رواية "الرجل الذي لا خصال له" - التي صدر الجزء الأول من ترجمتها العربية حديثاً عن دار الجمل - هي "رواية القرن العشرين" بحسب ما أظهر استطلاع للرأي أجرته دار الأدب في ميونيخ ودرا نشر برتلسمان الألمانية مطلع عام 1999. يومها أجمع النقاد والباحثون في الأدب الألماني على اختيار رواية الأديب النمسوي روبرت موزيل 1880-1942 لتتربع على رأس قائمة "كلاسيكيات الأدب الألماني اللغة في القرن العشرين"، قبل رواية "المحاكمة" لكافكا التشيكي الأصل التي حلت ثانية، بينما جاءت رواية الألماني توماس مان "الجبل السحري" في المركز الثالث. هنا قراءة في الترجمة العربية لرواية "الرجل الذي لاخصال له". كلفت رواية "الرجل الذي لا خصال له" مؤلفها الكثير، وربما كلفته في النهاية حياته. خامرت فكرة "الرجل الذي لا خصال له" ذهن موزيل منذ مطلع القرن العشرين أثناء دراسته الجامعية، إلا أنه - بدقته الرهيبة في العمل التي تصل إلى حد الهوس - لم يجد الشكل المقبول لها إلا بعد زهاء عشرين عاماً. وكمثل بطل روايته حاول روبرت موزيل ثلاث مرات أن يستقر في مهنة يتصورها مبتغاه، ولكن من دون جدوى. عمل أولاً ضابطاً في الجيش، ثم أستاذاً مساعداً في جامعة شتوتغارت بعد أن درس الهندسة، وأخيراً باحثاً أكاديمياً بعدما حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة وعلم النفس. إلا أنه في كل مرة كان يهجر مهنته بحثاً عن شيء آخر لا يعلم كنهه. وفي نهاية المطاف تفرغ للكتابة الأدبية علَّه يجد ما يبحث عنه. حقق موزيل شهرة كبيرة بعد صدور أولى رواياته "اضطرابات الربيب تورلس" 1906، إلا أن أعماله اللاحقة لم تلق النجاح نفسه الذي لن يصيبه مرة أخرى إلا عام 1931 عندما نشر الجزء الأول من "الرجل الذي لا خصال له". احتفى النقاد الألمان بهذه السيرة الروائية فور صدورها، ووضعوها على ذروة سامقة متفردة كرواية تؤسس للحداثة في الأدب الألماني إلى جانب أعمال كافكا وهيرمان بروخ. واعتبرها الأديب توماس مان رواية "استثنائية" بين الروايات الألمانية. لكن النجاح الكبير الذي أصابته الرواية لم ينقذ مؤلفها من ضائقته المالية، على رغم الأقساط المنتظمة التي كان ناشره إرنست روفولت يدفعها له مُقدماً كمكافأة نشر الرواية الجديدة. وطوال ثماني سنوات ظل الناشر يلتزم مالياً، والكاتب لا يكتب. وفي عام 1933 نفد صبر روفولت فقطع أقساطه. ووجد موزيل نفسه على حافة الإفلاس والتسول، فتشبث بعمل حياته، وأصدر في العام نفسه الجزء الثاني من "الرجل الذي لا خصال له". شهد عام 1933 أيضاً صعود النازية وتولي هتلر السلطة في برلين التي كان يعيش فيها موزيل، فقرر على الفور العودة إلى موطنه النمسا. وسرعان ما أسدل النسيان ستائره على الأديب النابغة، ما دفعه إلى جمع مقالات عدة وقصص قصيرة وأصدرها تحت العنوان الساخر: "ميراث أثناء الحياة" 1936. بعد عامين تختفي أعمال موزيل من مكتبات النمسا وألمانيا ويُمنع من النشر، فيحيا في عزلة مريرة وفقر مدقع. وعندما "يضم" هتلر النمسا إلى الرايخ الثالث، يقرر موزيل الهرب إلى سويسرا حيث توافيه المنية عام 1942وهو في غمرة الإعداد للجزء الأخير من روايته الذي سيصدر بعد وفاته. "الرجل الذي لا خصال له" يُدعى أولريش، وهو في بداية الرواية - آب أغسطس 1913، أي عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى - في الثالثة والثلاثين من عمره. يشعر أولريش أنه "ولد ومعه رغبة في أن يكون رجلاً عظيماً"، لكن مشكلته "هي أنه ما كان يعرف كيف يصبح واحداً من العظماء" ص 43 من الترجمة. بعد محاولات فاشلة في العمل ضابطاً ومهندساً يقرر أن يأخذ إجازة مدة عام من حياته، ليتأمل في أحوال الدنيا والخلق، ويبحث عن الطريق إلى العظمة. يدرك أولريش أن الخطأ في مكان ما، إلا أنه يعجز عن تحديده. الحقيقة تراوغه. يشعر بالقيم العتيقة تنحل، والثوابت تصبح موضعاً للشك والمساءلة. إنه عصر التحولات والتغيرات. عصر يقف على الحافة. الجديد لم يبدأ بعد، والقديم ما زال يبسط سيطرته على عقول الناس: "إننا نعيش في زمن عبور. وهو زمن قد يطول حتى نهاية الكوكب" ص 279. يكتشف أولريش أنه غير قادر على اتخاذ موقف يخصه، فيكتفي بدور المشاهد السلبي الذي يجلس في مقهى الحياة ويستغرق في التأمل، من دون أن يكون له موقف أو سمات: "إنه يتردد في أن يصنع من نفسه شيئاً ما، فالشخصية، المهنة، نمط الوجود الثابت، كل هذه في نظره تصورات ينعكس فيها الهيكل العظمي الذي يفترض أن يكون كل ما تبقى له في النهاية. يسعى ليفهم نفسه بطريقة أخرى" وبميله إلى كل ما يغنيه داخلياً، وإن كان ممنوعاً أخلاقياً أو ثقافياً، يشعر بنفسه مثل خطوة حرة تقوده نحو كل الجهات، من توازن إلى آخر ودائماً إلى الأمام" 324. يبدو أولريش بلا سمات أو خصال لأنه يعجز عن الافادة الإيجابية من امكاناته المتنوعة على أرض الواقع، لذا يبحث عن "الممكن" بدلاً من "الواقع". الشعور بالتيه والعجز أمام إمكانات الحاضر المتعددة هو ما يسم أيضاً بطلة الرواية ديوتيما، التي اتضح لها "أنها تعيش في زمن عظيم، ما دام الزمن عامراً بالأفكار العظيمة، ولكن لا يمكن المرء أن يصدق كم كان صعباً تحقيق الأعظم والأهم منها. كانت كل الشروط متوافرة ما خلا شرطاً واحداً: معرفة أي منها هي الأعظم والأهم! ففي كل مرة تكون فيها ديوتيما على وشك أن تنحاز إلى فكرة مثل هذه كان عليها أن تلاحظ أنه سيكون شيئاً عظيماً أيضاً ان تحقق العكس من ذلك" ص 296. ويعتبر أرنهايم الشخصية المضادة لأولريش في الرواية وهو بورتريه للسياسي والكاتب الألماني فالتر راتناو المعاصر لموزيل. أرنهايم يعتقد أنه وصل إلى ما يبحث عنه أولريش: إلى الأخلاق الجديدة الملائمة للعصر الجديد، إلى التوازن بين الروح والعقل، وهو توازن ينتقده أولريش باعتباره محاولة للتوفيق بين "سعر الفحم والروح" ص365، على حد تعبيره. وإذا كان أولريش غارقاً في التأمل والفكر، فإن أرنهايم يرمز إلى الإنسان في العصر الصناعي الذي يؤمن بقوة الفعل - لا الفكر - في مناحي الحياة كافة. أسباب عدة جعلت من هذه الرواية عملاً "عملاقاً" في دنيا الأدب، يحترمه المرء ويخشى الاقتراب منه. مثلاً حجم الرواية الضخم الذي جاوز الألف صفحة في الطبعة الألمانية الصادرة بعد وفاة موزيل، وموضوعها الذي يتطرق إلى مجالات عدة، كالفلسفة والتصوف وعلم النفس ونقد العصر وفكرة حتمية التقدم ما يمثل صعوبة خاصة في الترجمة. تبدو الرواية للوهلة الأولى معقدة بسبب فصولها الأشبه بالمقالات والتي يبدو فيها أثر نيتشه - الذي جمع في مقالاته بين التحليل الفلسفي والأسلوب الأدبي الناصع - واضحاً جلياً. يمزج موزيل أيضاً في هذه الفصول بين أفكاره ونظريات أو آراء نيتشه وفرويد وشبنغلر وإرنست ماخ. كثيراً ما يقطع موزيل الخيط الروائي لإفساح المجال أمام التأملات والهواجس والظنون التي تخامر رؤوس شخصياته، إذ أنه كان يعتقد أن هذه التقنية هي المثلى لمضمون روايته وربما لذلك ظل هذا "النص المفتوح" مخطوطة. إن العصر القلق - كما يرى موزيل - لا يمكن تصويره من خلال حكاية تقليدية لها بداية واضحة ونهاية. هذا النوع من "القص البدائي" لم يعد يتلاءم مع الحياة الحديثة المضطربة التي غدت "عصية على القص". كتابة الرواية بالنسبة الى موزيل أشبه بعملية نسج لخيوط لا نهاية لها، والنتيجة ليست واضحة منذ البدء. الرواية لدى موزيل جدارية ضخمة مفعمة بالتفاصيل الدقيقة، إلا أنها لا تبوح بكل ما فيها لدى النظر إليها للمرة الأولى. لكن، وعلى رغم كل التعقيد في تخطيط الرواية فإن "الرجل الذي لا خصال له" أبعد ما تكون عن الرواية الذهنية المعقدة التي تدور حول أفكار مجردة، بل هي رواية مغرية للقارئ. نعم، النَفَس السردي طويل، لكنه لا يرهق القارئ ولا يضجره. لعل ذلك يعود إلى ما يتسم به أسلوب موزيل من سلاسة وسخرية هادئة، وإلى أن الحكاية - الإطار تجمع شتات "الأفكار العظيمة" المنبثة في ثنايا الرواية، وهي حكاية تستند إلى وقائع تاريخية أجرت في النمسا. إلا أن موزيل لا يستغرق في وصف تفاصيلها المحلية، مما يسهل الأمر على القارئ أياً كان موطنه. يضيق والد أولريش بخواء حياة ابنه وهامشيتها، ويحثه على أن يوطد صلاته بالطبقة الراقية في "كاكانيا"، وهي التسمية التي يطلقها موزيل على إمبراطورية النمسا والمجر التي كان يُرمز إليها بالحرفين k&k، اللذين يختصران "الإمبراطورية والملكية". كانت الطبقة الراقية في فيينا مشغولة آنذاك بأخبار الاحتفال الذي ينظمه الألمان لقيصرهم فيلهلم الثاني بمناسبة العيد الثلاثيني لجلوسه على العرش. ألا تستحق كاكانيا احتفالاً مشابهاً؟ تتساءل نخبة المجتمع الفيينوي، أما المناسبة فهي مرور سبعين عاماً على اعتلاء قيصر كاكانيا عرش البلاد المقصود فرانتس يوزف الأول، قيصر النمسا وملك المجر. لا بد من منافسة الدولة الجارة وإقامة "احتفال مواز"، هذا ما تقرره النخبة. يتم تأسيس لجنة لإعداد الاحتفال تضم ألمع رجال الثقافة والجيش والصناعة، تجتمع في صالون السيدة ديوتيما لمناقشة خير السبل للاحتفال بيوبيل القيصر. يتم اختيار أولريش أميناً عاماً للجنة التي لم يكن لديها أدنى تصور عن شكل الاحتفال. لم تتمخض الاجتماعات عن شيء، إذ أنها استهلكت نفسها في مآدب عشاء طغى عليها الكلام الأجوف والمؤامرات والمغامرات العاطفية. ومع ذلك يشعر أعضاء اللجنة بالرهبة لعظم المهمة الملقاة على عاتقهم. عبر فصول عدة يصف موزيل التحضيرات التي تقوم بها الطبقة الراقية للاحتفال الموازي، ويبرهن خلالها على عبقريته في النقد والتحليل الساخر لعصر يقف على شفا الانهيار. موزيل بالعربية من المعروف عن روبرت موزيل أنه كان يعيد صوغ بعض فصول روايته مرات عدة تصل أحياناً إلى العشرين، قبل أن يصل إلى صيغة لغوية وأسلوبية يرضى عنها بعض الرضى! هذا الهوس بالكمال كان أحياناً يضيق الخناق على موزيل، فيشعر بعجزه عن أن يسطر حرفاً واحداً، ما دفعه إلى التردد على أحد الأطباء النفسيين. لا شك في أن هذا الأسلوب المصقول يمثل امتحاناً عسيراً وتحدياً كبيراً لمن يتصدى لترجمته إلى أي لغة أخرى، فكيف كانت الترجمة العربية؟ لا شك في أن الشاعر والروائي العراقي فاضل العزاوي بذل جهداً فائقاً في هذه الترجمة التي جاءت في مجملها جيدة ورصينة، مُبدعة في أجزاء منها، أمينة، تخلو من الأخطاء النحوية والصرفية، وإن لم تخل من الأخطاء المطبعية وأخطاء الهمزات التي لم تجلس في مكانها الصحيح في كثير من الأحيان. لعل القارئ العربي يفتقد مقدمة تقرب إليه مثل هذا العمل الصعب وتشرح خلفياته التاريخية، وهو أمر ربما يستدركه العزاوي في ترجمته للجزء الثاني الذي سيصدر نهاية هذا العام. ولا تخلو الترجمة من هنات وأخطاء وركاكة أحياناً تنجم عن محاكاة صريحة لبنية الجملة الألمانية أو عن حرفية في الترجمة. تبدو هذه الحرفية إشكالية خصوصاً لدى ترجمة التعابير الاصطلاحية. مثلاً: عندما يقرأ المرء "صديقة النهود" ص 122 فقد تذهب به الظنون كل مذهب، لكنه لن يهتدي إلى أن المقصود هنا هي الصديقة الحميمة المقربة إلى القلب! كذلك إذا قرأ المرء "سمعوا عشب التاريخ ينمو أمامهم" ص 249 فلن يفهم أحد - على ما أعتقد - أن المقصود هو الإلمام بكل ما يحدث، أو أن المرء لا تخفى عليه خافية، أو - كما يُقال - أن يسمع المرء دبيب النمل. ما يلفت النظر في هذه الترجمة أيضاً هو الإفراط في استخدام فعل الملكية انطلاقاً من الأصل الألماني. المرء لدى العزاوي يملك الصديق والأب بدلاً من أن يكون لديه، ويمتلك الخصال بدلاً من أن يتسم بها والفرصة بمعنى تسنح له أو تواتيه، واللغة بمعنى إجادتها، بل وحتى البيرة في المنزل، والمكابدات الروحية! أيضاً يلتزم العزاوي بالترجمة الحرفية لكلمة "حقيقة" التي ترد كثيراً في التعابير الألمانية ولا تتطلب ترجمة" إنه يقول مثلاً: "حقيقة أنه لم يفلح" ص 442، والمقصود: لأنه لم يفلح. وكذلك يتساءل المرء لماذا يترجم العزاوي الثالوث الشهير "الحق والخير والجمال" على نحو آخر، بقوله: "الحقيقة والطيبة والجمال" ص 52؟ وينحو العزاوي أحياناً - قليلة لحسن الحظ - إلى استخدام ألفاظ مهجورة متقعرة، لا تتناسب مع لغة موزيل السلسة، فنجده يفضل استخدام كلمة "نفاجة بورجوازية" ص 432 بدلاً من القول مثلاً: "نفخة بورجوازية كذابة". وعلى هذا المنوال نراه يستخدم كلمات مثل "الصعفوق والصعفقة" ص 64، بينما المقصود هو الهاوي غير المتخصص و"القنزعة" 86، والمقصود في الأصل البابيون. ربما كان يعوز المترجم الوقت لإعادة لنظر في هذه الترجمة الضخمة المرهقة. أو ربما كان يجدر بالناشر أن يعهد بالترجمة إلى مراجع يلتفت إلى ما فات على المترجم في غمرة عمله المضني الذي استغرق ثلاثة أعوام. لكن الأكيد أن هنات الترجمة - الموزعة على طول 450 صفحة - لن تعوق القارئ العربي عن الاستمتاع بهذا العمل الفلسفي المهم الذي لم يفقد راهنيته بعد.