سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
نظرة ثانية على أفلام تركّب مخيلة الفلسطيني كلما مر من هنا . فلسطين في السينما الجديدة : طائر الفيديو الرقمي بلا مخيلة والبراءة تحتفل برؤية التصدي لشارون
هل حقاً ثمة سينما فلسطينية جديدة؟ قد يحتاج الأمر الى إعادة نظر في منظومة التعبير، وفي الأداة، وفي المخيلة أيضاً إن جاز أو أمكن التعبير من بعد الحصاد الفيلمي الذي استمر من 9 وحتى 15 أيار مايو الفائت على مسرح بيروت. فمن بعد فوز إيليا سليمان في مهرجان "كان" بجائزة لجنة التحكيم العام الماضي وضعنا اليد على القلوب أيضاً خشية "الاستسهال"، ففلسطين نقطة ساخنة وقد تؤخذ باللهاث والتسرع وتدوير الجوائز في المهرجانات أو أقله، مبادلة الأضواء بالأضواء والأنخاب، فما شاهدنا في معظمه ليس بتعبير الفيلم الحاضر الأزلي، بل في البعض منه لم يتعدَ دفتر اليوميات الفيديوية، ذلك ان هذا النوع من الأشرطة المضغوطة بكاميرا رقمية ليس لأن الأداة رقمية، بل لأن البنية الفيلمية غائبة بحكم سهولة قياد هذه الأداة، التي يسهل معها قياد الفيلم الفلسطيني الى جنحة التعليب الفائرة وسطوة التنميط، حتى أصبحت السينما الفلسطينية الجديدة تصنع في الأرشيف، أو تستعاد منه بصفتها حدثاً لا يحمل وجهة نظر المؤلف أو الشخصية أو حتى الرواية الوثائقية في أحسن الأحوال. ضمير المتكلم وما الذي يصنع من أهمية الشكل إن تجاوزنا الرغبة في حصاد آخر؟ سؤال قد يبدو نزيهاً في حال الدورة الثانية التي ينظمها مركز المعلومات العربي للفنون الشعبية - الجنى، بالتعاون مع "شمس" شباب مسرح وسينما، كل عامين مرة، إذ ان جردة متفحصة لأفلام لا تعيد توجيه المجاز الفيلمي بنوع من الرؤية تفيد من النقطة الساخنة في فورتها العليا انتفاضة الأقصى وما تلاها من أحداث بصفتها تعليباً لكل ما يمكن أن تعبره الكاميرا الرقمية من دون ترقيته الى منسوب السحر، فما من تحويم لأي تعريف سينمائي يخص معظم هذه الأفلام، ذلك انها تستنفد الرؤية، وهي أقرب فعلاً الى تجلٍ فيديوي يقبع عند حدود نقطة ساخنة... راهنة، يستطيع المشاهد ببيانه أن يحتل موقع المؤلف، وأن يدخل برأسه في جريدة إخبارية يومية ينقصها التأمل وجذوة الإلهام ليقوم بدوره من طريق السرد بضمير المتكلم، كما يفعل صبحي الزبيدي في فيلم "عبور قلنديا"، الذي ينسب نفسه إسماً ملحمياً، فالعبور الى أي شيء تفخيم لجسرين قريبين من ذلك المجاز الذي نبتغيه، ولكن مع بداية العبور نكتشف اننا قريبون جداً من ضمير المتكلم بإحالة السرد من دون يقين على تلك النقطة الساخنة الانتفاضة، فالمخرج الذي لا يجد ما يفعله في حمأة "العبور النفساني" سوى شراء كاميرا رقمية خفيفة بوسعها أن تقفز فوق كل شيء من دون نيل مغفرة المشاهد الذي احتل من مقعده مكان المؤلف وذلك بالرقص والاهتزاز والتلوي والتبئير والدوران حول الأحداث المستعادة من شرائط وأزمنة غابرة أخرى تبتعد كثيراً من الحاضر الأزلي أو تفارقه بإطلاق تسمية يوميات فيديو، وكأن هذا ما ينقص السينما الفلسطينية لتصبح جديدة... وهي تبحث لها عن مكان بين سينمات مركونة الى الخلاء الطوعي، فإذا كانت هذه اليوميات هي من ترسم مجازاً حاضرنا الفيلمي، فبالإمكان الاستغناء عنها، والالتفات من موقع المؤلف - المشاهد إن شئنا الى أفلام وريبورتاجات لا تبخل في بثها المحطات الفضائية شرط التنازل العلني عن ملحمية النقطة الساخنة التي يومئ فيها الاسم الرنان الى هذا اليوم أو ذاك. يقودنا العبور الى أمسية جنين، التي عرضت فيها أربعة أفلام عن حصار مخيم جنين محمد البكري - إياد الداود - فراس عبدالرحمن - ونزار حسن. يكاد يتحول العبور الى هذه الأمسية الى كشف عن المأزق الذي وصلت اليه السينما الفلسطينية الجديدة، ولا ندري ان كان الرواة هم السبب، لكننا نقف على أفلام تكاد تكون فيلماً واحداً ينبغي توليفه من جديد، فما تراه العين للمرة الأولى يكاد يكون بمثابة إعادة وصل لما هو مقطّع في الأساس. هكذا تجيء الأحداث متشابهة، والشخصيات نفسها. المكان واحد، والزمان واحد... صحيح... لكنها متشابهة ليست بفعلهما، بل لأنها تفتقد رؤية كل ما هو مشع في الصورة الرقمية، فنحن لسنا هنا أمام مركبات أفلام أصيلة. إننا أمام استعادة رتيبة وغير أيقونية لحدث ضخم، فباستثناء فيلم "اجتياح" لنزار حسن الذي يمسك بالرؤية من خلال وضع جندي إسرائيلي كان يقود جرافة أثناء حصار المخيم أمام ضميره المستحلب على شاشة داخل شاشة وربما عكّر نزار حسن هذه الرؤية بظهوره بصفته الضمير في الفيلم ينحني الجندي على ضميره ويفحصه. من يفحص هنا ضمير ميت، فيفسد "اجتياح" المشاهد في مقعده. ومع ذلك فإن هذا الفيلم يكاد يفلت وحده من مأزق أمسية جنين التي عانت تراخياً فيديوياً وترنحاً في سير الأشكال والأحداث، وهي تتكرر في استعادة أحداث وقعت في نيسان ابريل أقسى الشهور. الرؤية في "اجتياح" كانت تنبثق من متاهة كائن بشري أمام طقس غائب، فهي بمثابة وصل للعقل الرائي المتفحص مع شطحات استثنائية تجلت بمعاينة ذلك الضمير، لذلك الجندي الإسرائيلي الذي لم يكن موجوداً إلا في خيال هذا الشهر القاسي والمؤرق والذي أبان نزار حسن صورته جيداً، ولكنه عكّر من شيفرته ظهور نزار حسن نفسه كما أسلفنا في الفيلم، ولكن هذا ليس بمأخذ، فمن حين الى حين ينبغي ربما على المؤلف ملء طلبات استعادة الملحمة الغائبة، والتي غابت عن أفلامها باستعادة الحدث نفسه من الشرفة ذاتها من دون الانحناء على فحص الضحية أو الجلاد حتى بطريقة الترنح الى الأمام، وهذا أمر مربك للغاية لا يتيح لنا معاينة ما هو معروض أمامنا، ذلك أنه مكشوف على الملأ، وما من أداة لتبئيره في الصحن البصري بغية كشفه، فهو واضح ومتردد ومستعاد. المخرج رشيد مشهراوي في أفلامه الثلاثة المشاركة في المهرجان، يحيلنا الى الفرضية الأزلية الآتية: فإذا كانت إسرائيل في تلاعبها بالوقت الفلسطيني تقتل السينما، كما تقتل الرجال والأطفال، كما يظهر لنا في فيلمه "تذكرة الى القدس"، فإن فيلميه القصيرين "شهرزاد" و"حمص العيد" يجيئان مقتولين وهما يطلان علينا على هامش هذا التعليب المضمون الذي يقرره مشهراوي بتحميلنا فرضية ان السينما هي هذا الالتواء المغاير في الأداء والوظيفة السردية، فيجيء "حمص العيد" ليؤدي دور من يتأمل في هذا الوقت المقتول ذلك الماء الساكن وهو يبدو له جارياً، فبدلاً من ملحمية تلك الأيام التي تسهم في تعداد نبضات القلب في المنفى بغية اعادة توزيعها على ساكنيه، يجيء ملل المؤلف من الزمن الميت بصفته خاصية بالفيلم نفسه، فلا شهرزاد التي يقصدها مشهراوي تسعف الحاضر الأزلي ولا حمص العيد يجيء في مقدمة الكادر ليفصح عما هو في خلفيته من أحداث يتناوبها ويناوشنا بها التلفزيون المنبثق من تلفزيون آخر الفتاة التي لا تصلها أخبار أهلها من فلسطين تدق الحمص فيما يظهر لنا زعماء الدول الثمانية الكبار وراء المدقّة. ما من منظور مفتوح أمام هذه التزجية أو الحيلة البصرية، لأن الانبثاق معطل وهو يدور في فضاء ميت ومقتول... أو قل في أحسن الأحوال مغلق، لأن العزلة لا تحمل إفك العيد الذي تحلم به الفتاة الفلسطينية في منفاها الرمزي، حتى يكاد يشي هذا المنفى بعطلة المخرج الإجبارية عن العمل، فيتسلى بين أفلامه الطويلة بحكايا شهرزاد التي تجيء في رمزيتها ممتعة للمؤلف نفسه، ذلك ان المشاهد قطع رأسه على عجل بأمر من شهريار الذي لا تستدعيه الصورة إلا بتظهير الماضي الحداثوي المستعاد، وهذه معزوفة تستمر على مدى 12 دقيقة من كل ألف ليلة وليلة. شرارة الإلهام لكن، من المفاجآت التي طلع بها المهرجان أفلام عدة "ما زال كعك على الرصيف" لإسماعيل الهباش - "الشاطر حسن" لمحمود مسعد - "يوميات عاهر" لتوفيق أبو وائل - "خمسمئة دونم على سطح القمر" لراشيل لياجاونس - "جيرمي هاردي ضد الجيش الاسرائيلي" لليلى سانسور - "بلاد بلانش" لماريز غرغور - "قطاع غزة" لجيمس لونغلي، وهذا الأخير يستحق احتفاء من نوع خاص، فلونغلي يشتغل على صورة توثيقية متأملة، إنه لا يخون المبدأ الأول في هذا النوع، ونقصد شرارة الإلهام، فهي تكشف بانقداحها كل ما يقبع وراء الشخصيات، وهي تطل من شبابيكها على الفكرة والشخصية الملهمة من دون العزف على ميلودرامية الأيام الفلسطينية الضائعة كما بدت لنا في أفلام "ردم" لعبدالسلام شحادة - و"حيفاوي" لدرويش أبو الريش - و"دمعة السلام" لجورج مصالحة. يقف لونغلي على امتاع سردي وبصري حجته طفل فلسطيني يتفرد بالوقوف أمام كاميرا الأيام الملحمية، وهي أشبه بسيزيفية دائرية متصاعدة لا تخفف منها سوى تلك البراءة الاحتفالية برؤية ملائكة تتصدى لشارون، وهي البراءة ذاتها التي تجلل جنازات الشهداء، لا كتلك التي تعودنا عليها في نشرات الأخبار المصورة. هنا تتوحد الرؤية على أساس تدفق في الحاضر الأزلي ينقب ويتأمل ويدور من حول النجم - الطفل، وهذه هي البرهة السينمائية الخالدة التي يخترقها هذا الحدث الكوني بصفته آخر الاستعارات الانسانية التي بتنا نفتقر اليها في أفلامنا نحن، فما من اقتناص لهذه الخثرة إلا وتطالعنا به نشرة أخبار في زمن أخبار مطول ولاهث وقابض على الصورة بصفتها كتلة معلوماتية لا تقدر إلا بثمن، فيما البرهة معوجة وفاقدة في تشكلها. يجيء فيلم لونغلي ليكشف عن ضيق بالمكان الفلسطيني وهو يعج بأفلام صنّاعه، ولا ينفتح على آخره كما يفترض بالسينما أن تفعل، وبهذا ينغلق على أفلام اخبارية لا تكتشف الأسوار، فلا نجد ذلك الطيف الذهبي الذي نفترضه في السينما الجديدة. وكان المهرجان افتتح بفيلم كرتوني لأحمد حبش "إياب" يكشف في سبع دقائق عن عودة مأمولة لطائر غريد الى أصل الخراب لا ماهيته. فبعد معاينة لسقف البيت الذي طار يكشف عن إطار صورة مكسورة، وكذا الحال بالنسبة الى السرير الذي يظهر في مخيلته بصفته سريراً، فينشئ عن دب صغير لا رفيق له... وعندما تفترض تلك المخيلة أن أرجوحة ما تنتظر صاحبها تظهر عتلة قنبلة مكتوب عليها: Made in USA. تضيع مخيلة الطائر دفعة واحدة، ويصبح بلا مخيلة أو قداس على روحه. إنه إياب مفتعل معقود على نقيض الإبانة التي نفترضها في جدّة الأفلام وربما كانت هنا تقبع مشكلة معظم الأفلام التي تابعناها على مدى اسبوع في بيروت التي ساهمت دائماً في إعادة تركيب مخيلة الفلسطيني كلما مرّ من هناك.