Michael Ignatieff. Empire Lite. خفيف الإمبراطورية. Vintage, London. 2003. 134 pages. قد لا تعود الامبريالية، بعد اليوم، لعنة! وتبعاً لبعض ما يُكتب اليوم، فلم يعد تعريف الولاياتالمتحدة، كقوة إمبريالية، محض نعت يستخدمه الأعداء والخصوم في سبيل إدانة السياسة الأميركية وتبرير مقاومتها. فهناك عدد متزايد من الكتّاب والمعلقين ممن يجادلون بأن أميركا هي الإمبراطورية الجديدة، ولكن ليس من باب النقد، وإنما كتعيين واقعي للدور المُناط بها في ميدان السياسة الدولية بعد نهاية الحرب الباردة. بل إذا ما كان لهؤلاء من مأخذ على السياسة الخارجية الأميركية فإنهم، ولهلع البعض، يأخذون عليها أنها ليست إمبريالية بما يكفي، او بما يتوافق مع حقيقة انها القوة العظمى الوحيدة، إذ هي القادرة وحدها على تطبيق سياسة "التدخل الإنساني" و"بناء الأمم"، على ما أمست سياسة التدخل العسكري وتغيير النظام القائم وإقامة نظام ديموقراطي تعني في الكتابة السياسية الشائعة في الغرب، والولاياتالمتحدة بشكل خاص. وبحسب كاتب ليبرالي شأن مايكل إيغناتييف، الكاتب والأكاديمي الكندي المهتم بشؤون العلاقات الدولية و"حقوق الإنسان"، فإن الولاياتالمتحدة وإن لم تتوان عن اتباع سياسة التدخل العسكري، سواء في سبيل نصرة حقوق من تتعرض حقوقهم للإنتهاك، أم في سبيل حماية مصالحها وضمان أمنها، فإنها إكتفت حتى الآن بما يسميه بسياسة "بناء الأمة على نحو خفيف"، اي لم تسع الى بناء نظام ديموقراطي جديد في البلدان حيث يحصل التدخل. وما هذا الاّ لأنها ما انفكت ترى الى نفسها بإعتبارها "إمبراطورية على نحو خفيف"، اي "هيمنة من دون مستعمرات، مدار نفوذ كوني من دون عبء الإدارة المباشرة او مخاطر عمل الشرطة اليومي". هذا "التخفف" في السياسة الإمبريالية يعود، بحسب الكاتب الكندي، الى أمرين إثنين: اولاً ان الولاياتالمتحدة تفاخرت دائماً بأنها، ومنذ دخولها حلبة السياسة الدولية، ناهضت الإمبريالية وناصرت حق الشعوب في تمثيل نفسها وتقرير مصيرها. فهي نفسها لم تظفر بالإستقلال الاّ بفضل إنتفاضتها ضد الإمبراطورية البريطانية. وثانياً، أن السياسة الخارجية الإميركية، وبما ان الولاياتالمتحدة دولة ديموقراطية، تبقى رهينة سياسة الحكومة المنتخبة بما قد يتناقض مع واقع العالم والسياسة الدولية، من زاويتي المصالح الأميركية وحماية حقوق الإنسان. يرى إيغناتييف أن ليس ثمة ما يُعيب الولاياتالمتحدة أن تكون إمبراطورية، وأن تنحو، بالتالي، نحو سياسة إمبريالية، طالما ان هذا ما يمليه الواقع: أن حقيقة قدراتها العسكرية والإقتصادية باعتبارها الدولة العظمى الوحيدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، تُملي سياسة خارجية في سبيل حماية المصالح الاميركية وحقوق الإنسان. وعلى ما يجادل إيغناتييف، ليس ثمة من تناقض ضروري ما بين هذين الغرضين. ولقد أدى انهيار المعسكر الإشتراكي الى إختلال توازن القوى، الذي كان قد ساد في ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال عقود الحرب الباردة. وهذا الإنهيار ادى الى تفكك دول وإندلاع نزاعات أثنية وحروب أهلية. والى ذلك فإن العديد من دول آسيا وافريقيا ممن نالت إستقلالها بعد الحرب العالمية الثانية وإنحسار النفوذ الإمبريالي لكل من بريطانيا وفرنسا، إنتهت الى ان تكون محض "دول فاشلة" او "عاطلة"، على حد نعت شائع في هذه الأيام مقصوده الدول العاجزة عن تلبية مطاليب مواطنيها من خدمات عامة، او العاجزة عن إحكام سيادتها بما يجعلها مسرحاً لنشوء وتفشي حركات متطرفة تشكل تهديداً سافراً للأمن والإستقرار في الدولة نفسها، او حتى لمصالح وأمن اوروبا والولاياتالمتحدة، على ما برهن إعتداء الحادي عشر من أيلول سبتمبر. وإنه لفي ضوء واقع دولي مضطرب كهذا، كان لا بد من إتباع سياسة التدخل العسكري، سواء بدواعٍ إنسانية غيرية، كما في حصل حيال البوسنة وكسوفو، ام بفعل مصلحة وأمن قوميين أميركيين، كما حدث في أفغانستانوالعراق. وليس ثمة من مبرر، على ما يجادل إيغناتييف، للتظاهر بأن سياسة "التدخل العسكري" هي سياسة دولية وليست أوروبية، او أميركية تحديداً. فالتدخل في كوسوفو او العراق لم يحصل بقرار من مجلس الأمن، او بتوافق مع قوانين الشرعية الدولية، والأهم من ذلك ان مثل هذا التدخل ما كان ليحدث، في مجمل الأحوال، إن لم نقل في كلها، لولا القدرة العسكرية الأميركية. على ان الإمبريالية التي يقصدها إيغناتييف، ويطمح اليها، ليست إحياءً لسياسة الإمبراطوريات الغربية الزائلة ممن زعمت أن من واجبها فرض قيمها ومعاييرها على جلّ شعوب الأرض. فحتى وإن جادل إيغناتييف في سبيل سياسة "بناء الأمم" بناء تاما، من حيث ان هدفها إحلال السلام وإنشاء نظام ديموقراطي ودولة القانون، فليس المقصود بذلك تسويق الديموقراطية الليبرالية بإعتبارها أسمى القيم، وإنما لأنها تبدو السبيل الأفضل لضمان نجاح سياسة التدخل الإنساني، حيث يكون مثل هذا التدخل ضرورياً. فلن تكون السياسة الإمبريالية، بما هي سياسة تدخل إنساني، ذات اثر مديد إذا ما إقتصر أمرها على التدخل العسكري لفض النزاعات وإنهاء حالة الحرب فقط. فلا بد من إعادة بناء مؤسسات الدولة في البلد المنكوب، وعلى أساس نظام ديموقراطي، يحول دون تقهقر البلد المعني الى حالة الحرب الأهلية او إنعدام السيادة، وما يلازم ذلك من شيوع إنتهاك لحقوق الإنسان لتفشي التطرف والإرهاب. ويلتمس إيغناتييف في مسيرة الطبيب الفرنسي برنار كوشنر عبرة في أن السياسة الإمبريالية ما هي الاّ السياسة الإنسانية المتوخاة على وجه كونيّ في عصر ما بعد الحرب الباردة. فلقد بدأ كوشنر حياته مناضلاً يسارياً، راديكالياً، من جيل حركة 1968، غير انه ومنذ مطلع عقد السبعينات انتقل للعمل في حقل الإعانة الدولية، اولاً مع "الصليب الأحمر"، ولاحقاً من خلال مؤسسة طبية فرنسية عمل على تأسيسها بنفسه. ومثل هذا النشاط رشحه في ما بعد الى منصب وزاري في حكومة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران، ومن ثم الى ان يتبوأ منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، في كوسوفو في ظل الإشراف الدولي السائد هناك منذ 1999. وعلى ما يقدّر إيغناتييف الأمر، فإن إنتقال كوشنر، أولاً، من العمل النضالي، الحزبي واليساري، الى العمل الإنساني الدولي، وثانياً، من العمل لصالح "الصليب الأحمر" الى العمل كوزير للمساعدات الإنسانية، ومن ثم كممثل للإشراف الدولي في كسوفو... ان مثل هذين الإنتقالين يدلان على ان السياسة الكونية، العملية والمجدية، لهي، ومنذ عقد السبعينات حتى اليوم، العمل الإنساني الدولي. لكن شريطة ان يكون هذا العمل سياسياً ايضاً، وليس بمعنى انه غير محايد او صامت على وجه مخزٍ، كما هو عمل "الصليب الأحمر" في بعض الحالات، وإنما يحض على التدخل العسكري ويساهم، بعد حصول التدخل العسكري ونجاحه، في عملية البناء والإدارة المدنيين. لكن هذه ليست العبرة الوحيدة التي يستقيها إيغناتييف من مسيرة كوشنر والدور الذي يؤديه اليوم في كسوفو. فهناك حقيقة ان مهمة كوشنر هي أقل نجاحاً مما تبدو عليه. لكن هذا ليس بدليل على فشل السياسة الإمبريالية التي يحض إيغناتييف عليها، وإنما لأن هذه السياسة ليست إمبريالية بما يكفي، اي ما يجعل كوشنر أوسع امتيازاً في بناء واقع سياسي على أساس حاسم. الى ذلك فإن الإشراف الدولي او بالأحرى، السياسة الإمبريالية مقنّعة الذي يمثّله كوشنر كناشط فرنسي يدل على ضرورة ان تؤدي اوروبا دور الإدارة المدنية في السياسة الإمبريالية المتوخاة. فإذا كان لا غنى عن القوة العسكرية الأميركية في سبيل تحقيق الشق الأساسي، والأصعب، من السياسة الإمبريالية، فلا بد من الخبرة الأوروبية في عملية إعادة البناء والإدارة المدنيين. ولا شك بأن إستعراض مسيرة كوشنر ودوره الراهن، يسوّغ للكاتب تسويق ثلاثة مزاعم ما انفك يجادل في سبيلها: ان السياسة الإمبريالية الجديدة ما هي الاّ السياسة الإنسانية المتوخاة في ظل النظام الدولي الراهن، وانه لا بد من سياسة إمبريالية تامة، وليست خفيفة او مخففة، واخيراً، ضرورة تضافر الجهود الأميركية والأوروبية في سبيل إنجاح مثل هذه السياسة. إيغناتييف، ومن خلال هذا الزعم الأخير، انما يحاول ان يكون وسيطا خيّرا ما بين أبناء طرفي الأطلسي. فالرجل من أصحاب الولاء المزدوج، الأوروبي-الاميركي، لا بد ان تعزّ عليه أسباب الفرقة التي جعلت تلمّ بالعلاقات ما بين الطرفين. غير ان إيغناتييف لا يفلح في بلورة هذه المزاعم من دون إسقاط أمر واحد مهم: حقيقة ان السياسة التي يمثلها كوشنر ويعمل بموجبها، لهي، وخلافاً لما يدعو اليه الكاتب، لا تصدر عن المصلحة الذاتية لأصحاب هذه السياسة، او محاولة التوفيق ما بين المصلحة الذاتية وحماية حقوق الإنسان. على الأقل ليست كذلك، في حدود المُعلن والمصرّح به. وهي لو كانت كذلك، لربما كانت أتمّ مما هي عليها وأنجح، بما يطيب لنفس إيغناتييف. غير انها لو كانت كذلك فعلاً، لفقدت الصدقية التي تتمتع بها، ولبدت أقرب الى السياسات الإمبريالية السالفة، وغير المعفية من اللعنة بعد.