Vژronique Ruggirello. Khiam, Prison de la Honte. الخيام، سجن العار. L'Harmattan, Paris. 2003. 170 Pages. "سجن العار" هو الاسم الذي أطلقته منظمة العفو الدولية على معتقل الخيام في الجنوب اللبناني. هذا السجن كان في الأساس حصناً للجيش الفرنسي في زمن الانتداب قبل أن يتحول لاحقاً الى ثكنة للجيش اللبناني باسم القرية الواقعة عند الحدود اللبنانية الاسرائيلية في نقطة القلب مما ستسميه اسرائيل لاحقاً باسم "منطقة الحزام الأمني". وقد جرى افتتاحه كمركز للاستجواب والاعتقال في منتصف عام 1985 بعد انسحاب اسرائيل من صيدا وصور والبقاع الجنوبي وتسليمها منطقة جزين الجبلية ل"جيش لبنان الجنوبي"، ثم أغلق في 24 أيار مايو 2000 على اثر الانسحاب المفاجئ للجيش الاسرائيلي من جنوبي لبنان وتفكك جيش لبنان الجنوبي الذي كان يتولى "رسمياً" ادارة السجن. وقد "استضاف" سجن الخيام في حقبة الخمسة عشر عاماً تلك نحواً من ثلاثة آلاف نزيل، بينهم أربعمئة امرأة، وقضى منهم تحت التعذيب 19 سجيناً. وعندما اقتحمه الأهالي وقوات المقاومة وطردت منه حراسه من ميليشيات جيش لبنان الجنوبي كان لا يزال فيه 166 سجيناً خرجوا منه وكأنما يخرجون من القبر الى الحياة من جديد. الصحيفة الفرنسية فيرونيك روجيرلو، العاملة في وكالة الصحافة الفرنسية بيروت، زارت "سجن العار" في مطلع عام 2001 وكان تحول الى شبه متحف يزوره السياح ليقرأوا بين جدرانه وزنزاناته تاريخ خمسة عشر عاماً من الوحشية ما قبل الانسانية وقررت ان تكتب عنه، ليس فقط احياء لتاريخ 22 سنة من المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي الذي أوقع في صفوف اللبنانيين والفلسطينيين ما لا يقل عن عشرين ألف قتيل. بل إيماناً منها بأنه لا تاريخ من دون ذاكرة مكتوبة، وتاريخ "سجن العار" لا يجوز أن ينتسى لأنه يقدم نموذجاً "كافكاوياً" ولكن واقعياً على مكان يمكن أن تقترف فيه أبشع ضروب العسف والقسوة لأنه ليس له وجود قانوني رسمي. الاعتقال والتعذيب والالتزام بالمقاومة والصمود هي المحاور الثلاثة التي تدور عليها شهادات الاثني عشر نزيلاً من نزلاء سجن العار الذين قابلتهم فيرونيك روجيرلو والذين كان بينهم رجال ونساء، مسلمون ومسيحيون، مؤمنون وعلمانيون، من حزب الله ومن فتح الفلسطينية ومن جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي كانت تضم في حينه شيوعيين وقوميين اجتماعيين و"أمليين"، الخ. وشهادات كفاح عفيفي ونازك اسماعيل ورقية شرف الدين ونعمان نصرالله ومحمد ياسين وديغول شوفاني وعفيف حمود ومحمود رمضان وعلي أشمر وعلي توبة وأبوه مصطفى توبة ونعمان رمضان ومارون يوسف القزي، هذه الشهادات الاثنتا عشرة لا تدع مجالاً للشكك فالدخول الى سجن الخيام لا يمكن وصفه بأنه أقل من "النزول الى الجحيم". وقارئ هذه الشهادات لا يمكن إلا أن يطأطئ الرأس اعجاباً بالشجاعة التي أبداها أولئك الرجال والنساء في حكايتهم لنزولهم واقامتهم في ذلك العالم السفلي الذي هو أشبه بحفرة سوداء خارج المكان البشري وخارج كل شرعية قانونية. فهم لم يتحملوا فقط ما لا يطاق، بل تجرأوا أيضاً على أن يقولوا ما لا يقال. من أشجع هذه الشهادات وأكثرها صدماً لحساسية القارئ الذي قد ينساق وراء الوهم بأنه يعيش في القرن الحادي والعشرين، قرن حقوق الانسان، لا في القرون الوسطى، قرون محاكم التفتيش والمحارق ودواليب التعذيب، شهادة كفاح عفيفي. فهذه الفلسطينية التي نجت من مذابح صبرا وشاتيلا عام 1982 وكانت يومئذ في الثانية عشرة من العمر دخلت سجن الخيام عام 1988 وهرجت منه عام 1994، وكانت زميلة زنزانة فيه سهى بشارة. وهي لا تتحدث كثيراً عن تفاصيل تعذيبها. ولكنها تكتفي بالاشارة الى أنها لم تعد ترتدي "الجوب" حتى لا يرى أحد آثار الحرق بأعقاب السجائر في ساقيها. واليوم الذي لا يبرح ذاكرتها أبداً يوم التحقيق معها بع اعتقالها: ألبسها جلادوها كيساً من رأسها، وربطوا يديها خلف ظهرها وبطحوها أرضاً، وراحوا يدوسون فوقها. وبعد تهديدها بالاغتصاب اقتادوها، وهي مغطاة الرأس بالكيس، الى غرفة تفوح منها رائحة النتن والرطوبة، وبطحوها من جديد أرضاً. ولمارفعوا الكيس عن رأسها طالعتها عيناها بمنظر صف من مباول الرجال. أما هي نفسها فكانت ممددة فوق المرحاض. وبالتناوب راح كل واحد من جلاديها يبول فوقها، من دون أن يكون في قدرتها أن تفعل شيئاً آخر سوى أن تغمض عينيها وتدير وجهها جانباً حتى تتحاشى البول. رقية شرف الدين، اللبنانية ذات الأربعة والخمسين عاماً والأم لاثني عشر ولداً، تتحدث عن شكل آخر من التعذيب. فقد اعتقلت بعد أن كان اعتقل واحد من أبنائها بتهمة الانتماء الى حزب الله. وقد اعتقل معها ابن ثان ما كان يتجاوز من العمر أربعة عشر عاماً. وبعد الضرب والتهديد بالاغتصاب ربطت الى كرسي ووضعت في العراء حيث قضت ليلة كاملة تحت المطر والبرد وليس عليها ما يستر جسمها سوى عباءتها السوداء. وفي اليوم التالي، أو في يوم تال فالزمن في السجن يتداخل اقتيدت الى غرفة مجاورة لغرفة التعذيب بالكهرباء ولا يفصلها عنها سوى جدار رقيق حتى تسمع الأصوات جيداً. وفي الوقت واحد انهالت الضربات بالعصي على جسدها، فيما كانت تأتيها من الغرفة المجاورة صرخات ابنيها غسان وعبدالله تحت لسع الصدمات الكهربائية. وكان تعليقها الوحيد وهي تستحضر أمام مؤلفة "سجن العار" ذكرى تلك اللحظات المرعبة: "كنت كمن يشق صدره ويقتلع قلبه. كيف لأم أن تحتمل ذلك؟". سليمان رمضان "عميد سجن الخيام" إذ دخله يوم اففتاحه ولم يخرج منه إلا يوم اغلاقه أبى أن يدلي بشهادته. ولكن زميله في المعتقل وفي الحزب الشيوعي، نعمان رمضان، روى عنه. ففي عصر أحد الأيام أعيد سليمان الى الزنزانة وهو يصرخ ألماً، ولكن من دون ان يتوقف عن شتم جيش لبنان الجنوبي. أحاط به سائر زملائه في الزنزانة ليستفهموا منه عما جرى، فاكتفى بأن كشف قميصه عن صدره. كان الميليشيون قد نقشوا على صدره نجمة داود حرقاً بأعقاب السجاير. ولما سكن روعه طلب سليمان من سائر رفاقه ان يعطوه ما في حوزتهم من أعقاب السجاير. أشعلها الواحدة تلو الأخرى بمنتهى العناية، حتى لا يضيّع شيئاً منها، ثم راح يحرق صدره من جديد ليمحو نجمة داود. ويعلق زميله نعمان: "كان المشهد يفوق كل وصف. كنا نتمزق معه ألماً، ولكنه كان مصراً على أن يمحو ذلك الأثر من جسده: فليس أذل من هذا الذل". ولم تكن الحياة "الطبيعية" في السجن بأقل قسوة من أيام التعذيب. ففترة الاستجواب، وبالتالي التعذيب، كانت تدوم في العادة بالنسبة الى المعتقل الواحد ما بين شهرين وثلاثة أشهر. فإذا ما انتهت تحول المعتقل الى سجين عادي ولكن في سجن غير عادي. فأكبر غرف السجن كان لا يزيد حجمها على ثلاثة أمتار مكعبة، وفي الغرفة الواحدة كان يحشر ما بين خمسة وستة سجناء. ولم يكن فيها مرحاض ولا مغسلة ولا اضاءة. وكان السجناء يرقدون على ثلاثة كرتونات تنوب مناب الفراش. وكانوا يتناوبون على النوم، ثلاثة فثلاثة، وهم متكورون على أنفسهم كالجنين، لأن المكان ليس فيه متسع. وكانت رائحة عرقهم تختلط برائحة رطوبة الأرض الاسمنتية، وبرائحة سطل قضاء الحاجات الذي كان يبدل مرة واحدة في اليوم. ولم يكن يسمح لهم بالاستحمام إلا مرة واحدة كل شهرين، مقابل مرة واحدة للنساء كل اسبوع. ومع ذلك كله كان صراعهم الأكبر مع العطش. قد كان نصيب كل غرفة من ماء الشرب سطلاً من ليترين في اليوم الواحد. وكان الحراس يتعمدون أحياناً نسيان إحضار السطل، مما كان يضطر السجناء في ايام الحر الشديد الى شرب بولهم، كما يقول عفيف حمود في شهادته. ويبدوأن السجينات كن أحسن حظاً من السجناء من هذه الزاوية. فغرفهن كانت لها نوافذ، وفي أيام المطر كن يعلقن على النوافذ قطعاً من القماش لتتبلل، ثم يعصرنها على شفاههن. وكانت ساعة العزاء الوحيدة في حياة السجناء هي الخروج الى ما أسموه ب"غرفة الشمس". ولكن ليس لأكثر من عشرة دقائق، ومرة واحدة كل شهر أو شهرين. وكان السجين، اذا ما دخل غرفة الشمس، يضطر الى اغماض عينيه حتى لا يبهره الضوء. ومع ذلك، وكما يقول نعمان في شهادته: "كانت تلك لحظة سعادةحقيقية، وكنا على الأقل ندرك أن الخارج لا يزال موجوداً". وقد كان "المعجزة" عندما تدخل هذا "الخارج" ليحدث بعض التغييرفي نظام الحياة والموت في "سجن العار". كان ذلك في عام 1995، وبعد مرور عشرة أعوام على افتتاح سجن الخيام. فلأول مرة سمحت قيادة جيش لبنان الجنوبي لممثلي اللجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارة المعتقلين وبترتيب زيارات دورية لأهاليهم. وتحت ضغط الصليب الأحمر اضطر المسؤولون عن السأن الى هدم الجدران بين الغرف والزنزانات لتتحول كل اثنتين أو ثلاث منها الى "قاووش". وجرى استبدال الكرتونات بأسرّة متناضدة، وأقيمت داخل كل قاووش مغسلة. وكما يقول عفيف في شهادته، فقد بدا للسجناء وكأنهم انتقلوا الى "مصيف عالية"، وصاروا يتلقون مرة كل شهر بريداً، بالاضافة الى قطع من الشوكولاته احياناً. ومع حضور ممثلي الصليب الأحمر، كفّ السجناء عن ان يكونوا مجرد أرقام مغفلة، واستعادوا اسماءهم وهوياتهم، وصارت لهم بمعنى من المعاني وضعية قانونية، وعادوا يتعلمون معنى الحياة والأمل من جديد. وفي فجر 24 أيار 2000، وبعد انسحاب الاسرائيليين المفاجئ، سقط السجن. وخرج المعتقلون بين هتافات الرجال وزغاريد النساء من أهل بلدة الخيام. وفي الشهادات اللاحقة عن تجربة الاعتقال في "سجن العار"، طاب لأكثر من واحد منهم ان يردد القول السائر: "الداخل اليه مفقود، والخارج منه مولود".