القوات البحرية تدشن عروضها في شاطئ الفناتير بالجبيل    رئاسة اللجان المتخصصة تخلو من «سيدات الشورى»    «النيابة» تحذر: 5 آلاف غرامة إيذاء مرتادي الأماكن العامة    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    "مدل بيست" تكشف مهرجان "ساوندستورم 2024" وحفل موسيقي لليوم الوطني ال 94    الاتحاد السعودي للهجن يقيم فعاليات عدة في اليوم الوطني السعودي    الأخضر تحت 20 عاماً يفتتح تصفيات كأس آسيا بمواجهة فلسطين    "أكاديمية MBC" تحتفل بالمواهب السعودية بأغنية "اليوم الوطني"    "تعليم جازان" ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال94    مجلس الأمن يعقد اجتماعا طارئا لبحث التطورات في لبنان    شرطة نجران تقبض على شخص لحمله سلاحًا ناريًا في مكان عام    بيع جميع تذاكر نزال Riyadh Season Card Wembley Edition الاستثنائي في عالم الملاكمة    رياض محرز: أنا مريض بالتهاب في الشعب الهوائية وأحتاج إلى الراحة قليلاً    الدرعية تحتفل بذكرى اليوم الوطني السعودي 94    حاملة الطائرات الأميركية «يو إس إس ترومان» تبحر إلى شرق البحر المتوسط    «لاسي ديس فاليتيز».. تُتوَّج بكأس الملك فيصل    النصر يستعيد عافيته ويتغلّب على الاتفاق بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    الناشري ل«عكاظ»: الصدارة أشعلت «الكلاسيكو»    وزارة الداخلية تحتفي باليوم الوطني ال (94) للمملكة بفعاليات وعروض عسكرية في مناطق المملكة    السعودية تشارك في اجتماع لجنة الأمم المتحدة للنطاق العريض والتنمية المستدامة    هزة أرضية جنوب مدينة الشقيق قدرها 2.5 درجة على مقياس ريختر    رئيس جمهورية غامبيا يزور المسجد النبوي    أمانة القصيم توقع عقداً لمشروع نظافة مدينة بريدة    ضبط مواطن بمحافظة طريف لترويجه أقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    برعاية وزير النقل انطلاق المؤتمر السعودي البحري اللوجستي 2024    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    ب 2378 علمًا بلدية محافظة الأسياح تحتفي باليوم الوطني ال94    أمين الشرقية يدشن مجسم ميدان ذاكرة الخبر في الواجهة البحرية    المراكز الصحية بالقطيف تدعو لتحسين التشخيص لضمان سلامه المرضى    نائب الشرقية يتفقد مركز القيادة الميداني للاحتفالات اليوم الوطني    جيش إسرائيل يؤكد مقتل الرجل الثاني في حزب الله اللبناني إبراهيم عقيل    زعلة: ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الانتماء وتجدد الولاء    "الصندوق العالمي": انخفاض معدلات الوفيات الناجمة عن مرض الإيدز والسل والملاريا    حركة الشباب تستغل النزاعات المحلية الصومالية    الذهب يرتفع بعد خفض سعر الفائدة.. والنحاس ينتعش مع التحفيز الصيني    بعد فشل جهودها.. واشنطن: لا هدنة في غزة قبل انتهاء ولاية بايدن    «الأرصاد»: ربط شتاء قارس بظاهرة «اللانينا» غير دقيق    حافظ :العديد من المنجزات والقفزات النوعية والتاريخية هذا العام    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    محافظ حفرالباطن يرأس المجلس المحلي    أمطار متوسطة على منطقة المدينة المنورة    محمد القشعمي: أنا لستُ مقاول كتابة.. ويوم الأحد لا أردّ على أحد    وظيفةُ النَّقد السُّعودي    جمعية النشر.. بين تنظيم المهنة والمخالفات النظامية المحتملة    إسرائيل - حزب الله.. هل هي الحرب الشاملة؟    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    احذر «النرجسي».. يؤذيك وقد يدمر حياتك    قصيدة بعصيدة    أدب تختتم ورشة عمل ترجمة الكتاب الأول بجدة    قراءة في الخطاب الملكي    على حساب الوحدة والفتح.. العروبة والخلود يتذوقان طعم الفوز    التزامات المقاولين    صحة جازان تدشن فعاليات "اليوم العالمي لسلامة المرضى"    أكثر من 5 ملايين مصلٍ يؤدون الصلوات في المسجد النبوي خلال الأسبوع الماضي    برعاية خادم الحرمين.. «الإسلامية» تنظم جائزة الملك سلمان لحفظ القرآن    اليابان تحطم الأرقام القياسية ل"المعمرين"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة البعث في العراق ، الشيوعيون ضحايا الجبهة والسذاجة والسوفيات ، وضحايا صدام طبعاً 6
نشر في الحياة يوم 08 - 04 - 2003

بعد أن تناولت الحلقة الخامسة تأسيس "جمهورية الخوف"، هنا التتمة:
وكان هناك الشيوعيون. ومعهم تحضر ذكريات بشعة لعهدي قاسم والبعث: الموصل و"قطار السلام" في 1959، و"الحرس القومي" و"قطار الموت" وسلام عادل من أصل سبعة آلاف جثة للشيوعيين في 1963.
وفضلا عن الكراهية المريرة، أحس كل من الطرفين بحسد أمرّ حيال الآخر. فالبعث نظر الى الحزب اللينيني الثاني عدداً في العالم العربي نظرة مصارع الى أستاذ مدرسة: الأول قوي بعضله، قادر على ممارسة القتل، لكنه يتمنى من أعماق قلبه امتلاك شيء من معرفة الثاني، أو ما تراءى يومها كذلك. واذا كان في وسع المصارع خنقه حين يشاء، فإنه يحس ان انتصاراً كهذا قد يكشفه على الملأ جاهلاً أميّاً، فيرتدّ عليه بالفضيحة.
إذاً، صدر بعث العراق، جزئياً، عن ذاك الحسد لمن كانوا سادة الشارع في الخمسينات ومحور الحياة الثقافية للستينات. وقد آل بهم الحسد، معطوفاً على تطورات سياسية وايديولوجية تعدّت العراق الى جواره، الى سرقة بعض ملابس الشيوعيين وإيداعها المكتبة الفقيرة للعقيدة البعثية. وبالفعل فرز حزب عفلق، على مدى الستينات، عدداً من الكتّاب الذين اختصّوا بهذه المهمة، فكان منهم الياس فرح السوري وطارق عزيز العراقي وآخرون ممن يزوّجون باستمرار "قيادة الطبقة العاملة" الى "الرسالة الخالدة".
والشيوعيون، بدورهم، حسدوا البعث كما يفعل فلاح بالكاد يكفيه قوته إذ ينظر الى بدوي يغنم، بالسلب والنهب، قطيعاً بعد آخر. فهم حين أمسكوا بناصية الشارع في 1959، وكان لهم في الجيش 500 ضابط، امتنعوا عن القيام بانقلاب عسكري سهل أقدمت عليه، بعد عشر سنوات، قبضة من المغامرين البعثيين. وكان من مفارقات تلك العلاقة العجيبة ان شيوعيي العراق دفعوا غالياً ثمن صداقتهم للسوفيات الذين أوصوهم بأن لا يفعلوا، حرصاً على تحالفهم مع قاسم، فيما أفاد البعثيون لاحقاً من أنهم بلا أصدقاء يردعونهم، ففعلوا.
بيد ان الأمر أكثر من هذا. فالأخيرون كانت لا تزال لديهم مرجعية هي "القيادة القومية" التي شرّدها انقلاب 23 شباط فبراير السوري ما بين بيروت وعواصم أخرى. وتحت وطأة هزيمة 1967، أوصت تلك القيادة المنبوذة في كل مكان، والمعارضة لكل مكان، بإقامة "جبهات وطنية عريضة" للرد على الهزيمة. وتنفيذاً لتوصية ميشيل عفلق، اتصل تلامذته العراقيون بشيوعيي بلادهم عارضين عليهم الجبهة، فتلقّوا ردّين: واحداً من الحزب الرسمي، أي "اللجنة المركزية"، مفاده الرفض. فمعلومات الشيوعيين، يومها، ان عدد البعثيين لا يزيد عن سبعين شخصاً وهم، أصلاً، تعوزهم الثقة بحزب عفلق، ناهيك عن التعامل معه. أما الرد الثاني فجاء من الأقليين، أو "القيادة المركزية" بزعامة عزيز الحاج. وهؤلاء المعوّلون آنذاك على الكفاح المسلح، أتى ردّهم أكثر جذرية في رفضه.
والبعث كان، لأسباب عدة، اختار مخاطبة الشيوعيين. فهناك التنافس مع الرفاق الألدّاء في سورية على الظهور في مظهر "تقدمي". وهناك اليسارية الشعبوية التي لم تفارق البعث في سائر أقطاره. وأخيراً، وُجدت قلة من البعثيين العقائديين، كان عبد الخالق السامرائي أبرزهم، ممن أرادوا حقاً بناء "جبهة ترد على الهزيمة".
ثم ان الشيوعيين، مثل سائر رفاقهم العرب، كانوا باشروا، بعد 1967، مصالحتهم مع القومية العربية. فقد خرجوا من الكونفرانس الثالث الذي عقدوه في كانون الاول ديسمبر من ذاك العام بلغة منفتحة عليها وعلى قضية فلسطين. ومنذ خريف 1968، جعلوا يعزفون تكراراً على وتر "حق الشعب العربي الفلسطيني بالعودة وتقرير المصير". واذا صح ان انشدادهم الى التصور السوفياتي-المصري كما عبّر عنه مشروع روجرز، لم يرو غليل البعثيين، فالصحيح أيضاً ان التشكيك القومي القديم بمواقفهم لم يعد بديهياً وتحصيل حاصل كما كان من قبل.
وتجدد العرض بعد وصول البكر وصدام الى السلطة في 1968، فطالب الشيوعيون باطلاق المساجين اولا، وبحل الموضوع الكردي واشاعة الحرية للعمل الحزبي، فيما تمسكت جماعة الحاج، مأخوذةً بغيفارية الستينات، بالرفض المطلق. وفعلاً اصدر البعث عفواً عن مساجين اللجنة المركزية السياسيين وأرجع المطرودين منهم الى اعمالهم، متيحاً للشيوعيين في منافيهم الكثيرة ان يعودوا. غير أنه لم يتزحزح في ما خص السماح بحرية النشاط الحزبي.
وبدا واضحا ان الشيوعيين يطلبون ما لا يمكن للبعثيين ان يحققوه، بهدف أن لا يُصار الى اتفاق، فيما البعثيون مستعدون لأن يحققوا أكثر مما هو متوقع منهم. ذاك أن البكر وصدام العارفين بضيق قاعدة نظامهما، باتا واثقين من سيطرتهما على الجيش والأمن. إذاً ما الخطر في تقديم التنازلات حيث لا سلطة فعلية، وبما ينقّي الصورة التي شاعت عن حزبهما وسلطته في 1963. والأهم أنهما كانا في أمس الحاجة الى السلاح السوفياتي.
والحال ان التوجه نحو موسكو كان قليله اختياراً وكثيره اضطراراً. فشاه إيران يومذاك لم يُخفِ عداءه النشيط للحكم البعثي: ففي 1970 رعى محاولة تآمرية، وفي 1971، وقد انسحبت بريطانيا من الخليج، استولت قواته على جزر ابو موسى وطنب الكبرى والصغرى. ولأن التوهّم لا يصل بالبكر وصدام الى افتراض فكّ التحالف بين الشاه وواشنطن، فيما العلاقات مقطوعة مع الولايات المتحدة منذ 1967، بدا الخيار الروسي الممكن الوحيد. وإلى ذلك لا يمكن البعث، بين ليلة وضحاها، أن يغير السلاح السوفياتي الذي يستخدمه الجيش العراقي منذ 1958. فهذا من الكماليات التي تحصل في أزمنة الانفراج، والأفق يومها ملبّد بالتوتر في الداخل كما الخارج.
أما القيادة الشيوعية فلاحظت ان بعض سياسات البعثيين الجديدة "وطنية"، بل "تقدمية". وفي هذه الخانة صُنّف اتفاق 11 آذار مارس مع الأكراد والاجراءات النفطية التي انتهت بتأميم "شركة نفط العراق" في حزيران يونيو 1972. لكن القيادة ظلت تتردد، لا سيما وأن قاعدتها الحزبية لم تتزحزح عن رفضها التقاربَ مع "حمَلة السكاكين"، مغلّبةً خوفها وعداءها تبعاً لماضيهم وما انطوى عليه من مناهضة تكوينية للشيوعية.
بيد ان مرجعية الشيوعيين ليست قيادة قومية مطرودة وضعيفة. إنها الاتحاد السوفياتي، ثاني جبارين في العالم يومذاك. وبوجود أصدقاء كهؤلاء لم يكن الشيوعيون بحاجة الى أعداء. والحق ان السوفيات أنفسهم كانوا مَن صنع الجبهة التي جمعت الحزبين العراقيين ابتداء ب1973. وهم كانوا من حسم في النهاية، وبالاتجاه الذي حسموا فيه عام 1959، فارضين على رفاقهم في "حزب فهد" زواجاً قسرياً ما لبث ان انتهى اغتصابياً ايضاً.
لكن تلك قصة كثيرة المقدمات. ففي 1969 بدأ تقارب حذر بين البعث واللجنة المركزية أدنى، بالتأكيد، من سوية جبهوية. ذاك ان بغداد كانت اعترفت في 30 نيسان ابريل بألمانيا الشرقية، وعقدت اتفاق كبريت مع البولنديين في أول أيار مايو، ثم معاهدة للتعاون الاقتصادي والفني مع برلين في أواخره وأخرى مع موسكو في 5 تموز يوليو. وجعل الطرفان يتعاونان داخل أُطر ومؤسسات تعادل درجة التقارب المتحقق. فقد وُجدا سويةً في جمعية الصداقة العراقية-السوفياتية ولجنة التضامن مع الشعوب الأفرو آسيوية، كما أرسلا، في العام نفسه، وفدا مشتركا الى اجتماع مجلس السلم العالمي. وسُمح للشيوعيين بنشر دوريتهم "الثقافة الجديدة"، كما عُين، أواخر العام، عزيز شريف السكرتير العام السابق لأنصار السلم، وزيرا للعدل. وقبل ان يخوض الطرفان على لائحة واحدة، في 1970، معركتهما في انتخابات نقابة المحامين أصرّ الشيوعيون على التذكير بالمسافة التي تفصل بينهما. وبالمعنى هذا أكدوا على أن توزير شريف توزير له ك"شخصية مستقلة"، معبّرين بصوت خفيض عن خوفهم من أن يكون هدف التبرّع بوزارة العدل التصديق على أحكام إعدام كثيرة.
وبتردد ملحوظ سار الشيوعيون، لكنهم لم يمتلكوا لا المناعة ولا الشجاعة كي يعارضوا عاطفة جارفة يبديها رفاقهم السوفيات، أو يبرّدوا الحرارة التي تكتسيها علاقتهم بالعراق. ففي 9 نيسان 1971 شهدت بغداد، بكثير من الضجيج، توقيع البكر وألكسي كوسيغين، رئيس الحكومة السوفياتية، على معاهدة تدوم 15 سنة قابلة للتجديد، تربط الطرفين بما وصفته اللغة السوفياتية الشهيرة ب"صداقة دائمة لا تُفصم عُراها". وبموجبها تعهدت كل من الحكومتين "عدم الدخول في اي تحالف او المشاركة في اية كتلة او السماح باستعمال أراضيها لأي نشاط قد يُضر بالطرف الآخر عسكرياً". ولئن هلل "حزب الطبقة العاملة" في العراق "لهذا المكسب التاريخي العظيم"، بدا واضحاً أن السوفيات مستعدّون لأن يضحّوا بالرفاق العراقيين من أجل العلاقة بحكومتهم، على ما فعلوا في بلدان، عربية وغير عربية، كثيرة.
وموسكو صارت تملك الكثير مما يستحق التمسك به. فقبل توقيع المعاهدة بيوم واحد، وافقت على تقديم قرض كبير لبغداد لتمويل منجم للفوسفات ومصنع للاسمدة الكيماوية وخط انابيب نفطي ومصفاة للنفط ومحطتين لتوليد الكهرباء مائياً. وفي 24 حزيران نص اتفاق فني على تقديم الاتحاد السوفياتي مساعدات لتطوير حقل نفط الرميلة الشمالية. وفي هذه الغضون كان الغزو الايراني لجزر الخليج يرشّح التعاون للارتقاء الى "مستوى أرفع".
ولأنه لم يكن في وسع شيوعيي العراق ان لا يشاركوا في صد "مؤامرات الرجعية الشاهنشاهية والامبريالية الأميركية"، بدأت عملية تفاوض مديد ومعقد بين الحزبين. وعلى امتداد تلك العملية بدا حزب فهد مغلوباً على أمره. فتوازن القوى كان مختلاً بالكامل ازاء البعث، فيما أدى الانفراج الجزئي الى انكشاف بعض قيادات الشيوعيين وقواعدهم لأعين السلطة. وبينما جعل السوفيات يضغطون عليهم كي يتفقوا مع خصوم الأمس، وبأسرع ما يمكن، كان النموذج السوفياتي في بناء الجبهات حجة دائمة لصالح البعثيين: إذ كيف يُطلَب الانتقاص من مفهوم "الحزب القائد" في بغداد ولا تجوز المطالبة نفسها في موسكو او أي من عواصم كتلتها؟ أولم يكن البلاشفة الروس أول من أدخل المفهوم هذا الى السياسة، وأول من أعطاه أنياباً من حديد يجهد صدام لإنبات مثلها في فمه؟
وفعلا كان التفاوض مع اللجنة المركزية مضنياً، تخللته محاولة استغلال الاتفاق مع الاكراد في 1970 لعزل الشيوعيين وتهميشهم. ولم ينقض غير اربعة اشهر حتى كشفت قيادة البعث عن شروطها الفعلية للقبول بالشيوعيين أعضاءً في "جبهة وطنية تقدمية". فقد طالبتهم ب"تثمين موضوعي وصريح" للبعث ك"حزب ثوري وحدوي اشتراكي ديموقراطي"، وب"تقييم لا لبس فيه… لثورة 17 تموز"، وب"اعتراف بالدور القيادي لحزب البعث في الحكم والمنظمات والجبهة"، والتزام بعدم إيجاد "ولاءات خاصة داخل القوات المسلحة غير الولاء للثورة"، ورغبة في اقناع "الامتدادات الدولية" للحزب الشيوعي بالتحالف مع فروع البعث في البلدان العربية الأخرى، و"الرفض الكامل للدولة الصهيونية"، و"تبني النضال المسلح من أجل التحرير الكامل لفلسطين"، والقبول بالوحدة العربية على انها "الهدف الأسمى والأساسي الذي يوحّد كل الأهداف"، والإيمان ب"التحول الاشتراكي للعراق". وبلغة أخرى، أريد من الشيوعيين أن يصيروا بعثيين من دون مشاركتهم مغانم السلطة.
وشكك الحزب الشيوعي بهذه الشروط وفنّد، بما يجمع بين الرزانة والتهذيب والعقلانية اليسارية لذاك الزمن، مطالب البعث. وكان لافتا للنظر ان يعترض الشيوعيون، بين ما اعترضوا، على "التحول الاشتراكي" لأنه "غامض" بقدر ما "يحرق المراحل". فالبلد، في نظرهم، لا يزال مطلوبا منه ان "يستكمل ثورته الوطنية الديموقراطية". واذا بيّنت هذه المساجلة ان حزب فهد متماسك في خرافته، يتحكم بها ويسيطر عليها، بيّنت ان حزب عفلق يسيء سرقة الخرافة الشيوعية برداءة المصارع حين يستعير لسان الأستاذ.
وفي 20 تموز، وفي مؤتمر صحافي، استُحضر المصارع الى الحلبة، فحذر البكر الشيوعيين من "اللعب بالنار" واتهمهم ب"نكران الجميل"، من دون ان ينسى التهديد لكل من تسوّل له نفسه التجرؤ على الحكم.
وبدوره خرج المؤتمر الشيوعي العام الثاني، الذي انعقد عامذاك في كردستان، بمقررات تتمسك بملاحظات لا يود البعثيون سماعها. فهي قضت بتأييد مبدأ التعاون مع البعث مرفقاً بالتحفظ عنه. ولئن التقى القيادي الشيوعي عامر عبد الله بالبكر وصدام فقد نشر، في الوقت ذاته، في "الثقافة الجديدة"، مقالات انتقادية لما طرحه البعثيون.
ورغم كل شيء تواصل الحوار الذي لم يملك الشيوعيون قطعه. فقاده من الجانب البعثي عبد الخالق السامرائي الذي ما لبث ان سُحب لتفهمه مواقف محاوريه ممن أصرّوا على ألاّ يكون هناك طرف قائد. وتهدد الحوار مرارا ودغدغت بعض الشيوعيين فكرة العودة الى السرية، ولكن هيهات. فقد وصل الأمين العام عزيز محمد حاملا توصية موسكو بأنه ينبغي التفاهم مع النظام "اليساري" القائم.
وفي 15 تشرين الثاني نوفمبر 1971 أعلن البكر "لائحة العمل الوطني" التي مهدت الطريق الى الجبهة، فأكدت على محورية "التصدي لشاه ايران وجميع المؤامرات الامبريالية والصهيونية"، كما دعت الى "تحالف وطني واسع"، والى "ضمان… كل الحريات الديموقراطية لجماهير الشعب وقواه الوطنية والتقدمية، بما في ذلك حرية الاحزاب السياسية والجمعيات الاجتماعية والمهنية والنقابية". ورد المكتب السياسي للحزب الشيوعي بعد 12 يوماً فبادل خشبية اللغة البعثية بخشبية مماثلة، كما رد على تحية البعث السياسية بأحسن منها.
وبقي للشيوعيين، مع هذا، حق التشدد في ما يمسّهم في أرواحهم وأجسادهم. فهم، في آخر المطاف، يتعاطون مع البعث، وما أدراك ما البعث! هكذا طالبوا النظام بوضع "نهاية حاسمة… لكل أشكال الاضطهاد" ضدهم او "ضد اية قوة وطنية أخرى". لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟ فقبل ان يبدأ التفاوض، وفي موازاته، استخدم البعثيون القوة بطرقهم المعهودة. ففي 5 تشرين الثاني 1968 قُتل شيوعيان وجرح آخرون خلال اضراب في معمل للزيوت النباتية في بغداد. وبعد يومين فقط قُتل ثلاثة منهم إذ هوجمت مسيرة نظّموها، في الرصافة ببغداد، بمناسبة الذكرى الحادية والخمسين للثورة البلشفية. وكانت قوات الأمن التي يمسك بها صدام من هاجم وقتل. وفي حزيران 1969 قُتل عضو اللجنة المركزية ستار خضير، وفي كانون الأول اختطف الشيوعي عبد الامير السعدي. وفي 20 آذار 1970 عُثر على محمد أحمد الخضري، عضو لجنة بغداد، مقتولا في احد شوارعها، وبعد يوم واحد فُرّق بالقوة شيوعيون أرادوا ان يحتفلوا بعيد نوروز الكردي في العاصمة. وإذ نفى البعث، أكد الحزب الشيوعي ان مئات عدة اعتقلوا في انحاء العراق.
والحال أن شتاء 1970-71 شهد حملة اعتقالات واسعة النطاق للشيوعيين في المحافظات الجنوبية. وفي كانون الثاني يناير مات تحت التعذيب قياديان منهم هما كاظم الجاسم وعزيز حميد. وفي أيار قُبض على ثابت حبيب العاني، عضو اللجنة المركزية، في احد شوارع بغداد وسيق الى مكان مجهول تحت حراسة رجال الأمن العام.
واضطُر، في النهاية، صديق الحزب عزيز شريف الى الاستقالة في آب أغسطس من وزارة العدل لتذيع، بعد أقل من شهر، أخبار موت عضو الفرع الكردي واللجنة المركزية، الشيخ علي البرزنجي، تحت التعذيب في سجن "قصر النهاية".
اما القيادة المركزية التي تمسكت بموقفها الراديكالي فصعّدت، أواخر 1968، داعيةً الى اطاحة النظام. وبشجاعة رجال عصابات، هاجم مناضلوها مكاتب رسمية استولوا على اموالها، كما أطلقوا النار على منزلي صدام وصلاح عمر العلي. لكن في شباط 1969 نجح النظام في القبض على الحاج الذي حمله تعذيب لا يُطاق على كشف رفاقه، فاقتيد مع اعضاء مكتبه السياسي الى "قصر النهاية" أيضاً. وهناك أودى التعذيب بأكثر من عشرين في عدادهم عضوا مكتب سياسي. وانهار الحاج داعياً أتباعه، عبر شاشة التلفزيون، الى التخلي عن العنف والتعاون مع الحزب الحاكم.
على ان يوم 14 ايار 1972، وقبل أن تُبت المسائل العالقة مع اللجنة المركزية وتقوم الجبهة، كان يوم الهدية المسمومة. فقد عرض البعث على الشيوعيين المشاركة في الحكم بحيث تكون لهم حصة في السلطة ما عدا الجيش، وثلاث وزارات هي الدولة والري والعدل. وفعلاً سمّى الحزب وزيريه عامر عبد الله ومكرم الطالباني، قبل أن يتخذ قراره بالمشاركة فيها أو التوقيع عليها الذي تأخر حتى 17 تموز 1973.
وإذ دبّت الحرارة بموسكو ظلت قاعدة الحزب الشيوعي فاترة، لا سيما وان السلطة الفعلية ليست في يد مجلس الوزراء اصلاً، بنص من الدستور الموقت، فيما مراكز القوى كلها في يد البعث حصراً. لكن الموجبات السوفياتية ودعم النظام "في مواجهة شركات النفط وايران والامبريالية" كُتبت لها اليد العليا.
إذاً انطوى الأمر على مشاركة شكلية، وإن تحققت فيها للشيوعيين بضعة إنجازات. فقد كسب حزبهم مشروعية قانونية وصارت صحيفتهم السرية "طريق الشعب" علنية فغدت تطبع، في 1975، اكثر من ستة ملايين نسخة. وإذ أتيح لهم نشر أدبياتهم راحوا يكسبون أعضاء جدداً. لكن التفاؤل استبد ببعضهم حين ابتدأ هدم "قصر النهاية" الذي قضم ما لا يُحصى من جثث الشيوعيين، وفات هؤلاء أن السجون يمكن ان تُبنى بالسرعة التي تُهدم فيها ما دام السجّان موجوداً. كذلك جرف الوهم بعضهم فخالف تحذير كارل ماركس من أن سنونوة واحدة لا تصنع ربيعاً. وراودت هذا البعض أفكار بلهاء في ما خص صدام الذي وُصف بقائد "الجناح اليساري" للبعث، كما لم يتوقف تذكيرهم بنيله وساماً من الزعيم الكوبي فيديل كاسترو.
على أن المفاجآت كانت بالمرصاد. ففي آذار 1975 وُقّعت اتفاقية الجزائر العراقية-الايرانية وانهارت الحركة الكردية تالياً. وهذان الحدثان ألغيا الحاجة الداخلية الى الشيوعيين بقدر ما خفضا درجة التعويل على موسكو خارجياً. وفي الغضون هذه شرعت تظهر نتائج الارتفاع الهائل لأسعار النفط بعد حرب تشرين. فما بين 1973 و1978 تضاعفت مداخيل الدولة العراقية قرابة عشر مرات، وفي 1976 غدت حصة النفط من مجموع عائدات الدولة 87 في المئة. وانطلقت مشاريع التنمية الأسرع والأكثر ديناميكيةً، وفي الآن نفسه الأكثر رهافةً وحذلقةً. وأضحت المجموعة الحاكمة تتصرف تصرف أغنياء جدد مأخوذين بتقنية الغرب الأرقى، ومتبرّمين بطرق السوفيات وبطئهم وقِدَمهم ونوعية تسليمهم للبضائع والتزامهم الرديء بالمواعيد.
وهذا لم يعن، بالطبع، ان السوفيات حُرموا كل شيء. فهم مُنحوا، مثلاً، مشروعاً ضخماً، أواسط السبعينات، لبناء خط انابيب البصرة بغداد. لكن الاتجاه نحو فرنسا وسائر البلدان الغربية شرع يتعاظم. وبعدما وصل حجم التبادل الخارجي للعراق مع دول الكتلة السوفياتية الى 13 في المئة من مجمل التبادل عام 1974، انخفض الى 7 في النصف الثاني من 1975، ليستقر في 1981 على نسبة هزيلة لا تتعدى ال6،2. كذلك امتد تنويع الاستيراد الى السلع العسكرية، وهو ما احتكرته طويلاً موسكو وكتلتها. وبفعل إخضاع الاكراد والهدوء السائد على الجبهة الايرانية، أتيح تغيير انظمة التسلح وتدريب الجنود على معدّات جديدة بأعصاب مسترخية.
وللمرة الاولى من قبل طرف غربي، وافقت فرنسا، في ايلول 1976، على تزويد العراق ما بين 60 و80 طائرة ميراج، تلاها في العام التالي 200 دبابة. وشقّت سياسة بغداد في تنويع الاستيراد طريقها، ولم يكن على السوفيات الا أن يعتصموا بحبل الصبر: ذاك ان الرئيسين المصري انور السادات والسوداني جعفر نميري سبق أن رسما معياراً عربياً يمكن ان يبلغه إذلال موسكو، فبدا الانعطاف العراقي مهذباً جداً بقياسه. ثم ان الروس حافظوا على حصة، ولو متضائلة، من سوق غنية يتقبّلون منها ما لا يتقبلونه من مصر والسودان.
وتواطؤ كهذا على الصمت أتاح لسلطة البعث ان تقدم انعطافها بوصفه عاملاً تقنياً لا تخالطه السياسة والايديولوجيا. فكيف وأن حرب تشرين وصواريخ سام السوفياتية لم توجِد للاتحاد السوفياتي تلك الشعبية التي توخّاها الشيوعيون، فيما ظلت البيئة العراقية السنية والمحافظة مقيمة على تحفظها الدائم عن الشيوعية.
وفيما بدا السوفيات زوجاً مخدوعاً ومضطراً الى التظاهر بالرضا، كان من الصعب على شيوعيي العراق ان يفعلوا الشيء نفسه. فقد ترافقت تلك التحولات مع تعاظم سلطات صدام على حساب البكر، ومن ثم تضخم المشروع التوتاليتاري وتمدده الى كل زوايا المجتمع وتنظيماته ونشاطاته. وأحس الشيوعيون بغزو كاسح ماسح ترفده قدرات مالية غير مسبوقة.
والحال ان براقش كانت جنت على نفسها. فتأميم 1972 ثم ارتفاع العائدات في 1973-74 مما تحمس له الشيوعيون وأوّلوه مكسباً وطنياً، كان مكسباً دولتياً أيضاً. وحين تكون السلطة بمنجاة من الرقابة والمساءلة، يطغى الدولتي في المكسب على الوطني، فيقضي الشيوعيون عند زاوية التقاطع بين الاثنين، وبين التأويل الساذج والواقع الخبيث.
لكن غزو الفضاء العام، ومعه الحيّز الخاص، جاء معززاً بقمع من عيار بعثي. فمنذ أواخر 1975 بدأت حملة تبين معها ان السنتين السابقتين كانتا تسميناً للطريدة قبل التهامها. فقد اعتُقل عشوائياً عدد من الشيوعيين فتعرضوا لتعذيب يشبه توجيه رسالة مبكرة الى حزبهم. ونشرت "طريق الشعب"، في آذار 1976، سلسلة مقالات تنتقد سلوك النظام في ما خص الاكراد والاقتصاد، موحيةً بأنه يقترب كثيرا من الغرب. وفي نيسان بدأ الحزب يتذمر وراحت نشاطاته تتعرض للتقييد، فحين حل مؤتمره الثالث في بغداد، في أيار، عبّر بوضوح عن الاستياء، مطالباً بتفعيل الجبهة وتطبيق علاقاتها على المنظمات الجماهيرية التي يحاصرها البعث ويخترقها.
وجدد التدهور ذكريات ال1963. فحُرّمت الحيادية واللابعثية في الوظائف العامة والشرطة، ناهيك عن الجيش. وكتب طارق عزيز في جريدة "الراصد" البعثية معيّراً الشيوعيين بعلاقتهم بموسكو. وأخيراً جاءت المحطة الانفجارية باعتقال الأمن 38 ضابطا حُكموا بالاعدام الذي نُفذ بكثيرين منهم. ووسّط الشيوعيون البكر، قائد "الجناح اليميني" في البعث، ففشل أسيرُ قصره في ان يغير القدر الذي رسمه صدام وصدام، في أمر الجيش، لا يقبل الوساطة.
وانفتح الباب واسعاً للوعيد الذي يقطر دماً. ففي أواخر أيار 1978 حذّرت صحيفة "الثورة" الحزبيين غير البعثيين من أن "عقوبة الاعدام الثورية" يمكن تطبيقها على كل محاولة تسلل الى الجيش. وامتدت مداهمات الشيوعيين الى المحافظات حتى طاولت الاستدعاءات والاعتقالات ما مجموعه سبعون الف شخص. عندها أصدر الحزب الشيوعي قراراً يدعو كل من يستطيع مغادرة البلد أن يفعل. وقبل ان يستقيل الوزيران عبد الله والطالباني رسمياً، بدأ محازبوهما هجرة صارت من سمات المهجر العراقي. كما ظهر، بين الشيوعيين، من يدعو الى كفاح مسلح من كردستان.
وفي تموز أصدر مجلس الثورة مرسوماً يحظّر كل نشاط سياسي غير بعثي على الجنود السابقين، جاعلاً عقوبته الاعدام. وبالطبع اندرجت قراءة الصحافة الشيوعية في نشاط كهذا. ويكفي تذكّر عدد الجنود المتقاعدين والمسرّحين في بلد كالعراق، لادراك خصوبة الضحايا المحتملين لتهمة كتلك. وتلاحقت، في الأشهر التالية، التقارير المتفرقة عن اعدامات واعتقالات للشيوعيين. وجرى، في الأشهر والسنوات القليلة التالية، تعذيب المئات منهم في السجون، فانتُزع البعض من منازل لم يعودوا اليها. وكانت الجثث، في بعض الحالات، تُرمى امام بيوت الأهل مُشوّهةً منتَهَكة. وفي حالات أخرى كان على الأقارب ان يُحضروا الجثث بأنفسهم من محطات الشرطة، فيتعرض للإهانة والبذاءات منهم من يتعرض، وأحياناً يكون ضرب، من دون أن يخلو الأمر من اغتصاب.
ولم تفعل الحرب مع ايران، ابتداء بأيلول 1980، الا تقديم مزيد من الذرائع للمضي في سلوك وحشي كهذا. لكن لئنْ بقيت السكاكين على حالها فإن ضحاياها شرعوا يتغيّرون.
الحلقة السابعة الثلثاء المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.