لم تعد ثقافة المقروء فاعلة كما كانت حالها في ما مضى، لاقتصارها على فئة معينة من الناس الآن. وطغت في المقابل ثقافة المرئي والمسموع، كتوجه للعالم اليوم. لذا كان لا بد لمن يحمل هماً ثقافياً، ويسعى ل"الترويج الثقافي" أن يخرج من حيز القول فقط، وينتقل الى الفعل، أو يوظف هذا القول ليكون فاعلاًً، فللحوار ثقافة تُكتسب، نجدها متوافرة الى حد كبير في "طيب الكلام". هو اسم لافت لبرنامج تعده وتقدمه الناقدة السينمائية ديانا جبور، التي انتقلت من الإعلام المكتوب الى المرئي، بعد أن كانت مسؤولة عن الصفحة الثقافية في جريدة "الثورة" السورية. وعلى رغم ان المساحة المتاحة في المرئي أكبر بكثير، والجدوى أهم، والتأثير أسرع، إلا أنها لا تجد فوارق جوهرية بين الاثنين، بل تراها تقنية فقط. فالثقافة والمثابرة، هي العلامة الفارقة للتميز والخصوصية، وما تبقى تفاصيل لها علاقة بطريقة الارسال. لكن من هو المرسل؟ ولم يتميز من بدأ بالمكتوب أولاً ثم اتجه للمرئي؟ من تلوم؟ ترى ديانا جبور، ضرورة وجود أساس نظري مستمد من القراءات المتراكمة والمتواصلة للكتب، لمعرفة ما يجب ايصاله وكيفية ذلك من دون ادعاء. وعلى أي حال، فقلة هم الذين يعدون ويقدمون برنامجاً، بغض النظر عن السوية، وتحديداً النساء، فقد اقتصر دور المرأة... على التنفيذ، وتأنيث الشاشة من حيث الشكل فقط، في حين تتزايد حاجتنا لتأنيثها وأنسنتها على صعيد المضمون. ما السبب في ذلك وعلى من يقع اللوم؟ تجيب ديانا بصراحة: "أضع اللوم على المرأة، فهي لم تقدم نفسها جيداً. وقلة من النساء يعملن على ثقافتهن وتطوير أنفسهن، والأخريات يعتمدن على الأنوثة معتقدات بأنها تغفر تساهلهن في العمل". لا يعني هذا ترسيخاً لصورة المثقفة السائدة، المتجهمة، الطاعنة في السن والأشبه بالرجل أحياناً، وربما كانت ديانا واحدة ممن كسروا هذه القاعدة ليحظوا بظهور أنثوي وحضور انساني وفكر مثقف. في المقابل لا يمكننا الاستخفاف بالعملية التنفيذية، فتقديم برنامج ليس بالأمر السهل، خصوصاً أن أدواته جديدة بالنسبة الى ديانا، سواء في التعامل مع الكاميرا أم التوجه نحو جمهور واسع تتخوف من قبوله أو عدمه... لذا نراها مقتصدة في تقديم الضيف وفي اختتام الحلقة... فهي تعتبرهما أصعب لحظتين، إذ تكره تحولها الى مذيعة تتوجه الى الجمهور... ربما نستغرب موقفها، لكنها تبرره بمجيئها متأخرة على هذا العمل، كما تخشى اعتبارها مذيعة منفذة فقط وليس إعلامية تقود برنامجها من ألفه الى يائه... لقد اعتدنا رؤية أشكال شبيهة بهذا البرنامج، فالفضائيات تزدحم بحوارات تتناول أهل الثقافة والفكر والفن، لذا نسأل مع كل ظهور لبرنامج جديد، ما المختلف الذي سيقدمه؟ ربما استطاع "طيب الكلام" كسر الصورة المتعارف عليها في التلفزيون السوري الذي اعتاد تبجيل الفنان، و"عوّده" على رفض النقد، وهنا نلتفت للتوجه النقدي في البرنامج، ومناقشة المسيرة العملية للضيف وما قدّمه... لا تجد ديانا أهمية للفكرة، بل لكيفية التعامل معها وتخريجها، وتضيف: "كل البرامج حوارية، لكن اعتمادي هو على المقابلة بين الطرفين، أرى في الكلام فكراً، وشكلاً للتعبير عن الذات، وعلى رغم وجود النبرة النقدية إلا أنها لا تخلو من التسخيف أو التسفيه، ومأخذي على معظم البرامج الحوارية خلوّها من الحوار وسيطرة "المهاوشة". ما أريده هو أن يظهر الضيف كما هو، وأن يقدم نفسه بإيجابياته وسلبياته، ليخرج المتلقي بعد مشاهدة البرنامج بقناعة مختلفة تجاه الضيف أو الموضوع... أسعى حقاً الى تقديم جرعة معرفية جيدة". هذه المعرفة ستتكون وفي شكل تراكمي مع ازدياد عدد الضيوف وتنوعهم ممثل، مفكر، شاعر، رسام...، ربما يجمعهم التميز والتفرد والقدرة على ايجاد مادة للحوار، لكن تنوعهم يفرض في المقابل، تنوعاً في أسلوب التقديم، فلكل شخصية معطياتها المختلفة، كأن تتطرق الى الحياة الشخصية للممثل عبر فيلم تسجيلي، منتقلة في ما بعد الى المسيرة العملية، بينما اكتفت بالأخيرة في لقائها مع باحث ومفكر، فما يهم المتلقي منه هو معلومة يقدمها وليس سيرة شخصية، عكس الرسام، فمن الضروري العودة الى طفولته ومعاناته التي هي جزء من ابداعه... وتضيف ديانا: "يفرض الموضوع أحياناً شكلاً معيناً، وكذلك الضيف، لذا تختلف طريقة التحضير، ومعظم الضيوف من أهل الفن محبون للعب ويرضون به، أما أهل الفكر فهم أكثر صرامة، ولا يجدون في اللعب أي متعة... لذا لا يرضون به كما يتعلق الأمر بما يرغب الجمهور بمعرفته عن الضيف، حياته، عمله، فكره...". واللافت حقاً في هذا التنوع، هو قدرة ديانا على المحاورة، وربما كان للسينما فضلها في ذلك فهي تجمع كل الفنون والثقافات فن تشكيلي، موسيقى، تاريخ، سياسة...، فهل تنعكس سينمائية ديانا على عمل تعده خصوصاً مع وجود فيلم تسجيلي، بحسب الضرورة، يعرض خلفية مكثفة عن الضيف، "هذا أكيد" أجابت ديانا جبور، "لا يمكن فهم السينما من دون فهم السياسة مثلاً، أو الاهتمام بالفن التشكيلي، وتقدير الموسيقى... آمل في أن تنعكس روح السينما على هذا البرنامج، بحسب الضرورة طبعاً". بين الشاشة والمتفرج تحتاج شاشتنا ومتفرجنا اليوم الى نوعية هذا البرنامج، بعد أن اعتاد رؤية ما هو سطحي، أو جدي جاف، لذا لا بد من ابتكار أساليب جديدة تجذب متلقياً لم يعد ساذجاً مع الفضائيات وكم البرامج المتاحة، لقد أثبت بحسب رأي ديانا أنه يتلقى كل ما هو صادق وحقيقي، وما يحدد الجمهور هو الاخلاص للنوع المعمول به، والأسلوب المقدم، كأن تبدأ بدريد لحام أولاً لجماهيريته الواسعة فتجذب ولو جزءاً بسيطاً من المتفرجين لمتابعة الحلقات التالية، وأخذ الجرعة الثقافية التي تسعى الى إيصالها معتبرة وصولها دليل نجاح البرنامج. لكن النجاح هنا لا يعتمد فقط على الجرعة المعرفية، ولا على الاعداد فقط، بل يتكامل مع الانتاج والاخراج والمحاور والضيف، وتوقيت العرض، والحرية المتاحة... وأي خلل في واحدة من الشروط سيؤثر سلباً في نجاح البرنامج، وأقل تفصيل بإمكانه تغيير التوجه والرؤية المتبعة، كالديكور البارد مثلاً والبعيد عن الحميمية من خلال الفراغات والخطوط القاسية والحادة، والتي تتناقض مع حميمية اللقاء. خصوصاً أن للمعد حدوداً يقف عندها وإن كان ما في ذهنه مكمّلاً للفكرة المعدّة. ويتوقف هذا بحسب رأي ديانا على تعاون فريق العمل ابتداءً من ذهن المخرجة سهير السرميني المنفتح على أي فكرة جديدة ورؤية جمالية، وانتهاءً بالاتساع الملحوظ لهامش الرقابة. وعلى رغم ذلك لا تخفي تخوفها، لكنها أعطيت لحد الآن الثقة الكاملة من دون أي تدخل، اضافة الى الموافقات التي تمنح لمقترحاتها، وأهمها اقرار وجود مكافآت مالية للضيوف، هذا يعني "تقدير الثقافة كقوة عمل، تقابل بالأجر". لكن هل ستستمر هذه العقلية في مؤسساتنا؟ أو بالأحرى، هل هي متوافرة دائماً؟ - غالباً ما تبتعد عقلية المؤسسات الثقافية عن قوانين الإبداع المختلفة عن القوانين الإدارية الجامدة والتقنية، لذا تقف عائقاً أمام أي مشروع ثقافي، لكن من وجهة نظر أخرى، ترى ديانا جبور استحالة وصول أي مبدع أو مثقف من دون مؤسسة "نحن بحاجة ماسة لها، لكنها للأسف - لحد الآن - تحتكم للفرد، ولطبيعة ثقافته، وعقليته، وكيفية رؤيته للأمور. لذا تتبدل المواقف باستمرار مع تبدل الأفراد... إلا أنني لم أواجه حتى الآن هذه العقلية في التلفزيون". ما يهم ديانا هو الثقافة فقط، تهدف الى ترويجها، وتعمل على مشروعها الثقافي منذ عشرين سنة. ربما كانت الأهداف كبيرة والخطوات صغيرة، إلا أنها تحاول، فهي تجد في الثقافة حماية للناس من التطرف والاستهلاكية، ومن أي مظهر مسيء للإنسانية.