زائر الرباط في هذه الآونة لا يسمع إلا كلاماً عن العملية الانتحارية التي شهدتها الدار البيضاء في 16 أيار مايو الفائت. كأن الانفجار الاجرامي ايقظ المغرب كله على "واقعة" رهيبة لم تكن منتظرة في هذا الحجم المأسوي و"المعنوي". سائق التاكسي الذي يقلك الى الفندق يحدثك عن هول ما حصل محاولاً اقناعك أنّ العنف ليس من شيم المغربيين. النادل في المقهى يبدي سخطه على ما حدث معتبراً ان مثل هذه العمليات تسيء الى الصورة الحقيقية للمغرب. أما المثقفون الذين تلتقيهم هنا وهناك، في جلسات المقاهي أو في السهرات وسواها فهم يملكون نظرتهم الخاصة الى الحادثة التي هزّت المغرب "رسمياً" وشعبياً. يعترف بعض المثقفين أنهم شاركوا في التظاهرة الشعبية الضخمة التي جابت شوارع الدار البيضاء نهار الأحد 25 أيار وهتفوا مع المواطنين "لا للارهاب". فالحدث المروّع بحسب رأيهم، كان لا بدّ من مواجهته أولاً في الشارع وعبر لغة الناس، ثمّ نظرياً وفكرياً وثقافياً. أحد المثقفين تحدّث عن مقالة كتبها محمد عابد الجابري في احدى الصحف وفيها يدعو الى "النقد الذاتي" والى "القيام بحملة توعية ضدّ الارهاب والعنف اللامسؤول" والى "البحث عن واقع الجماعات الإسلامية في المغرب". وعلّق مثقف آخر على انضمام الطاهر بن جلّون الذي يقيم الآن في المغرب، الى الحملة التي تقيمها أسرة صحيفة "الاتحاد الاشتراكي" ضدّ الارهاب. ولم يتجاهل بعض المثقفين الحوافز الكثيرة التي ينجم عنها مثل هذه الأفعال الشنيعة متحدّثين عن أحزمة البؤس والفقر التي تحفل ب"مختبرات" الفكر الارهابي. إلا أنّ الحياة اليوميّة سرعان ما استعادت ايقاعها في مدينة مثل الرباط على رغم الظهور الكثيف لرجال الأمن في الأماكن العامة وأمام الفنادق والمرافق السياحية والمسارح... وأصرّت وزارة الثقافة على مواصلة برنامجها الاحتفالي ب"الرباط عاصمة ثقافية عربية للسنة 2003"، فلم يكد ينتهي مهرجان "ربيع المسرح العربي" حتى بدأ "مهرجان الشعر العربي" جامعاً شعراء عرباً من أجيال مختلفة ومنهم: محمود درويش، سعدي يوسف، عبداللطيف اللعبي، محمد عفيفي مطر، عباس بيضون، سيف الرحبي، نزيه أبو عفش... وصدر في ختام المهرجان الشعري بيان يندّد ب"الأفعال الارهابية ليوم 16 أيار مايو التي راح ضحيتها مواطنون مغاربة وأجانب أبرياء، تعبيراً عن جهل مرتكبيها بروح الإسلام القائمة على السلم والتسامح واحترام الحياة، وهي أيضاً اعتداء اجرامي على المغرب وعلى تجربته الواعدة". وأشار البيان الى "الطغيان الأميركي في احتلاله العراق ودعمه السياسة الاسرائيلية العدوانية". وأضاف البيان: "لا نشك في أن لأفعال الارهاب جذوراً سياسية واجتماعية واقتصادية في واقعنا العربي المشترك، ولذلك فأن الطريق الصحيح لاجتثاثها وللعمل من أجل البحث عن حلول للمشاكل الكبرى في حياة شعوبنا هو الدفاع عن حقوق الشعب والإنسان وبناء دولة الحق والقانون...". وما ان انتهى مهرجان الشعر قبل أيام حتى بدأت تظهر ملامح "شهر السينما العربية"... وكان افتتاح الاحتفال بالرباط كعاصمة ثقافية تأخّر بسبب الحرب على العراق ولم يلبث أن أنطلق بعد انتهائها لينتكس قليلاً من ثم عقب انفجار الدار البيضاء. لكنّ الاحتفال الذي جعل شعاره "المغرب أرض اللقاء" سيتواصل طوال الأشهر المقبلة، مرسّخاً المشروع الثقافي المغربي في انفتاحه على الثقافة العربية، ومتخطياً "الجدار" الذي طالما فصل بين الثقافة "المغاربية" والثقافة المشرقية. وفي تقديمه "تظاهرة" الرباط أشار وزير الثقافة محمد الأشعر الى هذا البعد قائلاً: "اخترنا منذ البداية أن تكون هذه التظاهرة عربية بقدر ما هي مغربية وبقدر ما هي مستحضرة للذاكرة الإنسانية المشتركة التي تلاقحت فيها ثقافات وحضارات متعدّدة فوق أرض المغرب، ممّا جعلنا نطلق شعاراً يعبّر عن هذا الاختيار، وهو المغرب أرض اللقاء". ارهاب وثقافة كانت المواجهة إذاً شبه معلنة بين الأثر الإرهابيّ الناجم عن "كارثة" الدار البيضاء والبعد الثقافي الذي أصرّت وزارة الثقافة على جعله وسيلة لهذه المواجهة وغاية تصبو اليها نشاطات الرباط العاصمة الثقافية. وعشية افتتاح "المهرجان الشعري" أطلق الوزير محمد الأشعري شعار "التمسّك بالشعر" ضدّ الحرائق التي تشتعل في مكتبات بغداد، وضدّ "السيارات المفخّخة التي تحصد أرواح الأبرياء في الشارع" كما عبّر. وكان هو اختتم لتوّه مهرجان "ربيع المسرح العربي" معتبراً ان "المسرح مجال لانتاج الحرية والتضامن والحوار في مواجهة الأحقاد والمذابح". أما المهرجان الشعري الذي نظمته وزارة الثقافة متعاونة مع "بيت الشعر" في سياق الاحتفاء ب"الرباط" فكان فسحة شعرية جميلة صنعها الشعراء العرب بقصائدهم، مضفين على الاحتفالات المتوالية طابعاً شعرياً ووجدانياً وواقعياً وحلمياً. الليلة الأولى في المهرجان يمكن تسميتها ب"ليلة النجوم" إذ أحياها معاً محمود درويش، سعدي يوسف ومحمد بنيس. وغصّت صالة مسرح محمد الخامس بجمهور كبير لم يأبه للتفتيش الذي خضع له عند البوابة الخارجية. وكان يكفي ذيوع اسم محمود درويش ليفد محبّوه من الرباط وسائر المدن ويستمعوا اليه ويقاطعوه مراراً بالتصفيق الحارّ. إلا أنّ درويش لم يعد يتواطأ مع جمهوره ولا يتنازل له، بل بات يصرّ على قراءة قصائد جديدة لا تثير حماسة الجمهور "العريض" وهو لا يقدر أصلاً على استيعابها بسرعة. قرأ درويش قصائد ذات منحى مختلف لغة وجواً اضافة الى أبعادها الشخصية ومعانيها المتنوّعة، وهي ستصدر قريباً في ديوان جديد. ومن "الجدارية" اختار مقاطع جريئة وصادمة غير مبالٍ برد فعل الجمهور. سعدي يوسف قرأ بعضاً من جديده، وبعض هذا الجديد طالع من خراب العراق ومأساته الأخيرة. وبدا سعدي كعادته شاعر المراحل المتجدّدة والمنفتح على ايقاع الحياة بهمومها الصغيرة وأوهامها... محمد بنيس قرأ أيضاً من جديده المتراوح بين الهمّ اللغوي والهمّ الداخلي أو الميتافيزيقي، وهذان الهمان تجمع بينهما روح المغامرة الشعرية والتجريب. في الأمسيتين الأخريين أطلّ شعراء عرب من أوطان ومناف ولغات وتجارب أخرى: عبداللطيف اللعبي، محمد عفيفي مطر، إيتيل عدنان، سيف الرحبي، عباس بيضون، نزيه أبو عفش، منصف الوهايبي، غسان زقطان. وكلّ شاعر حمل الى المنبر عالمه ولغته وقرأ من قديمه والجديد. وبدا الشعراء يختلفون بعضهم عن بعض: عبداللطيف اللعبي قرأ من شعره "الملتزم" الذي لا يخلو من السخرية والدعابة، إيتيل عدنان قرأت بالفرنسية قصيدتها الطويلة "جنين" وقرأ ترجمتها العربية سعدي يوسف وكان قام هو بها، عباس بيضون قرأ بضعة قصائد عن درلين وهي قصائد جديدة كتبها خلال إقامته في برلين وستصدر بالعربية والترجمة الألمانية. وتحمل هذه القصائد ملامح جديدة كونها تقرأ المكان البرليني قراءة مشهديّة تتجلّى حلمياً وشعرياً وواقعياً في مزيج شعري ينصهر فيه الحلم والحس والبصر... محمد عفيفي مطر قرأ بعضاً من قديمه الجديد وندّت قصائده عن الطبيعة التكوينية لشعره القائم على المساءلة الوجودية للأرض والجذور والماضي والذاكرة والوجدان عبر لغة مشرعة على سديم الشعر وإكسير العبارة. نزيه أبو عفش قرأ بعضاً من قصائده النثرية القصيرة ذات الطابع "الحكمي" الجريء والساخر وبعضاً من قصائده الطويلة المشبعة بالجوّ الرثائي والدعابة شبه السوداء... أما غسان زقطان فقرأ قصائد من ديوان له يصدر قريباً تحت عنوان "سيرة بالفحم" وبدت قصائده كأنها تسرد سيرة ذاتية، شخصية وعامّة. خلا المهرجان في لياليه الثلاث من الضوضاء والضجيج و"الجعجعة" وبدا مختصراً وهادئاً وخصوصاً في الليلتين اللتين أحييتا في "متحف الأوداية" المطلّ على زرقة الأطلسي، في الهواء الطلق ووسط نقيق الضفادع. ولم تخلُ القراءات من العزف الموسيقي على العود والناي و"الكمبري" البربرية. وكانت المقطوعات الموسيقية خير مدخل الى القراءات الشعرية. وضمّ مهرجان الشعر معرضاً لأعمال تشكيلية نفذها رسامون عرب انطلاقاً من قصائد ونصوص شعرية. ومن هؤلاء: ضياء العزاوي، فريد بلكاهية، رشيد القريشي، ايتيل عدنان، المهدي القطبي وسواهم. وتجلّت عبر اللوحات المعروضة العلاقة بين الشعر والرسم، بين القصيدة واللوحة. فالكلمات التي يتشكل منها فضاء النصّ تتحوّل الى علامات يتشكل منها فضاء اللوحة. إلا أنّ الكلمات لا تفقد بعدها الشعري بل تكتسب اضافة اليه بعداً جمالياً آخر، يخاطب العين والمخيّلة. ورافقت الأمسيات الشعرية جلستان نقديتان في كلية الآداب في الرباط حول الشعر العربي الحديث وشارك فيها: محمد لطفي اليوسفي، محسن الموسوي، شربل داغر، بنعيسى بوحمالة، فديريكو أربوس اسبانيا. وإن كان هؤلاء الشعراء يشاركون غالباً في المهرجانات الشعرية العربية والعالمية وهذا ما يأخذه عليهم وعلى المهرجانات شعراء آخرون فإنهم يمثلون اتجاهات عدّة في الشعر العربي الحديث والراهن، ولم يخترهم "بيت الشعر" إلا انطلاقاً من التجارب التي يمثلونها كما عبّر "بيت الشعر" في مقدمة كراس المهرجان، ومما ورد فيه: "اكتسب الشعر العربي الحديث مكانة التجربة، التي بلورت رؤية حديثة للذات والعالم. أكثر من قرن مر على هذه التجربة، عبر مراحل وحركات وأسماء. والمكانة، التي اصبحت لها عربياً ودولياً، تعكس حداثة الفعل الشعري الذي اخترق اللغة بقدر ما اخترق الحساسيات والقيم على السواء. مغرب ومشرق يلتقيان في هذا الفعل الشعري، وهما معاً يتجاوبان، اليوم، في قصيدة متعددة تعبّر عن تعدد الشعراء المؤسسين للغتهم الشخصية، والمواصلين إستنطاق المجهول والمؤكدين على أن الشعر ضرورة للوجود الفردي والجماعي.... في الرباط تلتقي هذه التجارب الشعرية المتواصلة من الخمسينيات حتى الآن، بما هي متسعة في بحثها عن لغة جديدة لزمننا، بها تصبح العربية، من جديد، لغة الكوني الذي كان لها في قديمها. شعراء من أجيال متعاقبة، ينتمون الى بلاد عربية مشارقية ومغاربية، أنشأوا لأنفسهم وللغتنا قوّة الحضور في العالم". وفي المناسبة أصدرت وزارة الثقافة كتباً عدّة ودواوين منها "ديوان الشعر المغربي الرومانسي" و"ديوان الشعر المغربي التقليدي" وكلاهما من اعداد عبدالجليل ناظم. يتبع: عن مهرجان المسرح العربي