كثيرا ما لفتت الانتباه، لدى حصول كل جريمة إرهابية، تلك القدرة وتلك الفاعلية الفائقة التي يبديها الإرهاب في الانتصار، عمليا وموضوعيا، لأعدائه المفترضين، ممن يناصبهم العداء الأقصى. التفجيرات الأخيرة في العاصمة السعودية، لم تشذ عن هذه "القاعدة"، بل ربما بلغت بها إلى مداها الأبعد. إذ لم يكن يوجد من هو أشد حاجة لتلك العمليات من الإدارة الأميركية والرئيس جورج بوش نفسه. فما لا شك فيه أن واشنطن كانت ساعية، وقد أنهت مغامرتها العسكرية في العراق، إلى العودة إلى ذريعة "الحرب على الإرهاب"، بعد أن استنفدت ذريعة "نزع أسلحة الدمار الشامل"، أقله إلى حين. كان انتقالها من الذريعة الأولى إلى الثانية قد "كلفها" عملية من قبيل الشعوذة، اضطلع فيها الإعلام، أو ما يقوم مقامه ويلبس لبوسه، بدور أساسي، وتمثلت في استبدال عدو بعدو. في استبدال أسامة بن لادن، ذلك الذي تبوأ تلك "المنزلة" وانفرد بها منذ عدوان الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، بصدام حسين. و"التفاصيل"، في عملية الاستبدال تلك، لم تكن مهمة. أي لم يكن مهما تقديم الرئيس العراقي المخلوع، ذلك الذي لم يؤذ الولاياتالمتحدة في شيء ولا كان قادرا على إيذائها، والذي كان يخص شعبه وشعوب المنطقة بكل شروره، وهي شرور كانت كثيرة وفادحة ومتمادية منذ عقود، على زعيم تنظيم القاعدة، الذي وجه إلى الولاياتالمتحدة أكبر ضربة إرهابية تصيبها في عقر دارها. إذ يبدو أن واشنطن ما عادت تصطفي حلفاءها فقط وفق مبدأ "استعمل وارمِ"، فلا ترتبط معهم بعلاقات ثابتة واستراتيجية، وتحبذ انتدابهم، عند الحاجة، لوظائف معلومة، حيّزا وزمنا، بل يبدو أنها تتوخى نفس المبدأ حيال أعدائها، تنتقيهم هم بدورهم لمهام محددة ولفترات معينة. وهي هذه المرة لم تكلف نفسها حتى عناء القيام بعملية شعوذة كتلك التي سبقت الإشارة إليها، للعودة من "الحرب الاستباقية"، كتلك التي خاضتها في العراق، إلى "الحملة الكونية ضد الإرهاب"، حيث وفر عليها إرهابيو الرياض كل جهد في ذلك الصدد. فما حصل في بلاد الرافدين قد حصل، ولم يبق سوى "تطبيع" الحالة الاحتلالية، والبلوغ بها إلى مصاف "العادية"، أقله على الصعيد الإعلامي. والصعيد هذا، كما هو معلوم، بالغ الفعل والأهمية، لما ينطوي عليه من قدرة على سحب وضع من الأوضاع أو نزاع من النزاعات من "التداول" المُصوّر والمكتوب، فإذا هو كما لم يكن، على ما تشهد على ذلك عشرات النزاعات المنسيّة عبر العالم، تجري قاتلة فتاكة، ويتعايش معها ضمير الإنسانية، وهو قُلّب متحول، قرير العين، وقد جهلها أو تجاهلها أو تعب منها وأضجرته. والحال أن عودة الولاياتالمتحدة إلى ذريعة مواجهة الإرهاب كانت ستكون محرجة، إذ أن العودة إلى توسلها بعد أن أهملتها أشهرا طويلة كانت ستبدو فجة أو "مَخيطة بخيطٍ أبيض" كما تقول العبارة الفرنسية، خصوصا أن دراسات صدرت في الآونة الأخيرة، تشير إلى أن عمليات الإرهاب قد سجلت تراجعا ملحوظا خلال سنة 2002، أقله من الناحية العددية، وأن الولاياتالمتحدة وبلدان أوروبا الغربية لم يستهدفها أي عنف من تلك الطينة، في ما عدا جرائم الإرهاب المحليّ المنبت والدوافع في بعض الحالات، شأن العنف الكورسيكي في فرنسا وذلك الباسكي في إسبانيا، أو ذلك الذي تقترفه بين الحين والآخر، فلول أقصى اليسار المتطرف في إيطاليا. وفي ذلك ما كان "يهدد" بإعادة الإرهاب إلى نصابه العادي، إن صحت فيه هذه الصفة، أي بوصفه بُعدا لازم الحياة الدولية في العصر الحديث دوما، من إرهاب الفوضويين بين أواخر القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، إلى الإرهاب الفاشي أو اليساري أو ذلك الذي زاولته حركات التحرر... أي آفة يقر الجميع بها وبخطرها وبضرورة التمادي في مواجهتها، ولكن ليس بالدرجة التي تسوّغ للدولة العظمى الوحيدة في العالم توسّلها لإرساء ضرب من حالة طوارئ على صعيد الكرة الأرضية بأسرها، تمكّنها من ممارسة قوتها الساحقة دون رادع، وخارج كل إطار قانوني... لكن "حلفاء الظلام" ارتكبوا جرائمهم في الرياض فأسعفوا الولاياتالمتحدة. بل أن العمليات المذكورة من شأنها كذلك أن توفر فرصة الانضواء إلى جانب الولاياتالمتحدة أو تحتها لكل تلك الدول التي كانت حرب العراق قد فرّقتها عن القوة العظمى الوحيدة، وما انفكت، منذ انتصار قوات التحالف في النزاع الأخير، على نحو ربما لم يكن متوقعا في سهولته، تبحث عما من شأنه أن يمكّنها من مصالحة واشنطن ومن استعادة رضاها. الرئيس فلاديمير بوتن، كان من بين الأسرع في انتهاز تفجيرات الرياض، سعيا منه إلى تجاوز الخلافات التي نشبت بين بلاده وبين الولاياتالمتحدة حول الحرب العراقية، وهي خلافات باتت موسكو تخشى تبعاتها، ولاستعادة صفة "الشريك الإستراتيجي" التي كان قد ظفر بها بعد الحادي عشر من أيلول وأثناء الحرب الأفغانية. إضافة إلى سعيه الدائم إلى إدراج حربه في الشيشان ضمن "الحملة العالمية ضد الإرهاب". وهو على أية حال قد بادر إلى تبيّن أوجه التماثل بين تفجيرات الرياض وتلك التي شهدتها الشيشان خلال الأيام الماضية، رغبة في الإيحاء بأن ليس هناك من قضية وطنية في ذلك البلد المستعمر، وأن العنف الذي يعتمل فيه منذ سنوات لا يعدو أن يكون أعراضا لإجرام من قبيل إيديولوجي وخارجي. أما فرنسا، فقد سارعت هي بدورها إلى مساندة واشنطن والمملكة العربية السعودية في مصابهما، وهي تصدر في ذلك دون شك عن موقف مبدئي. لكن المبدئية تلك تكون أعمّ وأكبر فائدة إن هي مكّنت أيضا من مصالحة واشنطن، بعد أن كانت هذه الأخيرة لا تتردد عن التلويح بمعاقبة باريس، وبعد أن كانت تلك المصالحة تبدو متعذرة، بحيث امتلأت الصحف الفرنسية بمقالات تدعو إلى انتظار عودة الديموقراطيين إلى البيت الأبيض، عقب الانتخابات الأميركية المقبلة أو تلك التي ستليها، حتى تؤوب العلاقات بين البلدين إلى سالف عهدها أو على الأقل إلى الانفراج. وقس على ذلك دولاً أخرى عديدة. وهكذا، فإن تفجيرات الرياض، إذ تعيد خطر الإرهاب إلى الواجهة، قد تنهي عزلة الولاياتالمتحدة، تلك المنجرّة عن حرب العراق، وهي الحرب التي تبقى غير قانونية وإن خلّصت العراقيين من حكم ديكتاتوري بغيض، وقد تؤدي إلى تمكين العديد من دول العالم، خصوصا أكثرها تورطا في الاعتراض على واشنطن، من الالتفاف حولها من جديد باسم محاربة الإرهاب، خصوصا أن دولا كثيرة ما كانت تبحث إلا عن مبرر لذلك الالتفاف، يؤدي إليه مع حفظ ماء الوجه. قدرة الإرهاب على إيذاء القضايا التي يزعم الدفاع عنها ليست بالأمر الجديد، لكنها تبقى مذهلة دوما، خصوصا من حيث "دقة" توقيتها، أو دقة مصادفاتها. نحن لا نقول، بطبيعة الحال، بنظريات المؤامرة والعمالة... اللهم الا "عمالة الأغبياء". وهذه وإن كانت لا إرادية، إلا أنها لا تقل فتكا إن لم تكن أشد.