لم ينفصل "مهرجان الشعر العربي الأوّل" الذي أحياه معهد العالم العربي عن "ربيع الشعراء" الذي احتفت وتحتفي به باريس وبعض المدن الفرنسية. فهو ضمّ أولاً بصفة شعراء فرنسيين معروبين أو غير معروفين قرأوا قصائدهم أمام جمهور عربي وفرنسيّ. وسعى ثانياً الى فتح السجال حول بعض قضايا الشعر المعاصر على غرار ما جرى مثلاً في جامعة السوربون باريس 4 التي احتفت بدورها بالشعر والشعراء طوال اسبوع تحت عنوان "الأسبوع الوطني للشعر". ومن تلك القضايا: الشعر والترجمة، الشعر والصوفية، اللقاء بين الشرق والغرب... غير أن المهرجان الشعري العربي الذي حمل عنواناً آخر هو "شعراء الأمل" حاول أن يتميز عن اللقاءات الشعرية الفرنسية وعن المهرجانات الشعرية العربية التي تعرفها بعض العواصم أو المدن العربية. فهو سعى أن يجعل الحوار بين الشعراء العرب والشعراء الفرنسيين فسحة لقاء حقيقي لا عبر النظريات فقط وإنما عبر القراءات المشتركة وهي أتاحت المجال للمقارنة السريعة والعابرة بين واقع الشعرية الفرنسية وواقع الشعرية العربية المعاصرة. واللافت أن الحوار جرى عبر اللغتين العربية والفرنسية نفسيهما في ما تحملان من خصائص وتناقضات. وأضفى حضور بعض الكتّاب الفرنكفونيين وفي طليعتهم جمال الدين بن شيخ وبعض المستشرقين وفي مقدمهم اندريه ميكال طابعاً فريداً على هذا الحوار الهادئ إذ يلمّ هؤلاء باللغتين بل بالثقافتين العربية والفرنسية. هذه الحال لم تعرفها مثلاً ندوات جامعة السوربون التي عقدت تحت عنوان "لقاء الشرق والغرب" إذ أنها اقتصرت على اللغة الفرنسية وحدها دون سائر اللغات الشرقية وعلى ما ترجم الى الفرنسية من شعر الشرق. ولعلّ فسحة الحوار هذه هي التي دفعت أندريه ميكال الى القول إن "الشعراء العرب اليوم كأخوتهم عبر العالم ومثل كلّ الأجيال الشابة، أرادوا أن يكونوا، كما نأمل، وارثين ومجددين. فهم ورثوا عن أسلافهم لغة عظيمة تضمن لهم هذا الارث... إلا أنهم يعرفون أن المغامرة الشعرية يجب أن تكون في تحدّ دائم...". التقى الشعراء العرب بل شعراء الأجيال العربية طوال أربعة أيام وأربع ليال في القاعة العليا من مبنى "معهد العالم العربي" وفي المقاهي المجاورة أو على الأرصفة، ألقوا قصائدهم بأصوات خفيضة وتحدّثوا وتناقشوا وانتقد بعضهم بعضاً مجاهرة أو سراً. وأعرب البعض عن استيائهم من حصر الحركة الريادية في شاعر واحد هو أحمد عبدالمعطي حجازي وكذلك من اختيار شاعر شبه منسي هو سليمان العيسى إذ بدا في قصائده الحماسية والعمودية كأنّه آتٍ من زمن آخر أو عصر ولّى وانقضى. وقيل إنه جاء المهرجان خطأ إذ حلّ كشاعر يمنيّ محلّ عبدالعزيز المقالح الذي لم يلبِّ الدعوة. وسليمان العيسى المقيم في صنعاء منذ أعوام لم يتلكّأ عن الحلول محلّ المقالح ولم يبال إن سمّي يمنياً أو سورياً فهو شاعر البعث العربيّ ولا يعترف بالحدود التي تفصل الأوطان بعضها عن بعض. وإن لم يغب التمثيل الوطني العربي عن المهرجان الذي شاء أن يكون عربياً جغرافياً وشعرياً فإن الحضور تخطى هذا النهج الذي تسلكه معظم المهرجانات العربية. صحيح أن معظم الأوطان العربية حضرت لكنها لم تحضر إلا عبر الأجيال الشعرية المتنوعة وعبر الأصوات المختلفة كلّ الاختلاف. من سورية مثلاً حضر شاعران لا تجمع بينهما إلا هويتهما الواحدة: ممدوح عدوان ونزيه أبو عفش. من العراق حضر سامي مهدي الذي ينتمي الى جيل الروّاد العراقيين وإلى "البعث العراقي" وهو جاء من الداخل المحاصر ليقرأ قصائده بصوت مجروح. أما سعدي يوسف فلم يحصل على تأشيرة فرنسية هو المقيم في لندن سعياً للحصول على بطاقة هجرة دائمة. ومن المغرب حضر شاعران ينتميان الى جيلين مختلفين: محمد بنيس وحسن نجمي. وخلال المهرجان قرأ بنيس من ديوانه الجديد "نهر بين جنازتين" ووجد في المهرجان فرصة سانحة لإطلاقه عربياً أو في وسط الشعراء العرب. أما حسن نجمي فمثل الجيل المغربي الجديد المتململ من الإرث البلاغي والمنفتح على هموم العصر والحداثة الأخرى. وحضر كذلك قاسم حداد من البحرين وعلي الدميني من السعودية وأحمد راشد ثاني من الإمارات وعباس بيضون وكاتب هذه السطور من لبنان... أجيال بل أصوات تنتمي الى أجيال تختلف في همومها ولغاتها وأساليبها. أما فلسطين فمثّلها شعراء ثلاثة ينتمون الى مدارس ثلاث: محمد القيسي، أحمد دحبور وغسان زقطان. وكان من المفترض أن يحضر الشاعر محمود درويش لكنّه تغيّب من غير أن تتضح الأسباب. وقرأت المغنية الفرنسية، المغربية الأصل سافو بعض قصائده بالفرنسية وللشاعرين قاسم حداد وجمال الدين بن شيخ. وبدا صوتها رقيقاً وعذباً على الرغم من بعض التعب أو الخفر اللذين ظهرا على وجهها. إلا أن محمود درويش يحتل الآن في باريس مقام النجومية الشعرية ولا سيما بعد القضية التي أثيرت حول إدراج قصائده في المنهاج الاسرائيلي وكذلك عقب صدور مجموعة له في أبرز السلاسل الشعرية الفرنسية غاليمار التي تضم كبار الشعراء في العالم. وقد استضاف "بيت الشعر" في باريس الشاعر الفلسطيني في أمسية راقية قرأ خلالها من شعره الجديد بالعربية ورافقته قراءات بالفرنسية قدّمها الشاعر الفرنسي المعروف اندريه فلتر والكاتب جاك لاكاريير الذي وصف درويش ب"صوت الآخرين" وكذلك الياس صنبر الكاتب الفلسطيني الفرنكوفوني. وبدت أمسية درويش كأنها حلقة من مهرجان الشعر العربي إذ حضرها معظم المشاركين ومعظم الجمهور الذي يؤم معهد العالم العربيّ اضافة الى الجمهور الفرنسي الذي يهوى شعره بالفرنسية. الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي بدا أشبه ب"عرّاب" المهرجان أو هكذا ظنّ نفسه ربما أو ارتأى لنفسه هذا الدور. فهو واحد من اللجنة الاستشارية الثلاثية التي ساهمت في ترسيخ البرنامج العام وضمّت أيضاً جمال الدين بن شيخ وأندريه ميكال. وخامر حجازي شعور في أنه لا يمثل مصر وحدها بل روّاد الحداثة أو الشعراء الروّاد. وبدا مرتاحاً كل الارتياح الى مقامه وإلى الطابع "البطريركي" الذي أسبغ عليه ولا سيما بعد اعتذار أدونيس المبكّر عن الانضمام الى اللجنة الاستشارية. وعبّر ليلة الافتتاح عن مدى امتنانه للمهمة التي ألقيت عليه وعلى اللجنة وذكّر الجمهور بالصداقة التي تربطه بالمدير العام للمعهد ناصر الأنصاري. لكن حجازي لم يمثل مصر وحده بل حضر أيضاً الشعراء: محمد عفيفي مطر وحسن طلب ووليد منير. ورسم الثلاثة عبر تجاربهم المختلفة صورة للشعر المصري المعاصر والراهن. وإن تغيّب أدونيس عن اللقاءات والأمسيات الشعرية فهو لم يغب عن أذهان الكثيرين. فاسمه تردّد في الندوات وطيفه ظهر بين آونة وأخرى، علاوة على أن بعض كتبه المترجمة الى الفرنسية تحتل رفوف المكتبات وبعض الواجهات الشعرية. وآخر إصدار باريسي له كتاب فخم وجميل بالفرنسية والعربية معاً عنوانه "كتاب المدن" وضمّ لوحات للرسام السوري زياد دلول. وحظي الكتاب بطبعتين فاخرتين الأولى فنية صرف والثانية من القطع الكبير. وتعاونت على نشرهما منشورات الأونيسكو وغاليري لاتنتوروري اضافة الى مساهمة معهد العالم العربي. وهكذا بدا أدونيس ينتمي مثل محمود درويش الى مهرجان الشعر العربي والى "ربيع الشعراء" في الحين عينه تماماً على غرار بعض الشعراء الفرنسيين الذين شاركوا في المهرجان العربي. ربيع الشعراء لم يخطئ معهد العالم العربي في توقيت مهرجانه خلال "ربيع الشعراء" الذي احتفت وتحتفي به باريس وفرنسا. وقد أصبح تقليداً سنويّاً انطلاقاً من بادرة أطلقها وزير الثقافة الأسبق جاك لانغ. ومَن يزر باريس خلال "ربيع الشعراء" يتذكر حقاً ما قاله لوتريامون يوماً: "يجب على الجميع أن يكتبوا الشعر". وإن لم يكتب الجميع الشعر فإن الجميع يحتفلون به، قراءة أو سماعاً، عيشاً يومياً أو عيشاً عابراً، في أنفاق المترو أو في المقاهي، في المدارس والجامعات وحتى في السجون والمدارس. و"الجميع" الذين تحدّث عنهم لوتريامون ليسوا سوى جمهور الشعر الذي يزداد عاماً تلو عام وفق الاحصاءات الرسمية. وقد شهد ويشهد "ربيع الشعراء" هذا العام أكثر من خمسة آلاف تظاهرة شعرية. وقد احتلت كتب الشعر وصور الشعراء واجهات المكتبات وبعض الجدران واللوحات. وأقيمت وتقام مباريات يشارك فيها الألوف لا طمعاً بالجوائز فقط وإنما تعبيراً عما يعجزون عن التعبير عنه أو تأكيداً للسطوة التي ما زال الشعر يتمتع بها. ولا غرابة أن تكتظ المهرجانات واللقاءات والندوات بالجمهور وأن تختلف الأجيال المقبلة على الشعر قراءة وكتابة وأن يختلط كما يقال جيل رامبو بجيل فيكتور هوغو. كتاب يدعى "كحول" كتبه الشاعر أبولينير بلغت طبعاته مئة مليون. جاك بريفير في ذكراه المئوية حاضر بشدّة وكتبه رائجة كالخبز. بول اليدار شاعر الحب والثورة بلغت طبعات كتبه أربع مئة ألف. أندريه بروتون "بابا" السوريالية تخطت طبعات كتبه المئتي ألف وكذلك شاعر صعب وغامض مثل رينه شار. إنها "معركة الشعر" كما عبّر أحد الشعراء الجدد بحماسة. معركة الشعر ضدّ الرواية الآخذة في الانتشار. معركة الشعر ضد الثقافة السمعية والبصرية التي سرقت الكثيرين من قرّائه. الممثلة الألمانية هانا شيغولا قرأت في باريس قصائد للشاعر برشت وسمّت أمسيتها: "برشت... هنا والآن". عودة المغني ليو فيري عبر اغنيات غير منشورة هي عودته كشاعر أيضاً وسط "ربيع الشعراء"، كشاعر فريد أو كمغنٍّ غنّى كبار الشعراء: رامبو، بودلير، فيرلين... في "الربيع" الماضي شاركت إحدى الشاعرات في مباراة الشعر عبر قصيدة أليفة جداً خوّلتها الفوز بإحدى الجوائز. وحملت قصيدتها طابع المأساة الفردية التي يعرفها عابرو "المترو" وقاطنو الغرف الضيقة والمشرّدون و"مواطنو" العصر: "كان يشعر بوحدته الشديدة/ في هذه الصحراء/ حتى أنّه كان يمشي في أحيان/ الى الوراء/ ليرى بضعة آثار أمامه". لعلّه الشعر قادر وحده حقاً على أن يحفر أثره لا في الصحراء التي تحيط بأناس العصر وإنما في حياته في الذاكرة والمخيلة على السواء. ترى ألم يقل رامبو: "الشعر سيكون الى الأمام؟".