قبل خمسين عاماً، في 27 تموز يوليو 1953 الساعة العاشرة ليلاً، دخل وقف إطلاق النار بين القوات الدولية المؤتلفة من الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية كوريا الجنوبية ونحو عشرين دولة أخرى، وبين قوات جمهورية كوريا الشعبية والديموقراطية الشمالية وقيادة "متطوعي الشعب الصيني"، وقت الانفاز أو ساعة الصفر. وكان وفدان مفاوضان وقعا في 19 تموز، قبل ثمانية أيام من الساعة العتيدة، اتفاق إنهاء الحرب بين الكوريتين، في أعقاب ثلاثة أعوام و32 يوماً على ابتدائها في 25 حزيران / يونيو 1950 سقط في أثنائها نحو 5،3 - 4 ملايين الى خمسة ملايين قتيل، عسكري ومدني، في صفوف المتحاربين طوعاً أو كرهاً. فخُتمت في نحو أسبوع واحد الحرب الساخنة الأولى في إطار الحرب الباردة 1943-1990. وهي أسهمت اسهاماً راجحاً في رسم اطار هذه الحرب التي كانت شبه الجزيرة الكورية مسرحها الأول ومختبرها. وأرست حرب كوريا مفاتيح الحرب الباردة ومفاهيمها البارزة مثل الردع النووي، وتوازن الرعب، والاحتواء، و"الدومينو"، والحرب المحدودة أو المقيدة وغير المباشرة، إلى إرسائها بعض أبرز هيئاتها الغربية مثل حلف شمال الأطلسي أو منظمة معاهدة الأطلسي الشمالي، حرفياً، وحلف جنوب شرق آسيا، وحلف "الأنزوس"، بين الولايات المتحدة الأميركية وبين استراليا ونيوزيلاندا، وحلف المعاهدة المركزية "حلف بغداد". ولعل تقسيم كوريا دولتين ونظامين ومجتمعين، على مثال سبق إليه تقسيم النمسا وطوي التقسيم هذا في وقت مبكر وتقسيم ألمانيا وكان توحيد ألمانيا بشيراً بنهاية الحرب الباردة، من آخر ذيول الحرب هذه. والذيول الأخرى مثل قضية التيبت، ومنغوليا، وفيتنام ديموقراطيتها وتايوان، مسرحها الحزام الصيني. وهذا قرينة على رجحان الدور الذي اضطلعت به الصين "الشعبية"، أي الشيوعية، ولا تزال تضطلع به في تقسيم كوريا، ودوام كوريا شمالية، دولة ذرية وفقيرة وجائعة، بازاء "شرق أقصى" ناهض ومزدهر في معظمه. ويعود تاريخ أول لقاء بين وفدين كوري شمالي وصيني وبين وفد يضم مندوب الولايات المتحدة وهيئة الأممالمتحدة التي قاتلت القوات الأميركية والكورية الجنوبية وقوات الحلفاء الآخرين تحت لوائها وبتفويض منها، إلى العاشر من تموز 1951، غداة 13 شهراً على اجتياح القوات الكورية الشمالية خط العرض 38 الفاصل بين شطرين، جنوبي عاصمته سيول، وشمالي عاصمته بيونغ يانغ" وعلى رأس كل شطر حكومة ومجلس "نيابي". وكانت الأفواج الأولى من "متطوعي" الشعب الصيني دخلت كوريا، من الحدود الشمالية المشتركة بين البلدين، في منتصف تشرين الأول أوكتوبر 1950. وحين صدت قوات الأممالمتحدة، والقوات الأميركية عمودها الفقري، الهجوم الصيني الكوري، وردت القوات المهاجمة الى شمال خط العرض مرة ثانية المرة الأولى في الأول من تشرين الأول 1950، والثانية في الثلث الثالث من أيار / مايو 1951، اقترح المندوب السوفياتي الى الأممالمتحدة، جاكوب مالك، في 23 حزيران يونيو 1951، هدنة موقتة مدتها شهر تجدد أو لا تجدد، في أثناء المفاوضة. وقصد الاتحاد السوفياتي نيابة عن الصين الشيوعية، بالمفاوضة استباق بلوغ القوات الدولية، في تقدمها، منطقة ممرات جبلية ضيقة تقع بين بيونغ يانغ غرباً وبين وُنْسان شرقاً، تعرف ب"خصر الزرقطة"، تبعد نحو 150 كلم الى الشمال من الخط الفاصل، وتمكن القوات الدولية من تثبيت خطوطها وقطع خطوط القوات الصينية، من غير تهديد الحدود الصينية في منشوريا. فقبلت القوات الدولية، في 30 حزيران، المقترح متسرعة. وبعد عشرة ايام التقى الوفدان المفاوضان. وآذن ذلك بمماطلة متعمدة ومرهقة وباهظة الثمن دامت نيفاً وسنتين. وتخلل المفاوضة انهيار منظم، تعمده الصينيون والشماليون، للهدنات المتعاقبة، وَلَدَ الانهيار جولاتٍ ومعارك اختبرت قوة الالتزام الأميركي الدفاع عن الأرخبيل الياباني القريب. فوقعت في الأثناء، أي بين ابتداء المفاوضة في تموز 1951 وبين ختامها في 19 من 1953، بعض أعنف الاشتباكات، وأعظمها نزفاً للدماء، من غير تحريك خطوط الجبهة. وعلى نحو ما ترفض بيونغ يانغ اليوم الصحف في 23 تموز 2003 الاحتفال في ذكرى انقضاء خمسين عاماً على نهاية الحرب، متذرعة بأن الاحتفال في إشراف قيادة الأممالمتحدة قرينة على جواز "حرب أخرى في شبه الجزيرة الكورية بتخويل الهيئة الدولية نفسها"، لم يرضَ كيم إيل - سونغ حضور التوقيع في بان - مون - جون، في المنطقة العازلة، يومها. ولم يرد الظهور أمام جمهور من الكوريين الجنوبيين مجرداً من صفة الرئاسة أو الزعامة. الشرفة وعقدة الطرق والهدنة عمّرت نصف قرن من غير انتهاكات خطيرة، ما خلا التسلح النووي والصاروخي الشمالي، ومن غير خطو الشطرين ولو خطى ضئيلة على طريق التقارب، إذا استثني لقاء قبل ثلاثة أعوام بين رئيسي الشطرين لم تعقبه اجراءات واعدة وذات شأن. ولعل مرد ذلك، على ما تقدم، الى حال الصين في دوائر العلاقات الاقليمية والدولية. فالصين اضطلعت بدور بارز - الى الاتحاد السوفياتي الذي كان ستالين على رأسه إلى 7 آذار مارس 1953، وآذنت وفاته بمرونة المفاوضين الصيني والكوري الشمالي - في الاعداد للحرب، وفي اندلاعها، ثم في المماطلة في انهائها. فمعظم الملابسات التي حفت اجتياز القوات الشمالية، في صبيحة 25 حزيران 1950، عرضَ الحدود بين المنطقتين البالغَ 260 كلم، هي ملابسات صينية في المرتبة الأولى. ففي 30 حزيران 1949 أعلن ماوتسي تونغ، زعيم الحزب الشيوعي الصيني، أنه ينحاز الى معسكر الاتحاد السوفياتي في المنازعة أو الحرب "بين العسكرين". وكان أحد أقرب أعوان ستالين إليه، جدانوف، وصف "سمة العصر"، "أو "المرحلة التاريخية" التي يمر بها "العالم" غداة 1948، ب"الحرب بين معسكرين" لا ثالث لهما: فإما يكون الواحد، رجلاً أو حزباً أو دولة، محازباً المعسكر الاشتراكي، ومقاتلاً تحت لوائه على كل المعاني وأولها العسكري، وإما يوالي المعسكر الرأسمالي، ويعادي الاشتراكية "غد الانسانية المشرق". ووقَّت الزعيم الشيوعي إعلانه غداة اجتياز قواته نهر يانغتسيه، وتقدمها الى بيجينغ بكين، في الأسابيع الأولى من 1949. وأقدم الزعيم الشيوعي الآسيوي، وهو على رأس أول حزب شيوعي يستولي على السلطة من غير سند الشقيق الأكبر الروسي العسكري على خلاف احزاب دول "الحزام" الأوروبي، على اجتياز النهر على رغم نصيحة ستالين، في أوائل 1949، بتأخير المسير الى بيجينغ تلافياً لتدخل أميركي عسكري في القارة. ولكن ماوتسي تونغ لم يأخذ بالنصح الستاليني، ولم يتذرع به الى التحفظ عن سياسة الاتحاد السوفياتي. وهذا، أي التحفظ، هو ما أملت فيه السياسة الأميركية، وسوغت به فتورها بإزاء قوات تشانغ - كاي - شيك وحزبه الكيومينتانغ، وإقلاعها عن مد العون إليها. فهي عولت على غلبة نازع وطني أو قومي صيني، يدعو الصين ولو شيوعية الى انتهاج سياسة بناء داخلي وتأليب القوى السياسة الوطنية الداخلية على هذا البناء، ويصرفها عن المشاركة في مشاغل السياسة السوفياتية الدولية. وربما يدعوها الى مناهضة التسلط السوفياتي، على ما لم تنفك السياسة الأميركية تعول منذ ثلاثينات القرن العشرين وما أنجزته عن يد نيكسون، ووزير خارجيته كيسنجر، في 1972. وسبق إعلان الزعيم الصيني الانحياز الى معسكر على آخر سفرَ شوان لاي، "وزير خارجية" ماو، إلى موسكو في 2 تموز. وفي أثناء الزيارة، على ما روى خروتشوف خليفة ستالين الأول على قيادة الحزب الشيوعي ثم الدولة السوفياتية، اعتذر ستالين عما بدا تشككاً في جهوز الحزب. ونَصَح بتقديم اعلان جمهورية الصين الشعبية من أول 1950 الى أول تشرين الأول أوكتوبر 1949. وأعاد ستالين مقاطعة سينكيانغ الى السيادة الصينية. وكانت في عهدة موسكو منذ 1930 واحتلال اليابان أجزاء من الصين. ولحق ماوتسي تونغ وزير خارجيته في كانون الأول ديسمبر 1949، وأقام في ضيافة ستالين شهرين. وأقر هذا لزميله "الكبير" بتدبير شؤون السياسات الآسيوية، وتقديم المصالح الصينية في النظر فيها، على حين يتولى الاتحاد السوفياتي السياسات الأوروبية. وفي ختام الزيارة التاريخية هذه، وقع الرجلان معاهدة عسكرية، في 14 شباط فبراير 1950، أصر ماو على تضمينها بنوداً تصرّح بإنشاء جبهة متضامنة ضد اليابان، الخصم الآسيوي القوي، وحلفائه. والولايات المتحدة الأميركية هي الدولة التي احتلت اليابان، وكانت في طور طي الاحتلال وتحويله الى حلف عسكري وسياسي قوي. واحتملت المعاهدة العسكرية معنى جديداً بارزاً جراء إقدام الاتحاد السوفياتي، في آب أغسطس 1949 على الأرجح، على تفجير قنبلته الذرية الأولى، وهو تفجير رصدته الأجهزة الأميركية في 22 أيلول سبتمبر. فاستبق تقديرَ الولايات المتحدة بوقت يفوق السنتين. ولضمان الاتحاد السوفياتي، القوة النووية الثانية، أمن الحليف الصيني بإزاء اليابان وحليفه الأميركي، معنى الالتزام الرادع، على خلاف معناه لو كان وفاض موسكو خالياً من السلاح المدمر. فشفع انتصار الحزب الشيوعي الصيني بعد شهرين من القنبلة الذرية، بمكانة الاتحاد السوفياتي وقوته السياسية والعسكرية. وفي أثناء زيارة ماو "بلد الاشتراكية الأول" وحلوله ضيفاً على ستالين والقيادة السوفياتية، زار كيم إيل - سونغ الزعيم الكوري الشمالي، موسكو بدوره. وفي لقاء الثلاثة اقترح الزعيم الكوري الشمالي، كيم إيل - سونغ، على كبير الاشقاء والرفاق، وعلى الزعيم الصيني المنتصر - وبلداهما يحوطان كوريا شمالاً ويصلانها ببر القارة، وتقوم كوريا منهما مقام "المصطبة" أو الشرفة المرتفعة التي تطل، ومن ورائها اليابان، على مرفأ فلاديفوسكوك الروسي الى أقصى الشرق، وعلى الشمال الشرقي الصيني الصناعي - اقترح توحيد الكوريتين تحت لواء الحزب الشيوعي الذي يشترك الثلاثة في انضوائهم تحته. فتحفظ ستالين عن الاقتراح، وأظهر قلقه من الرد الأميركي. ومال ماوتسي تونغ الى رأي الزعيم الشيوعي الكوري. وعلل ميله بكون أميركا لم تحرك ساكناً في الطور الأخير من استيلاء حزبه على العاصمة، وإلجائه حليفها، المارشال تشانغ، الى جزيرة فورموزا، قبالة الساحل الصيني الجنوبي - الشرقي. فإذا لم تحرك الدولة الغربية الكبيرة ساكناً في شأن الصين، فالأرجح ألا تنتهج سياسة أشد في شأن بلد "صغير" تبلغ مساحته 210 ألف كلم ويعد نحو الأربعين مليوناً. وأيد إقدامَ كيم وماو بإزاء تحفظ ستالين مبادرةُ الولايات المتحدة، في 5 كانون الثاني 1950، إلى قطع مساعدتها الى الصين الوطنية. وفي 12 منه ألقى وزير الخارجية الأميركي دين أكيسون خطبة شهيرة رسم فيها قوس الأمن الأميركي، أو خط الدفاع الذي تلتزمه الولايات المتحدة وتنيط بحمايته أمنها الوطني. فقال انه يبدأ شرقاً بآلاسكا جزر الإلويتيينز وجنوب اليابان والفيليبين، وسكت عن جنوب خط العرض 38. وكان حاكم اليابان الأميركي، وقائد القوات الأميركية في المحيط الهادئ في أثناء الحرب الثانية وبعدهما، الجنرال دوغلاس ماك آرثر، ذهب في آذار مارس 1949، إلى ان خط الدفاع الأميركي يمر بسلسلة جزر تقع على سواحل آسيا، وأول حلقاته جزر الفيليبين، وحلقته الثانية أرخبيل ريوكيو، وأوكيناوا حصن هذه الحلقة، ثم ينعطف ويجتاز اليابان الى سلسلة الإلويتيينز بآلاسكا وفي نيسان / ابريل 1950 عاد أكيسون عن رسمه وأدخل كوريا، ولكن كان السيف سبق. وأقر الثلاثي الشيوعي على تقديره وتوقعه غلبةَ التحفظ على السياسة الأميركية باسيا، الى الموقف من الصين ورسم خط الدفاع، إحجام الولايات المتحدة عن مساعدة فرنسا في حربها الفيتنامية، أو الهندالصينية على ما كان يقال يومها، منذ 1947. وكان ترومان، الرئيس الديموقراطي الذي خلف روزفلت، يرى شأن سلفه ان الامبراطوريات الاستعمارية الأوروبية وصمة على جبين الدول الأوروبية، وإرث يحسن بأصحابه التخلص منه. ولم يشك الثلاثة ربما في ان توحيد شطري كوريا هو المآل المقبول لتحرر شبه الجزيرة من السيطرة اليابانية الاستعمارية، ولا يشذ عن المثال "التحرري" الذي تدعو إليه السياسة الأميركية في الهندالصينية،وسارت عليه لتوِّها في الصين. وعلى هذا أقر اجتماع شباط 1950 بموسكو المعاهدة الصينية السوفياتية، وزيادة المساعدة العسكرية الى هوشي منه، الزعيم الشيوعي الفيتنامي، ومساندة كيم إيل سونغ. ولعل ما استمال ستالين الى سياسة ماو وكيم، وبدد تحفظه، اجراءاتُ الولايات المتحدة الأميركية في اليابان. فغداة خسارة الشطر الأعظم من الصين، اختطت السياسة الأميركية في اليابان خطة وضعت نصب عينها إنهاض البلد المحتل، وتحويله الى شريك وحليف، ورده الى المجتمع الدولي "السوي"، عوض تكبيله ومعاقبته على حربه الغليظة في المحيط الهادئ وسواحله وجزره. فحمل ماك آرثر الأرخبيل على إقرار اصلاحات سياسية واجتماعية أبرزها حرية العمل النقابي، وحرية العمل الحزبي، وضمان حرية الانتخابات النيابية، وتطهير جهاز الدولة،ومحاكمة مجرمي الحرب، وسن قانون اصلاح زراعي، وتفكيك المجاميع الصناعية الكبيرة والاحتكارية. فكانت الولايات المتحدة الأميركية السبب المباشر، بعد نحو قرن من حادثتي الكومندان بيري في 1853 و1854، في خروج اليابان من عزلته. وسن المجلس الياباني دستوراً نصت مادته التاسعة، على نحو غير مسبوق، على تخلي الشعب الياباني عن الحرب بما هي حق من حقوق السيادة، وعن حق إعلان الحرب، وتعهد ألا يعيل بعد اليوم جيشاً. فآذنت هذه السياسة بانبعاث اليابان قوة سياسية واقتصادية ديموقراطية على تخوم البلدين الشيوعيين الكبيرين. فأمرت قيادة الكومترن، المنظمة الأممية الشيوعية بموسكو، في 6 كانون الثاني يناير 1950، بينما القادة الثلاثة مجتمعون، امرت الشيوعيين اليابانيين بعرقلة المعاهدة الأميركية اليابانية الوشيكة بكل الوسائل الاضراب، التظاهر، الاشتباك مع قوى الأمن، الحملات الصحافية والدعاوية.... ولكن الشيوعيين اليابانيين، وأنصار "الحياد" الذين كانوا يؤازرون فعلاً وحقيقة السياسة الشيوعية، أخفقوا باليابان على نحو ما أخفقوا بأوروبا بعد سنتين، في ثني الحكومتين اليابانية والألمانية الفيديرالية الغربية عن الانخراط في الإطار السياسي والدفاعي والاقتصادي الغربي، بعد نفض أوزار ماضٍ امبريالي وعدواني كان قريباً وماثلاً يومذاك. والحق ان بين العوامل التي رجحت قبول ستالين سياسة كيم إيل - سونغ توحيد كوريا بالقوة العسكرية، وربما العامل الأرجح، احتسابه الحؤول بين اليابان وبين الاندماج في الكتلة الأطلسية الناشئة إذا نجح كيم ايل - سونغ في مد السيطرة الشيوعية الى الضفة الغربية من المضيق الفاصل بين بوزان الكورية وبين كيتاكيوشو اليابانية والبالغ عرضه 160 كلم فقط. فلا ريب في ان سيطرة شيوعية ناجزة على الشرفة الكورية، ومفترق الطرق البرية والبحرية بين الأقطاب الثلاثة، الروسي والصيني والياباني، كانت لتردع اليابان عن الميل من غير تردد الى القطب الأوروبي الأميركي ومركزه البعيد. ولكن ما حمل ستالين على مماشاة المغامرة الكورية، ومدها بما احتاجت إليه من عتاد ورجال ألف قطار محملة بالذخيرة والسلاح، بعد نيسان 1950، تمهيداً للاجتياح، وخمسة آلاف مستشار، هو عينه ما أحل كوريا مكانة عالية في الحساب الأميركي الأوروبي، ودعا السياسة الأميركية الأوروبية الى الدفاع عنها. تقرير المصير ورجحت كفة التوحيد القسري في الميزان الشيوعي والستاليني، من وجه آخر، جراء حال "الميدان" الكوري. فالمسألة الكورية كانت من فروع تصفية احتلال اليابان بلداناً ومناطق وجزراً بدائرة شرق اسيا، في العقدين اللذين سبقا الحرب الثانية وفصلا بين الحرب الأولى وهذه خاضها اليابان في صف الحلفاء وضد المحور وبين الأخيرة. وعلى هذا تناولها مؤتمرالقاهرة في 1943. فأقر مندوبو الولايات المتحدة وبريطانيا والصين الكيومنيتانغ حق هذه في استعادة جزيرة فورموزا، وطرد اليابانيين المحتلين، منذ اواخر القرن التاسع عشر، منها. وجاء في بيان المؤتمر، في كانون الأول من العام، ان حق كوريا، وهي كذلك من المستعمرات اليابانية، في الحرية والسيادة غير منازع. وفي اثناء مؤتمر يالطا، في شباط 1945، اعلمت حكومة سينغمان ري الكورية في المنفى المؤتمرين بقرارها الإسهام بخمسة آلاف متطوع في الحرب القارية. وفي يالطا طلب الأميركيون والبريطانيون الى الاتحاد السوفياتي المشاركة في حرب شرق اسيا المتطاولة والصعبة وهي حرب لم يبتها غير القصف الذري على هيروشيما وناغازاكي في آب/ اغسطس 1945، على رغم "معجزات" ماك آرثر العسكرية في حرب المحيط الهادئ. وانتظر ستالين، على ما يخمن مؤرخون وسياسيون كثر، التاسع من آب، يوم ناغازاكي. فعمد الى إدخال قواته منشوريا وساخالين، وكانتا شأن كوريا وبعض الصين من ممتلكات الدولة اليابانية. وفي العاشر من آب اعلن هيروهيتو، امبراطور اليابان، التسليم من غير شرط، وقبول قرارات بوتسدام نزع السلاح، التجريد من مناطق النفوذ، التطهير.... فلم يبق معوق يكبح تقدم القوات السوفياتية من منشوريا الى الجنوب، حيث كوريا بين اليابان والصين. فتدارك الأميركيون، متأخرين بعض الشيء، اجتياح القوات السوفياتية كوريا كلها- وهي، اي القوات السوفياتية، اقامت طوال حرب المحيط الهادئ على المراقبة والانتظار، ولم تحرك ساكناً -. فأعلنوا كوريا منطقتين. الأولى شمال خط العرض 38ْ، تركت إدارتها الى القوات السوفياتية. والأخرى جنوب الخط، استقدمت إليها قوات اميركية على عجل. فآذن انفراط العقد الياباني بظهور مسألة الشرق الأقصى. وأُوكل نزع سلاح القوات اليابانية المحتلة في شبه الجزيرة الى "الحليفين" الموقتين. وأنجزت القوات السوفياتية مهمتها من غير تأخير، بينما تأخر إنزال طلائع القوات الأميركية الى 8 ايلول 1945. وكان الباعث على استعجال دخول الجيش السوفياتي الخامس والعشرين في امرة الجنرال شيستياكوف كوريا، طمع ستالين في بسط سلطة مشتركة "حليفة" على اليابان، على مثال اوروبي منح ستالين "حزاماً" غير مأمول. ولكن ماك آرثر جبه الطلب السوفياتي برفض قاطع. فلما اعلنت جمعية وطنية اي مجلس نيابي كوريا جمهورية مستقلة، في ايلول هذا، عاصمتها سيول، على 40 كلم جنوب خط العرض، ونصبت سينغمان ري - سليل الأسرة الامبراطورية الكورية الحاكمة، والقس المتنصر البروتستانتي، و"دكتور" الحقوق من إحدى الجامعات الأميركية، والوطني الكوري المتشدد والمنفي في هاواي منذ عقود - رئيساً، لم يتلكأ المفوض السوفياتي في الاعتراف بالحكومة. ودعا الحركات السياسية المتفرقة الى العلانية. وبدا ذلك تحفظاً عن الجناح الشيوعي المقيم بيينان الصينية، معقل قوات ماوتسي تونغ. ولم تكن هذه البادرة السوفياتية الأولى عن تحفظ سوفياتي عن جناح شيوعي "صيني"، ولا الأخيرة. وفي الأثناء كانت القوات السوفياتية منشغلة بنقل الجهاز الصناعي الكوري من الشمال، حيث معظمه، الى "الداخلية" السوفياتية، على نهج علاقات "أخوي" اختبرته دول وسط اوروبا وشرقه في الوقت نفسه. ولم تستعجل السياسة الأميركية إعلان حكومة كورية وطنية. وتوقع الرئيس ترومان انقضاء بعض الوقت قبل هذا الإعلان، وتشكيل هذه الحكومة. ولكن الإلحاح المحلي حمل الجنرال هودج على إنشاء مجلس مذ ذاك من 11 عضواً، ترأسه "منشق" عن الحكومة السابقة، أدى انشقاقه الى فرط عقد الحكومة والائتلاف احزاباً. وأقر اجتماع بموسكو، في كانون الأول 1945، انشاء لجنة اميركية سوفياتية. وعهد إليها اعلان حكومة كورية موقتة، وتقديم المشورة الى الحكومة. فأظهر الكوريون سخطهم على اللجنة، و استبطأوا الاعتراف باستقلالهم. وأدت خلافات اللجنة الى تعليق البت في نقل السلطة الى الكوريين الى ايار مايو 1947، من غير الإفضاء الى حل. وفي اثناء العشرين شهراً المنصرمة منذ ايلول 1945 نقل كيم ايل - سونغ قواته وأركانه وناشطيه من شمال الصين الشرقي، ومن ملاذه في الاتحاد السوفياتي حيث اعتصم هرباً من السلطة اليابانية المحتلة في الحرب الثانية، الى الأراضي الكورية. فاستولى على الشمال الكوري في رعاية سوفياتية غير متحفظة. وهو كان اقام بعهدة الحزب والجيش السوفياتيين على رحب وسعة. وكان طليعة العائدين الى بيونغ يانغ شهراً واحداً بعد دخول القوات السوفياتية كبرى مدن الشمال. وفي اوائل 1946 انشأ حزب العمال الكوري، وهو الحزب الشيوعي، لجنة من اعضائه وأنصاره ولاَّها اعمال الحكومة. ونظمت اللجنة انتخابات محلية الى "مجلس شعبي اعلى" جاء على صورتها. وفي الجنوب فاز انصار سينغمان ري بثلاثة ارباع المنتخَبين الى مجلس تشريعي انتقالي. وشددوا النكير على الوصاية الأميركية، وعلى ضعفها بإزاء السياسة السوفياتية وإنشائها "وقائع" سياسية وعسكرية من العسير العودة عنها إذا ترك لها الحبل على الغارب. وأدى الضعف الأميركي في اوروبا، وفي المسألة البولندية على وجه التخصيص، الى إنكار موسكو صفة الحكومة البولندية التمثيلية بالمنفى اللندني، وانتهاكها الحريات والتعدد الحزبي، وإلى رسم الحدود البولندية الألمانية على نهر اودير - نايس بدل الراين الأعلى والإجحاف بألمانيا وحقوقها الإقليمية الثابتة. وكان السبب في ذلك كله التحسب لحاجة القوات الأميركية الى الإسهام السوفياتي على المسرح الياباني. فلما ظهر الإرجاء السوفياتي على حقيقته ومراوغته، وكانت معالجة احوال كوريا مختبراً من مختبرات هذا الظهور، تصدع "الحلف الكبير". وخلف تصدعه تخييم ظلال حرب عالمية ثالثة داكنة على عقول السياسيين والجمهور في أرجاء الأرض. وفي سبيل الخروج من حلقة الترجح والتردد، اقترح الأميركيون، في آب 1947، على الدول الكبرى الأربع، إجراء انتخابات حرة في كوريا، تتولى الهيئة الدولية الإشراف عليها، وينجم عنها مجلسان نيابيان، في الجنوب والشمال، ينتخبان بدورهما مجلساً واحداً موقتاً يجتمع بسيول، ويفاوض على انسحاب القوات الأجنبية. فرفض الاتحاد السوفياتي المقترحات الأميركية، وندد بعزم الولايات المتحدة على رفعه الى الهيئة الدولية. وكان الرفض السوفياتي قرينة على انتهاج ستالين سياسة تكاد تكون واحدة في آسيا وأوروبا. ففي حزيران يونيو 1947، ضربت القوات السوفياتية بألمانيا الحصار على برلين المقسمة، ومنعت الدول الثلاث المحتلة الأخرى الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا، من الانتقال براً الى العاصمة الألمانية، وقطاعاتها فيها، عبر الأراضي الألمانية المحتلة. وكان القتال الأهلي يستعر في اليونان بين الشيوعيين وبين الوطنيين، ويضيق الطوق السوفياتي على أوروبا المحررة، ويشد على خناق براغ في 1948، بعد بولندا والمجر، ليفضي الى سَفْيتتة شرق ألمانيا، ونقض اتفاقات بوتسدام ويالطا. ورد الاتحاد السوفياتي، في ايلول 1947، على المقترحات الأميركية جملة باقتراح انسحاب القوات الأجنبية من كوريا دفعة واحدة، وترك الكوريين يقررون "مصيرهم". ومؤدى المقترح السوفياتي، في ضوء الوقائع التي ندد الوطنيون الكوريون بها ابان تبلورها المتعمد، بسط كيم ايل - سونغ سيطرته، وسيطرة حزبه العسكري، على كوريا، شعباً وأرضاً، من خازان وموزان شمالاً الى بوزان وجزيرة شيجو جنوباً. ولم تقر الأممالمتحدة الرأي السوفياتي. وأقرت، في تشرين الثاني نوفمبر، الرأي الأميركي في انتخابات مزدوجة. وأنشأت لجنة مراقبة دولية من تسعة اعضاء، مثلت الكتلة السوفياتية فيها اوكرانيا. فامتنعت اوكرانيا من المشاركة في اللجنة. وفي اوائل 1948، ذهبت اللجنة الى كوريا. فلم تحظ بتعاون القيادة العسكرية السوفياتية في الشمال. فاضطرت اللجنة، إذ ذاك، الى اجراء انتخابات في الجنوب وحده، في ايار 1948. ففاز 198 نائباً، حصة انصار سينغمان ري المتشدد منهم اكثر من الربع بقليل 54 نائباً. وأقر المجلس دستوراً في تموز، وانتخب سينغمان ري رئيساً. فردت الإدارة السوفياتية، في ايار 1948 كذلك، بجمع مؤتمر كوري "وطني"، دعيت إلى المشاركة فيه "شخصيات" وهيئات وأحزاب من شطري كوريا. فطلب المؤتمر انسحاب القوات الأجنبية، وأقر دستوراً، ودعا الى الانتخابات عامة في إشراف لجنة شعبية مركزية. ففاز 360 نائباً عن الجنوب، حيث "استشير" المواطنون سراً، و212 عن الشمال، وبلغت نسبة المشاركين 9،99 في المئة شمالاً و52،77 على وجه الدقة جنوباً. والتأم عقد المجلس الشعبي الأعلى في 3 ايلول ببيونغ يانغ، وأقر دستوراً نهائياً، وعين كيم ايل - سونغ رئيساً للحكومة، وأعلن ولادة جمهورية كوريا الشعبية الديموقراطية. وفي 12 تشرين الأول، اعترف الاتحاد السوفياتي بالجمهورية "الشقيقة". وفي اليوم نفسه اعترفت الأممالمتحدة بجمهورية كوريا الجنوبية. وابتدأت القوات السوفياتية والأميركية انسحابهما، على رغم إخفاق الدولتين في الاتفاق على صيغة سياسية مشتركة، في ايلول. وحين الانسحاب كانت القوات الكورية الشمالية تعد 125 ألفاً، والجنوبية 16 ألفاً، وقوات الحليف السوفياتي ترابط في منشورياوراء الحدود الكورية شمالاً. فأبطأت القوات الأميركية انسحابها، ولم تنجزه إلا في حزيران 1949، عاماً واحداً قبل اجتياح الشمال الجنوب. وبلغ عديد القوات الجنوبية، حين انسحاب الأميركيين، 114 ألفا. وقد تدل هذه الوقائع الى إقرار اميركي وسوفياتي، في ذلك الوقت - وهو سبق القنبلة الذرية السوفياتية الأولى، وانتصار الشيوعيين في الصين القارية، واستخلاص الأوضاع والأحوال الأوروبية من تركيا واليونان ويوغوسلافيا جنوباً الى براغ شرقاً وبرلين وسطاً النتائجَ الاستراتيجية المترتبة عليها - بتقسيم كوريا على المثالين النمساوي والألماني والفيتنامي من بعد. والإقرار المزدوج هذا ابطلته الانتصارات الشيوعية على الجبهة الذرية، ثم على الجبهة الصينية، والسعي في إحراز انتصار على الجبهة اليابانية، والامتثال الأميركي والأوروبي لتقسيم اوروبا والرضوخ له. فلم يبدُ لستالين ان مساندته الحذرة اجتياحاً شمالياً لكوريا الجنوبية ينطوي على مخاطر عظيمة. وبدا اختبار الحرب غير المباشرة على مسرح فرعي، قريب من الحزام السوفياتي الصيني، لا يرتب خسارة جسيمة في حال الاضطرار الى التراجع، ولا ينجم عنه إلا المربح في حال الانتصار. وعلى هذا اجتاحت قوات كيم ايل - سونغ خط العرض 38ْ من غير إعلان حرب. فالبلدان شعب واحد في دولتين هما من مخلفات الإمبريالية، والحرب حرب بين الأهل، والانتصار فيها يقضي بإلغاء الدولة "العميلة". * الحلقة الثانية بعد غد الأربعاء. * كاتب لبناني.