Jeremy Black. War in the New Century. الحرب في القرن الجديد. Continuum, London. 2003. 127 pages. حينما أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش، عشية إعتداء 11/9 بأن أميركا في حالة حرب، حُمل هذا الإعلان على محمل المعنى المجازي وليس الحرفيّ. ولعل ما عزز الأخذ بالمعنى المجازي الإضافة اللاحقة بأن الحرب المعنية، "حرب ضد الإرهاب"، اي ضد شيء مجرد، او على الأقل غير محدد بجغرافيا دولة وجيش. وما كان لمحاولات تحديد العدو الإرهابي وتعريفه بالقوى المسؤولة مباشرة عن الإعتداء شأن منظمة القاعدة، او غير مباشرة، شأن نظام طالبان، او حتى غير المسؤولة بالأصل شأن الدول التي نعتها الرئيس الأميركي ب"محور الشرّ"، ما كان لهذه المحاولات ان تجلو مجاز العبارة لصالح معناها الحرفي. وليس هذا لأن جورج بوش بالغ في تصوير الخطر الذي وجدت الولاياتالمتحدة نفسها إزاءه، وإنما لأمر يتعلق بتصوّر شائع او شبه شائع في الغرب مفاده ان الحرب أمست نشاطاً مهملاً او غير مجدٍ. فتوافر أسلحة الدمار الشامل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أملى "سياسة الردع" كإمتداد للسياسة وليس للحرب، كما ان الإعراض عن الغزو والخدمة العسكرية، خاصة في الدول الأوروبية، بالإضافة الى تراجع مكانة الدولة الأمة بإعتبارها كياناً متماسكاً، متجانس الهوية، امام أعداء خارجيين، جعل فكرة الإنضواء في حرب أخرى مستبعدة. ومن جهة اخرى، وبعد إستئثار الولاياتالمتحدة بموقع القوة العظمى الوحيدة في العالم، وحيث قيضت الهيمنة الدولية لها، فإن حرباً ضدها او ضد حلفائها وأصدقائها، لم تعد مجدية. صحيح ان أميركا، والدول الغربية عموماً، لم تن، منذ نهاية الحرب العالمية وحتى اليوم، تنضوي في صراعات عسكرية، إلا أنه إنضواء اقرب الى تورط في حروب اهلية ونزاعات محلية، او من قبيل عمل البوليس الدولي، الذي يحفظ السلام مجرداً من الدوافع المعهودة والمتوقعة للحرب. وبحسب نظرية تُعرف ب"الثورة في الشؤون العسكرية"، فإن الحرب القادمة ستخلف مفاهيم الحروب السابقة من غير مبرر او معنى. فهي ستكون بمثابة إستعراض متصل لتقنية القوة، "حرب معلومات" و"العاب حاسوب" الغلبة فيها لمن يفلح في تدمير جهاز معلومات خصمه. وحيث ان الولاياتالمتحدة هي الأسخى إنفاقاً على تطوير قدراتها العسكرية، في مجال "التقنية الرفيعة"، فإن الغلبة ستكون لها. وإنه لفي ضوء هذه التصورات والظنون يمكن ان نفهم سرّ التشديد على المعنى المجازي لإعلان الرئيس الأميركي لحالة الحرب، او حتى للمظاهرات الحاشدة التي شهدتها العواصم الأوروبية قبيل خوض الحرب ضد نظام صدام حسين. على ان هذه التصورات والظنون أحادية في فهمها للحرب وقاصرة من حيث تقديرها للتحولات التي طرأت عليها، والوجهة التي من المرجح ان تتخذها. وعلى ما يجادل مؤلف هذا الكتاب، جيرمي بلاك، أستاذ التاريخ في جامعة إكستر، والباحث في شؤون الحروب وتاريخها، فإن مثل هذه المزاعم تنطلق من نزعة "مركزية أوروبية" أساسها الفلسفي الإعتقاد المسيحي والتنويري بأن الحرب محض مفارقة او من قبيل الشذوذ عن القاعدة. وهي تتخذ الدولة الغربية مقياسها الرئيسي وترى أن الحرب صراع ما بين دول او جيوش نظامية. لذا تراها تُغفل أخطر وأوسع الحروب إنتشاراً، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، اي تلك الحروب التي تحدث في داخل الدول وليس ما بينها. فالحروب الأهلية والنزاعات الأثنية العنفيّة ونشاط المنظمات والجماعات التي تتخذ العنف السياسي وسيلة في سبيل التغيير الداخل والخارجي، قد تتمتع بطاقة على الدوام تبرهن على أن الحرب ليست مفارقة او شذوذاً عن القاعدة. الى ذلك فإنها قد تكون من الخطورة بحيث يتجاوز أثرها حدود الدولة التي تدور فيها الى الدول المجاورة وبما قد يُلحق شديد الضرر بمصالح الدول الغربية المطمئنة الى إمتناع الحرب في ما بينها. وفي أيسر الأحوال، قد تجد هذه الدول نفسها منضوية في إطار مهمة حفظ سلام، وهي مهمة قد لا تقل حظوظ إستخدام القوة فيها، على ما برهن التدخل في البوسنة وكسوفو، عن أية حرب تقليدية. الى ذلك فإن مهمات من هذا القبيل وإن أفلحت في وضح حدّ لحرب أهلية او نزاع أثني، فإنها لن تفلح في التخلص من الأسباب والدوافع التي تؤدي الى وقوعها، او إستئنافها بعد مغادرة قوات حفظ السلام. والعولمة، الإقتصادية والسياسية منها، قد لا تنجح في معالجة المطالب المعاشية في البلدان التي ما انفكت تشهد توتراً متصلاً، ولا في تضافر جهود دولية في سبيل إحلال السلام، على ما انفك البعض يعوّل ويُبشّر، وإنما على العكس: الى إشتداد حدة الصراعات وعولمة المحلي منها. فالنمو الإقتصادي في بلد ما قد لا يكون دافعاً أقل للنزاع. وحيث تغيب دولة الضمان الإحتماعي، أو حيث ينعدم الإكتراث بالتوزيع العادل للثروة، لن يؤدي النمو الإقتصادي في جلّ الأحوال الاّ الى تعاظم عنى الأغنياء وتفاقم فقر الفقراء، بما يجعل هؤلاء الأخيرين مشروع متطوعين في الحركات والجماعات المتطرفة، كما حدث في العديد من بلدان آسيا والشرق الأوسط. الى ذلك فإن العولمة السياسية إنما تجعل القوى الدولية، وعلى ما برهن إعتداء 11/9، أقرب الى متناول خصومها وأعدائها مما قد تستدعيه الضرورة الأمنية. وهذا التقصير في تقدير طبيعة وأثر الحروب والنزاعات المحلية يكشف عن قصور أعمق في النظريات التي تبالغ في تقييم دور التقنية في تحديد طبيعة الحروب القادمة. ونظرية من قبيل "الثورة في الشؤون العسكرية" تقوم على استبعاد القيم الثقافية والأخلاقية المرتبطة بالحرب، ومن ثم بالتحولات الإجتماعية والسياسية التي تطرأ على المجتمع. فقيم شأن النصر والهزيمة او الربح والخسارة على صلة وثيقة بأمور كالإتجاه نحو الديموقراطية والإمعان فيها، وايضاً بموقع المرأة في المجتمع ومعاني الذكورة، فضلاً على صلتها بالدين وما عرفه من ازدهار في الآونة الأخيرة بما أدى الى نشوء مرجعيات مختلفة للهوية والولاء ومصادر للتفكير والتنظيم السياسيين مباينة للأحزاب العلمانية التي تمتعت بالهيمنة طويلاً في هذا المجال. فالإمعان في الديموقراطية، وإن أضعف الدولة ككيان متماسك، متجانس الهوية، ضد أعداء خارجيين، أوجب التشديد على النزعة المهنية العسكرية. وقد صير الى التخلي عن نظام الخدمة العسكرية الإجبارية في العديد من النُظم الغربية، بيد ان هذا لم يكن بفعل ضعف الدولة في ظل رسوخ الحياة السياسية الديموقراطية بقدر ما عبّر عن الحاجة الى وجود قوة عسكرية محترفة وعلى قدر من المرونة بما يجعلها قادرة على التجدد والتحرك وفق ما تقتضيه الحاجة. أما تغيّر موقع المرأة في المجتمع، فقد وجّه ضربة قاصمة الى المعاني والمظاهر الذكورية التي لازمت المؤسسات والأنشطة والعسكرية، ومن ثم قضت على مظاهرالإستعداد الدائم للهجوم والعدوان. الى ذلك فإن إزدهار الدين، إن على شكل مظاهر تقوى وورع جمعيّة الطابع، كما في الولاياتالمتحدة، ام على صورة حركات وجماعات سياسية متفاوتة البرامج السياسية والأهداف والوسائل المستعدة لإستخدامها في سبيل بلوغ مآربها، قد استبعد الدولة بإعتبارها مصدر الهوية وموضوع الولاء. كما ولّد مخاطر سياسية وعسكرية مختلفة عن جيوش الدول المنافِسة. تُضاف الى ذلك حقيقة ان دوافع الحروب المعهودة لم تُستنفد تماماً. فالتنافس على مصادر الطاقة قد لا يُحلّ دائماً بالسبل الديبلوماسية والسلمية، والحرص على النفوذ "الجغرافي السياسي" التوجه ما انفك دافعاً مهماً لتوتر سياسي او لنزاع محدود او غير محدود، وحتماً أهم من الإمتثال الى ما ينصّ عليه ميثاق الأممالمتحدة من ضرورة الإمتناع عن إنتهاك سيادة دولة مستقلة. مثل هذه الحقائق لا تغيب عن بال قارىء الصحيفة اليومية اومشاهد النشرات الإخبارية. بيد ان مؤلف هذا الكتاب يحسب أنه يسوق رؤية أقل تفاؤلاً من رؤية اولئك الذين يزعمون أن الحرب أمست مهملة او غير مجدية. والأرجح ان الفارق بينه وبين المتفائلين بمستقبل البشرية هو انه يُصرّ على تعقب المعاني الحرفية المختلفة للحروب الراهنة والمقبلة، في حين ان المتفائلين يعولون على المجاز اللعوب. ولربما كان المجاز الذي حُمل عليه معنى إعلان الرئيس الأميركي لحالة الحرب، ليس نتيجة الظن بأن الحرب أمست مهملة او من غير جدوى، إنما هو محاولة للإحاطة بالمعاني الحرفية المتعددة للحرب اليوم وفي المستقبل. أليست هذه وظيفة المجاز في حالتي السلم والحرب؟