج تطوير الصورايخ الباليستية بعيدة المدى. ومن جهة اخرى، تهيئة الرأي العام الدولي وتحضيره لتقبل الاعمال الحربية الاسرائيلية اللاحقة. ومراجعة التحضيرات السياسية والنفسية التي قامت بها اسرائيل على ابواب حرب حزيران 1967 والحرب على لبنان في العام 1982، تعزز هذه الرؤية وتدحض تفسير بعض الاوساط الفلسطينية السطحي لحملة التعبئة التي يقوم بها شارون وخصوصاً حملته ضد عرفات. * كاتب فلسطيني.