تؤرّخ التسمية جرحاً لا يندمل ووجعاً دائماً، "معتقل الخيام"... والذاكرة النابضة بألف آهٍ وآه. ما زالت زنازينه وجدرانه تروي حكاية الأسر وتختصر مساحات الحزن المحفور في حنايا ذاكرة "روّاده" في ظل اهمال رسمي غير مبرر الى اليوم. بعد عام على التحرير، تغيرت الاسماء وانقلبت المعادلة وغدت المفارقة غريبة، بعض الشيء، تجمع بين اسماء الشهداء والسجّانين، بين الضحية والجلاّد على جدار واحد. لائحة بأسماء شهداء سقطوا داخل المعتقل بقنابل غازية او بسبب المرض او تحت التعذيب، تقابلها لائحة بشهداء سقطوا بعد الإفراج... ومع مقارنة عاطفية مناقضة لائحة بأسماء السجّانين العسكر والسجّانات والمحققين والأطباء والممرضين المزيّفين. أمسى "المعتقل" عمراً من العذابات تتلوّن ملامحه ببسمة انتصار، وقد تحوّل عناوين عز كتبت بأهداب الانتظار المضني. كذلك حفرت على جدران باحته وزنازينه اسماء زائريه الذين أتوا ليشهدوا على "حضارة" النازية الصهيونية ومعالمها المرتسمة في كل زاوية. اعتقلت احلامه تسع سنوات داخل هذا السجن، وأصبح احمد يحيى اليوم مرشداً سياحياً لزوايا الوجع التي عايشها. يروي تفاصيل الحياة اليومية لأسرى المعتقل بنبض شجي وعينين اكلهما غبار الحزن. "بعد عام، لم يتغير الكثير على الصعيد الرسمي. فالقرار بتحويل المعتقل منتدى ثقافياً وسياحياً للزائرين او متحفاً وطنياً ما زال حبراً على ورق، على رغم ضرورة بقائه شاهداً على إرهاب العدو وعملائه". ويتساءل احمد: "لماذا ما زالت الدولة تهمل حقوقنا كأسرى ومقاومين رفعنا شرف لبنان وقاومنا من اجل قضية وطنية وقدّمنا كل التضحيات في سبيل التحرير"؟ اما على الصعيد الشعبي، فما زال شرح المعاناة التفصيلية لحياة الاسرى يترك تأثيراً واضحاً وعميقاً في نفوس زوار المعقتل من كل الطوائف، يصل الى حد الإغماء في بعض الأحيان. تعنونت الغرف وتفرّعت اختصاصاتها: غرف التحقيق والتعذيب بالكهرباء او "المسلخ" كما يصفه البعض، سجن النساء، غرف الزنزانات الخاصة بالرجال، وبعض مساكن العملاء والجنود الإسرائيليين ومخازن الأمتعة. عمود التعذيب شاهد ثابت على الذاكرة الحية لأحمد ورفاقه "انه اساس علّتنا ولن ننسى عذابه ما حيينا". والحديث عن المتغيرات الحاصلة خلال عام سواء لجهة المعتقل، كرمز من رموز الانتصار، او لجهة الذكريات التي تركها الأسر في النفوس لا ينحصر في زاوية محددة او شعور موحّد. يروي احمد بالتفاصيل مراحل التعذيب من ضرب بأعقاب البنادق والتيار الكهربائي وحرق السيجارة في جروح اجساد الاسرى وغيرها من الاساليب الهمجية المعتمدة. "فكانت كل شحنة كهربائية تدفعني الى الامام بحثاً عن درب الخلاص من هذا العدو". عملية الموت الجماعي، اثر الانتفاضة التي شهدها المعتقل في تشرين الثاني نوفمبر 1989، احتجاجاً على الظروف القاسية التي يعيشونها، وأعقبها رمي قنابل غاز وسقوط شهداء، ما زالت ماثلة في ذهن المحرَّرين، ويشرحها احمد بتفاصيلها الدقيقة. اما "أسير وأسيرة" وهما اسما توأمين ولدا في المعتقل وعاشا سبعة اشهر فيه، فحكاية يرددها احمد اكثر من مرة على مسامع الزائرين، كتعبير قوي عن همجية عدو لا يرحم، اتخذ من الطفولة اداة تعذيب وإرهاب في عمليات الاستنطاق والتحقيق. داخل المعتقل، رتبت اغراض الاسرى ومحتويات الزنازين في شكل منظّم، كشاهد تاريخي على معاناة جماعية وإعادة إحياء الحضور الفعلي لتفاصيل، قد يكون لها الأثر الأقوى في الاحتفاظ بذاكرة المعتقل. وأضيف إليه مجسّم للحبس الافرادي للرجال في محاولة للتجسيد الحسّي لهذا الحبس الفريد من نوعه، الذي تحسّن وضعه بعد السماح للصليب الاحمر الدولي بدخوله عام 1995. ففي كتابها "مقاومة"، تصف الأسيرة السابقة سهى بشارة هذا الحبس ب"الكابوس الحقيقي، اذ لا يعدو كونه مكعباً، لا يتجاوز كل جانب فيه التسعين سنتيمتراً، وقد أعدّ في جانب منه ثقب صغير، والسجين الذي يوضع في حبس كهذا، غائراً في الارض، منطوياً على نفسه، مكوّماً على ذاته يدرك انه لن يسعه القيام بالتأكيد ولا الحراك إلا لتناول طعامه". ديغول... والحلم المجتزأ تسترجع المسافات اليتيمة وهجها وألقها بعد زمن طويل، تخضرّ فيها الجراح وتزهر الأيام بقصائد عشق لوطن لا يموت. وينتقل ديغول بطرس ابو طاس، وهو أسير محرر من ساحة نضال الى اخرى يبحث عن خبز يكفي لجميع الناس، وتدرك ابنته "بيرلا" مغزى ترداده الدائم: "لديّ ما يكفي من خبز ولكن ليس ما يكفي جميع الناس". هو ليس استثناء، لكنه النموذج الأجمل لوطن يخرج من شرنقته الطائفية الى حدود التجسيد الفعلي للوطن - الحلم المغيّب قسراً. تحرر ديغول في 23 ايار مايو 2000، عندما اقتحم اهالي الخيام والجوار المعتقل وغصّت ساحته بالوافدين، حاملين رايات النصر ومردّدين اهازيج الحرية. يأخذ الحديث مع ديغول منحى مختلفاً. ويفرد للهمّ الوطني المساحة الاكبر: "الفرحة ناقصة. خرجت من المعتقل وأنا أحلم ببناء وطن". إلا ان هذا الحلم اصطدم بمعوقات وحكايات أسر من نوع آخر وزنازين أشد قساوة وأكثر ظلماً وظلاماً. بالنسبة اليه، ساحة التعذيب ما زالت قائمة بمفهوم آخر، هو المناضل الثائر الذي ادرك ان المقاومة هي "الساحة الوحيدة حتى هذا التاريخ التي شكلت نشوء حال فريدة من نوعها في مجتمعنا اللبناني والعربي". كانت امنيته الاستشهاد في ساحة النضال وعدم انكشاف امر تعامله مع المقاومة. فشكّل الاعتقال له صدمة على المستوى النفسي تساوت بعذاباتها مع ما تعرّض له من تعذيب جسدي. ماذا تغيّر بالنسبة اليه بعد عام على التحرير؟ سؤال يضعه ديغول اطاراً لتساؤل كبير يقع ضمن اشكالية مفهوم الوطن والوطنية: "حلم الانتصار تحقق كونه النتاج الطبيعي والنتيجة الحتمية للعمل المقاوم والتضحيات والعذابات. لكن انتصارنا على عدونا في الداخل الناشئ عن تركيبة البلد والعلاقات المافيوية، اذ تحرك وحوش السلطة والمال، وحوش الشارع، لتحقيق مآربها ومصالحها الشخصية". فالقضية، بالنسبة الى ديغول، قضية ارض وناس وكرامة تتجسّد من خلال منظور معرفي، يؤكد حضوره الفعلي وتجذره في القضية التي يناضل من اجلها، وهو يقول في قصيدة كتبها داخل المعتقل: "من رحم الحقول أتيت إلى براري القحط... من عذابات المشرّدين والمتعبين من اثلام التبغ في مناجم الفحم وأكواخ الطين من صوت الموت... تلفظه الخنادق وبصق الدم... تقذفه البنادق والصدور العارية للريح... يجتاح البيارق". زار ديغول المعتقل خمس مرات بعد التحرير مصطحباً اولاده: بيرلا وبيار وإيزيس وهادي، للعب في ساحة "تعذيبه"، عائداً الى معايشة معالم حياة مضت، ارتسمت على جدرانه وذكرى عبور همجي يقول فيه: "أنا الحارس الفاقد لفروة الرأس ارتمى بين الإصبع... والزناد وضغط الدم في ابيضاض... الأظافر! حاولت منع الاغتصاب سلخوني وقّعوا على هامتي ذكرى عبورهم هنا... ظفروا هنا... عبروا من وريد الأحلام الى نبض الذاكرة... جفّت دمائي من دمائي... ارتووا!! مع ديغول، تمسي الكلمات غصة في الحلق وتسبح الدمعة في متاهات العيون ويطول الصمت. المعتقل هو الذاكرة الوحيدة غير المثقوبة للبنانيين و"الشاهد التاريخي على هزيمة جيش لا يقهر اثبتنا انه من كرتون"، على ما يؤكد. اما "الفارق بيننا وبين عدونا فهو ان الاخير استغل جرائم "الهولوكوست" في حق اليهود بإقامة متحف اعتبر شاهداً اساسياً لإثبات هذه الواقعة في مقابل اهمال فاضح وواضح لمعتقل الخيام ولكل معالم التحرير". وعلى رغم ذلك، لا يطلب ديغول شيئاً من الدولة: "انا لا احب التعامل مع سراب، فالدولة تتحدث عن مشاريع كثيرة، ولكن...". لم ينصف التحرير المعتقل وكذلك لم ينصف الأسرى المحررين من عذاباته. يطرح ديغول معاناتهم من زاوية مختلفة مؤكداً "ان هذه النماذج من السلطة لا يمكن التعامل معها بأسلوب الاعتصام والمطالبة الأقرب الى الاستجداء"، مقترحاً "تغيير اسلوب المواجهة الى عصيان كونه الحل الوحيد لنيل حقوقهم، وإلا تهمة الانتماء الى الوطن جريمة يعاقب عليها القانون وتصرفات السلطة، كوننا مصابين بمرض فقدان المناعة الوطنية". عام مضى على التحرير، وما زال الخوف يسكن قلب إيزيس ابنة ديغول لدى رؤيتها اللباس العسكري، وما زالت المقاومة الساحة الشريفة الوحيدة بالنسبة إليه. يوجّه ديغول تحية الى المقاومين والأمين العام ل"حزب الله" السيد حسن نصرالله، ويقول للشهداء: "آن لكم ان تستريحوا وتهنأوا في قبوركم، لقد انتصرت الارض واهتزت فرحاً تحت اقدام المقاومين". حيدر... المعاناة مستمرة يتجدد الشعور بالحزن عند كل زيارة يقوم بها الاسير المحرر حيدر الغول للمعتقل: "كل زاوية من زواياه تؤثر فيّ، وساحة التعذيب لم تخلُ من فراغ، ولنا تجارب يومية مع العذابات". بعد خلو المعتقل من جلاّديه، لم تتغير الصورة "العذابية" بالنسبة الى حيدر الذي دخل المعتقل عام 1987 وكان عمره سبعة عشر عاماً وثلاثة اشهر وثلاثة وعشرين يوماً. وعاد في العام 2000 ليعايش تفاصيله كمرشد سياحي يواكب الزائرين ويعرّفهم بالمعتقل وينقل اليهم صورة العدو وهمجيّته. عمود التعذيب وغرف التحقيق والتعذيب بالكهرباء والحبس الانفرادي، او الحواكير كما يسمّيها الأسرى... شواهد راسخة في ذهن حيدر الذي لم تتح له فرصة العيش "بالعزّ" بعد دخول الصليب الاحمر عام 1995، كونه ترافق مع خروجه من المعتقل. تحمل ذاكرة حيدر المعاناة بكل تجلياتها، إذ لا تزال رواسبها محفورة في فكره وجسده ويستحيل زوالها، خصوصاً عندما يتذكر زملاءه الشهداء الذين سقطوا داخل المعتقل، وبعد خروجهم منه من مثل بلال السلمان وهيثم دباجة وعبود عبود وغيرهم. يلفت حيدر الى علاقات الاسرى بعضهم ببعض، "كانت تتصف بلهفة خاصة وشعور مميز، ويسودها التفاهم في كل الامور الحياتية في ما بينهم". ولكن ما يزيد الوجع ويجعل المأساة "مزدوجة" "الأحكام المخففة التي تصدر على العملاء، فالأمر يحبط معنويات الأسرى المحررين الذين ما زالوا يعتصمون ويستجدون الوظيفة على ابواب المسؤولين". المعتقل ما زال قائماً، وهو امر ايجابي بالنسبة الى بعض الاسرى الذين يفضلون الرجوع اليه، على ما يؤكد حيدر، "لأن مفهوم الاسر ما زال قائماً في زنزانة الوطن، والدولة لم تهتم بهذه القضية في الشكل المطلوب". وعلى رغم انقطاع امله لناحية الاهتمام الرسمي بالمعتقل ورواده السابقين، يطلب حيدر من الدولة رعاية اوضاع المحررين واعتبار كل اسير جندياً في الجيش اللبناني. ويطالب بعدم اهمال "عرين الابطال" كونه سطّر حكاية التحرير بأحرف من نور وأضاف الى صخور جبل عامل صخرة صامدة لا يقوى الدهر، ولن يقوى، على ازالتها. الاهتمام او الاهمال الرسمي؟! وخلال عام، اقتصر الاهتمام الرسمي بالمعتقل على الخطابات الرنّانة والكلمات المنمّقة من دون اقترانه بأي فعل حقيقي ينصف الذاكرة الوطنية الحية ويوثّق مرحلة عصيبة وهمجية اغتالت فرح الأيام المعطّرة برائحة الطين والتراب. وطرحت النائبة بهية الحريري فكرة تحويل المعتقل "قصر الحرية" ليؤرّخ ويوثّق "مرحلة مهمة من صراعنا مع اسرائيل". ومنعاً للمواجهة مع اي جهة كانت، وضعت الحريري هذه المبادرة في تصرف رئيس الجمهورية اللبنانية اميل لحود، ولكن، بحسب قولها، "لم تُتخذ خطوات عملية في هذا الشأن والقضية مسألة إرادة لا اكثر". وصدر قرار في مجلس الوزراء لم يأخذ طريقه الى التنفيذ، في وقت كان من المفترض بالدولة، على ما تؤكد الحريري، الانطلاق بمباراة دولية للحصول على منحى تقني حديث جداً لتثبيت ذاكرة المعاناة الجنوبية والقيام بالخطوات اللازمة لاستمرارها وإعادة انتاجها عبر تحويل المعتقل "قصر الحرية"، ليكون "حافظاً للذاكرة اليومية الوطنية بكل معنى الكلمة". وعملية الخطوات المنوي القيام بها تندرج باعتبار التحرير - كما تراه الحريري - "بداية نحو التحرير الكامل الذي يأخذ في الاعتبار مقدرات المنطقة ويتم التعاطي معها بتخطيط استراتيجي لا عبر الإعانات والمساعدات". ويرى مسؤول الشؤون الاجتماعية للأسرى المحررين في "حزب الله" محمد ياسين ان "لا مبرر اطلاقاً لإهمال الدولة المعتقل، خصوصاً ان قراراً اتخذ في مجلس الوزراء منذ اشهر قضى بوضعه في تصرف وزارة الثقافة. لكن لا خطوة ايجابية في هذا الموضوع". إلا ان وزارة الثقافة ارتأت عدم الكلام في هذا الموضوع، اذ اشار مصدر فيها ل"الحياة" الى ان قضية تحويل المعتقل متحفاً وطنياً نوقشت في الوزارة مع عدد من المعنيين، أملاً بأن يبصر المشروع النور قريباً. وفي انتظار تحقيق هذا الانجاز، يبقى معتقل الخيام مزاراً لأحرار العالم يفدون اليه من كل جهة ليكونوا شاهدي حق على هزيمة نكراء لعدو شرس.