كان حسين في الحادية عشرة من عمره حين اقتحم المسلحون المنزل لاعتقال شقيقه علي النائم في الغرفة المجاورة. كان علي يكبر حسين بسنتين، وكان الأخير حين يتعارك مع الفتية في أزقة بلدة الخيام الجنوبية يلجأ الى علي لحمايته. مرت عشر سنوات على أسر علي في معتقل الخيام ويقول حسين الذي تجاوز العشرين من عمره انه منذ ذلك اليوم لم يجرؤ على العراك مع أحد. علي أشمر واحد من المعتقلين الستين الذين أفرج عنهم في إطار عملية مبادلة أشلاء جنود اسرائيليين بشهداء وأسرى في سجون الإحتلال، وحين تحركت الحافلة التي تقلهم باتجاه معبر كفرفالوس راح علي الجالس على المقعد الخلفي قرب النافذة يسترجع وجه أمه وأخيه الوحيد الذي شاهد صورته حين حملتها إليه أمه خلال إحدى الزيارات التي نظمها الصليب الأحمر اخيراً، علّه يلمحهما بين الجموع التي جاءت تستقبل العائدين. تحرك الموكب المؤلف من حافلتين وسيارة إسعاف تقل 55 معتقلاً من سجن الخيام في الشريط الحدودي المحتل ومن سجن عسقلان في إسرائيل، عابراً شوارع الخيام التي غصّت بالناس الذين خرجوا من بيوتهم للترحيب بالمحررين. كان علي مصدوماً شأنه شأن رفاقه الشاخصة أعينهم في الوجوه التي تعبر أمامهم وتحاول الإرتفاع الى مستوى النوافذ لتقبيل "الشباب": "جاءوا يقبلون أيدينا ويرشون علينا الرز ويطعموننا ويبكون، منعوا الحافلتين من التقدم وتحدثوا معنا، كان شعوري ان اسرائيل لم تستطع على رغم احتلالها هذه المنطقة 20 سنة ان تستعمر قلوب هؤلاء الأهالي، كانت جدتي بينهم قبلتني وناولتني كعكة كنافة ورافقتني بعينيها الى ان غادر الموكب الخيام وهي لم تفعل". "وجه أمي كان يأتيني في الأحلام لكنني الآن لا أحلم". الموكب يخترق القرى والبلدات في الشريط بعضها يرحب بالعائدين والبعض الآخر يكيل لهم الشتائم. "لكن الحشد الذي ينتظرنا أمام معبر كفرفالوس كبير جداً، أنا لم أشاهد خلال فترة اعتقالي أكثر من 40 أو 50 شخصاً مجتمعين والآن أرى المئات، ومن بينهم ألمح وجه أخي حسين أتأمله وأسترجع الصورة في ذاكرتي، ها هو يقترب مني ويسألني إذا كنت أعرف علي أشمر، لم أستطع الإجابة في تلك اللحظة اكتفيت بالنظر إليه فأمسك يدي وكرر السؤال، قلت له: أنا علي، وانتظرت، فضمني إليه ونزلت دمعته وقال لي: يا حبيبي يا أخي". حسين لم يتعرف الى وجه شقيقه فقد مضت عشر سنوات انتزعت من علي طفولته لتزرع فيه رجولة المعتقل، جسد نحيل منحني الظهر بعض الشيء، بشرة بيضاء لم تلوحها أشعة الشمس منذ زمن طويل، لحية كثيفة ونظارات طبية وصوت خافت يقارب الهمس. حسين اليوم يحاول ان يلعب دور علي حين كانا طفلين "حلقت له ذقنه واشتريت له ملابس غير تلك التي كان يرتديها في المعتقل والتي أبى أن يخلعها، وحين أصررت ارتدى البنطال ورفعه الى وركه فقط إذ هكذا كان يرتدي بيجاما المعتقل، اشتريت له حذاء ودفعته الى خلع "المشاية" البلاستيك لكنه لم يعرف كيف يربط شريط الحذاء فربطته له". حسين لا يفارق أخاه وفي الليل ينام بقربه لكن علي لا ينام فهو يستيقظ مع الفجر ويحاول ان يشغل نفسه بأي شيء، وكان يرفض في اليومين الأولين مغادرة الغرفة وإن خرج فإنه يعود إليها بسرعة". "أم علي" تروح وتجيء في المنزل الذي يغص بالزوار المهنئين بسلامة عودة ابنها تدور بالعصير والحلوى على الزوار وتخفي خلف ابتسامتها حزناً وقلقاً كبيرين. كان علي في الثالثة من عمره حين استشهد والده الرقيب في الجيش اللبناني أثناء مواجهة مع قوات الاحتلال وعملائه بقيادة سعد حداد، وبعد عشر سنوات ونيف عادوا لينتزعوا ابنها من بين أحضانها. يذكر علي أنه في ذلك اليوم طلب من والدته أن تخصه بغرفة له وحده لأنه أصبح فتياً ففعلت وحين دخل المسلحون العملاء الى الغرفة استيقظ ورأى البنادق ووجه أمه الباكي ولن ينسى كلماتها "أخذوا أباه واليوم يأخذونه"، كانت المأساة كبيرة. كان على "أم علي" ان تلبس ابنها ليأخذه المسلحون وتنقطع أخباره سبع سنوات حتى موعد زيارات الصليب الأحمر، و"أم علي" اليوم تبدو حريصة جداً على الحبيب العائد فهي لن تسمح لأحد بأن يأخذه منها بعد الآن لكنها تشعر بغربة. "فعلي لا ينام من دون مهدئ للأعصاب" وهي شاهدته فجراً يقوم بجلي بعض الأطباق في المطبخ وبتنظيف الدار وحين عاتبته طلب منها أن تتركه وشأنه الآن فهو يحتاج لأن يقوم بأي عمل كي لا تعاوده "الكريزة" العصبية. يقول علي: "كان عمري 23 سنة الآن 25.بدأت هذه الحالة تصيبني، قبل سنتين، توتر أعصابي. فجأة، قلبي يدق بسرعة ويداي ترتجفان وأشعر أنني لا أستطيع أن أستوعب أي شيء وأصبح كالورقة في مهب الريح وبحاجة الى النوم ثم أشعر باسترخاء وقد يستغرق الأمر 24 أو 48 ساعة حتى أستعيد قواي، كانت تصيبني هذه الحالة كل يوم تقريباً في المعتقل فلجأت الى حبوب الأعصاب أشتريها من ممرض يجول علينا فخفّت الحالة لكنها لم تزل". لا يعرف علي لماذا تصيبه هذه الحالة لكنه يعتقد أنها نتيجة تراكمات وحين يحاول أن يسترجع ذكريات المعتقل يصاب بنعاس شديد ويبدأ بالتثاؤب وكأنه يُستدرج الى نوم مغناطيسي يستعيد خلاله كابوساً لم يعتقد مرة واحدة أنه سيصبح من الذكريات. "كان سجن الخيام قريباً من منزلنا وكنت أتساءل كيف يعيش المعتقلون فيه ولا سيما في أيام الشتاء القاسية، لم تكن شخصيتي تختزن سوى الطهارة ومحبة الناس ولم أكن تعرفت الى الإجرام، كان يؤلمني أن يكون بلدي محتلاً وأهله يعانون، اعتقلوني بتهمة إنني مؤيد للمقاومة وأجروا معي تحقيقاً وحشياً وأدخلوني الزنزانة عشر سنوات". "كنت قوياً لحظة اعتقالي أو هكذا أردت أن أبدو أمام أمي وأختي التي بكت ووقفت في وجه المسلحين لكنها أدركت أن العين لا تقاوم المخرز فتنحت جانباً ودفعوني الى السيارة، لكن في داخلي كان الخوف كبيراً فقد سمعت عن عذاب معتقل الخيام. أدخلوني إليه وغطوا رأسي بكيس فبتّ أتخيل ما لا يمكن تخيله، انتظرت الضربة من كل الجهات ولم أكن أعرف الى أين يقودونني، بدأوا التحقيق معي على الفور وكان الوقت ليلاً وكنت أحس برغبة كبيرة في النوم، ضربوني أثناء التحقيق الذي استمر عشرة أيام واعترفت لهم بحبي للمقاومة وبتأييدي ل"حزب الله" وعندما انتهى التحقيق واستكمل الملف الذي بين أيديهم وضعوني في الزنزانة ونسوني هناك، لم أكن قد نفذت عمليات مقاومة لكن كنت في الزنزانة أخبر سجيناً معي أنه يجب أن نساعد المقاومة، فوصل هذا الكلام إليهم وعاقبوني، كانوا يستخدمون وسائل كثيرة للترهيب، فإضافة الى وجود العملاء بيننا لنقل ما نقوله من مواقف كان يعمد هؤلاء الى إيهامنا أن نساء لهن مواصفات أمهاتنا أو شقيقاتنا اعتقلن، أو يلجأون الى التهديد المباشر بنسف منازلنا حتى يشعر المعتقل أن لا حول له ولا قوة فيستسلم لهم". "كنت الأصغر بين المعتقلين واختلاطي مع المعتقلين الآخرين أعانني على مواجهة قساوة السجن، كان الشرطي مخولاً بفعل أي شيء يضربنا متى شاء ولأي سبب كان ومن دون سبب أيضاً، كانت مساحة الزنزانة لا تزيد عن مترين وكنا خمسة فيها. أما السجن الإنفرادي فمساحته أقل وهناك غرف العقاب وهي غرف مظلمة ولا تزيد مساحتها عن 20.1 × 60.1 سنتم وقد وُضعت في احداها لمدة شهر وكنت أحصي الأيام من خلال عد المرات التي تفتح فيها النافذة الصغيرة لرمي الطعام لي، كان ذلك في العام 1995 وقد خرجت منها في أحد الأيام للقاء والدتي ثم أعادوني إليها". "لا أحد يحصي الأيام في معتقل الخيام"، يقول علي، إنما نذكّر بعضنا بعضاً فإن نسي أحدنا يوماً ذكّره به آخر، وحين حلّ الشتاء أول مرة عرفت كيف يعيش المعتقلون. كانت مياه الأمطار تنهمر علينا من كل صوب وكنّا نملأ أوعية من التنك منها في دقائق معدودة، كانت المياه ترشح من الجدران والسقف. أما على الأرض فهناك فراش بسماكة 2 سنتم من الاسفنج وكان ممنوعاً علينا تغطيته بشيء، ننام عليه هكذا ونغطي أجسادنا ببطانية وكنا نلصق أجسامنا حتى نحصل على الدفء أو نضع أكياساً من النايلون في داخل البطانية لنمنع تسرب الصقيع الى أجسادنا". ويتحدث علي عن الطعام السيئ الذي كان يقدم الى المعتقلين وبعضه كان ممزوجاً بالدود وأحياناً يكتفون في تقديم قشور الخضار أو الخضار المحروقة، أما الرز فكان الوجبة الدائمة. "كان الهدف ابقاءنا على قيد الحياة فقط". في المعتقل أصيب علي بالحساسية والجرب والفطريات نتيجة سوء التغذية والنظافة "كانوا يضعون سطلاً واحداً لقضاء الحاجة ويتم تنظيف السطل كل ثلاثة أيام، أما الماء فكانوا يعطوننا أربعة أباريق لكل خمسة أشخاص فكنا نغسل رؤوسنا ونستخدم المياه ذاتها لغسل ثيابنا الداخلية وكان ذلك يحصل كل 10 أو 15 يوماً". ويشير علي الى أنه تنقل بين زنزانات كثيرة "لكن أفضلها تلك التي شيدت في العام 1988: مساحتها ثلاثة أمتار بثلاثة أمتار لها نوافذ لكنها مغطاة بقضبان حديدية وكذلك الباب وحين ينفذ النور من خلالها الى داخل الزنزانة كان يصيب عيوننا بأوجاع حادة". يذكر علي أكثر من انتفاضة للمعتقلين، "الأولى كانت في العام 1989 نتيجة الإعتداءات التي زادت عن حدها. كنّا نتعرض للضرب كل الأوقات فسقطت كل الحقوق ولم تعد لدينا قدرة على التحمل فأخذنا نضرب على الأبواب وكل زنزانة تسمع ما يحصل في الزنزانة الأخرى تجاريها بالفعل حتى انتفضت كل الزنزانات فرمونا بالقنابل الدخانية واستشهد معتقلان، والإنتفاضات التالية كانت رداً على سوء معاملة المريض من بيننا، كنا نستمد قوتنا من الله ومن الشباب أصحاب المواقف الجريئة. موتنا لم يكن يعني لهم شيئاً لذلك كنا نسعى الى الحفاظ على حياتنا ونرفض الموت المجاني، كانوا يحاولون الضغط علينا لتوجيه نداءات عبر إذاعة لحد الى قياداتنا لفك أسرنا أو يطلبون منا توجيه سلامات الى أهلنا فكنّا نرفض لأن ذلك يعني إعطاء صورة حسنة عن إعلام لحد". يقول علي أن الحياة في المعتقل أكسبته الصبر واكتشاف الناس، فمنح الثقة الى سجين آخر يتطلب عملية اختبار "والمصيبة تجمع، كنا نختلف في وجهات النظر لكننا بقينا موحدين". ويضيف: "لم تكن لدي تجربة حزبية كنت أسمع النقاش من حولي وأتعلم. فهنا يوجد أشخاص من كل الإنتماءات، الشيوعي والناصري والبعثي و"أمل" و"حزب الله"، كان محور النقاشات دائماً موضوع المقاومة وحين كانت تصلنا أخبار الصراعات التي كانت تدور في البلد بين الأحزاب وبين الطوائف كنا نتألم وكان عملاء لحد يقولون لنا: أنتم في الخارج تقاتلون بعضكم وهنا تتوحدون ضدنا". علي لم يتعلم التدخين في المعتقل، قال ان الحفاظ على المقاومة يكون بالعقل وليس بالسيجارة، كانت النقاشات بين المعتقلين تدور حول نفسها لذا كان علي يفضل الإختلاء بنفسه، لكن المعتقل لم يمنعه من الضحك "كنت أضحك كثيراً ومن قلبي فهناك شبان كانوا يعرفون كيف يدخلون السرور الى قلوب الآخرين". الصدفة ساعدت علي في الحصول على نظارة طبية. فعملية فحص العيون كان يجريها طبيب المعتقل الاسرائيلي بشكل عشوائي إذ كان المعتقل ينقل الى عيادته وعلى رأسه الكيس وحين يُكشف عن رأسه كان عليه ان ينظر الى لوح فإذا قال أنه يرى الأحرف مغشاة قيل له المهم أنك ترى، إلا أن الفحص حصل مرة في حضور الصليب الأحمر فنال علي معاينة جدية أدت الى حصوله على النظارة. حين اعتقل علي كان انتهى لتوه من تقديم امتحانات الشهادة المتوسطة ولم يعرف بنجاحه، كان ممنوعاً عليه في المعتقل حمل قصاصة ورق أما مع دخول الصليب الأحمر فأصبح مسموحاً إدخال الكتب الدينية والسياسية والأكاديمية. الحياة في المعتقل علمت علي ما لا تعلمه الكتب، ويوم خرج مع رفاقه من المعتقل وقف لهم صحافيون من عملاء لحد يسألونهم رأيهم في السلام مع اسرائيل وفي المقاومة. لكن هؤلاء الصحافيين اضطروا الى إيقاف مسجلاتهم لأن الإجابات التي تلقوها تصيب السجانين بالخيبة.