إذا كان لا بد من حصر نتاج موزيل الأدبي في عبارة واحدة شديدة التعميم، فيمكن القول ان هذا النتاج يفصح عن قدر كبير من الدقة التعبيرية المشفوعة بالتأمل والصبر والمعاناة الجمالية، ويتمتع بروح الانضباط في اعطاء التفسيرات والتبريرات واطلاق الاحكام. وقد ينطوي هذا التعريف المقتضب على بعض الفائدة في ما يتعلق بقراءة هذا النمط من الأدب التجريبي العصيّ على التبويب. ولكي تتخذ العبارات النثرية المستحدثة شكلها النهائي، فان موزيل كان يحوّر فيها ويعيد صياغتها او يأتي بما يتناقض ومعناها الأساسي، على اعتبار ان كل قاعدة فنية بحتة يمكن ان تُنسف ببساطة بما ينفي او يلغي هذه القاعدة، وعلى اعتبار ان الحقيقة نفسها، كما يراها موزيل، ما هي الا المسيرة الشاقة والمعقدة التي تمر عبر محطات الاخطاء، فكان يقدم احياناً على اعادة كتابة فقرات طويلة او حتى فصول منتهية اكثر من عشرين مرة! ولعلّ روايته الضخمة، غير المكتملة "الرجل بلا ملامح"، والتي تحولت الى مجازفة حياتية خطيرة، وجدت نهايتها في وفاة الكاتب نفسه، خير دليل على اعتنائه بتشذيب وتهذيب صياغاته واستنباط تراكيب ومعان جديدة لوصف حركات النفس وصفاً داخلياً استبطانياً، اتخذ في ما بعد مصطلح الأدب التعبيري، اي الكتابة من الداخل، على نقيض ما اصطلح عليه بالانطباعية التي تلتقط الظواهر الفوقية السريعة او الكامنة في صفحة الواقع بحساسية فنية عالية وبصيرة مرهفة. ويعمد المذهب التعبيري الى مخاطبة الحواس، او بالاحرى مخاطبة مملكة الحواس، مخاطبة عقلية ونفسية، ومناقشة اشكالاتها وتداخلاتها بالعالم الخارجي، والتعرض الى مسائلها المباحة والمحرمة. ويعتني ايضاً باستخدام اسلوب التشريح من دون اجراء عمليات التخدير اللازمة، اعتماداً على التحليل النفسي الفرويدي - النيتشوي، بغية اضاءة اعماق الانسان بموضوعية جدلية ملتزمة بدلالات الزمان والمكان. بيد ان اهمّ ما يميز عمل موزيل هو ترابط الوقائع وانتظامها في تيار موحد يسير بتأن، وأحياناً بتدفق حسبما تقتضي حالة الابطال النفسية وانثيال الصور والافكار، وقد اصطلح على هذا النمط من الكتابة بمصطلح مأخوذ من الميكانيك والبصريات هو "الدقة البؤرية". تعرضّ موزيل منذ كتاباته الأولى الى موضوعات العزلة والاغتراب والحزن والقطيعة عن المجتمع، وذلك بالاستناد الى دراسة معالم المدينة الأوروبية الحديثة وتحليل امراضها المزمنة من وجهة نظر مدنية وليبرالية موضوعية، اضافة الى تناوله الموضوعات اللازمنية مثل الحب والموت والمقاومة والخيانة والاندحار. ويعتبر موزيل الى جانب نخبة من الكتّاب الألمان من امثال توماس مان وبرتولد برشت وغيرهارد هاوبتمان وفرانتس كافكا وراينر ماريا ريلكه، ممن يحسب لهم وضع ملامح او أسس مدارس ادبية جديدة، من ابرز مؤسسي "مذهب النثر التعبيري"، اي اعتماد اسلوب التصوير الهادئ والبطيء للانفعالات والمشاعر، وتعميق ما يبدو عابراً وعادياً بغية تحقيق دهشة الاكتشاف او الصدمة المباشرة التي تأتي بها ضربة مباغتة، وكذلك الاعتناء بايقاع الكلمات وموسيقاها والخلط بين المادي والحسي والوجداني بما يسمى بالمزاوجة الحسية - المادية اللاعقلانية مثل: "كان حزنهم حزناً ما قبل ربيعي"، او "كان بلداً تعبه تعب البحر الطاووسي الزرقة"، او "لقد تحركت عربة حمير الافكار"، او "مثلما تطرد الاشباح الأيام الصبيانية العري"... فضلاً عن استخدام الظلال الداخلية والايماءات والاقتصاد في السرد الى حد بتر الكلمات والإحجام عن الشرح والتفسير والاستطراد وما الى ذلك من خواص هذا المذهب. ولد روبرت فون موزيل في العام 1880 بمدينة كلاغنفورت النمساوية، وبدأ تعليمه في مدرسة داخلية ثم انتقل منها الى الكلية التي كان والده يدرّس فيها الهندسة الميكانيكية، حيث تخرّج روبرت موزيل مهندساً. لكنه بعد ان بدأ يظهر اهتماماً بالكتابة رفض مهنة التدريس وتفرّغ للأدب. انتقل بعد ذلك الى برلين، العاصمة السياسية والفكرية لألمانيا آنذاك، ودرس في جامعتها الرياضيات وعلم النفس التجريبي والفلسفة، وبالأخص المنطق على يد كارل شتومف، ونال في العام 1908 الدكتوراه على اطروحته عن الفيلسوف النمساوي ارنست ماخ. ومع ذلك، فانه رفض من جديد العروض التي تقدمت بها جامعتا غراس وميونيخ للعمل في التدريس، والتحق بالجيش النمساوي بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وأصبح مسؤولاً عن مكتب التربية والتوجيه العسكري. وعقب انتهاء الحرب قدم الى برلين مرة اخرى ليمارس مهنة الصحافة، الا انه آثر العودة الى فيينا بعد فترة صغيرة، ليشتغل هناك في مجال النقد المسرحي. وبعد انضمام النمسا الى الرايخ الألماني الثالث غادر بلده واختار جنيف منفى له حتى وفاته في العام 1942. نشر موزيل عدداً من الأعمال الادبية، من اهمها: "اضطرابات المتدرب تورلس" رواية 1906، "توحدات" روايتان قصيرتان 1911، "المستهامون" مسرحية 1924، "ثلاث نساء" قصص 1924، الجزءان الأول والثاني من "الرجل بلا ملامح" رواية 1930 - 1932، وأصدرت زوجته بعد وفاته الجزء الثالث من الرواية في العام 1943. ومنذ روايته الأولى "اضطرابات تورلس"، التي حققت نجاحاً كبيراً فور نشرها، تمكن موزيل من اثارة الوسط الادبي في المانياوالنمسا. ويعود ذلك النجاح، الذي لم يرتح له موزيل، ليس الى اللمسات التعبيرية المبتكرة او الصياغات الجمالية والفنية غير المألوفة آنذاك والتي ربما لم يكن قد ادركها احد في حينه على النحو الصحيح، وكذلك ليس الى المعرفة الفلسفية والتربوية المبثوثة في ثنايا الرواية المعتمدة اسلوب الانتقال التطوري بالبطل من حالة سلبية لاواعية الى حالة متنورة، ذات افق متفتح عقلياً ونفسياً وبلاغياً، بل يعود بالدرجة الأولى الى خامة الرواية نفسها وروح المعالجة الشبابية التي غلبت عليها. كان هدف موزيل المعلن هو كتابة رواية تناقش مملكة الحواس من نواح متعددة، فجاءت الرواية من هذه الناحية حافلة بمشاهد الإثارة والقسوة والتعذيب الجسدي والنفسي والاحتجاج العنيف على قيم المجتمع البرجوازي القديم وأخلاقه وقيوده التي اخذت بالتفكك تحت ضربات الرأسمالية الصناعية الصاعدة بحدة في مطلع القرن الحالي. ويعتقد بعض الباحثين بأن هذه الرواية التي جسّدت روحاً متمردة ومفرطة الحساسية كانت متأثرة برواية غوته التطورية المعروفة "اعوام تدريب فيلهام مايستر" التي عالجت صيرورة فتى انتقل من حالة نكوص ذهنية الى مرحلة متقدمة من التفكير، بلغت ذروتها في اكتشاف فيلهلم للفن وشغفه بالشعر لدرجة اصبح معها غير قادر على التمييز بين الحياة اليومية والفن والحقيقة الموضوعية. وأدّى به هذا الخلط في الاخير الى الاحباط وخيبة الأمل، تماماً مثلما صار اليه حال المتدرب تورلس، بطل موزيل المبكر، الذي اقدم على حرق جميع محاولاته الشعرية في نوبة غضب ويأس. وربما كانت التلقائية المتعمدة التي كتب بها موزيل رواية "تورلس" سبباً مباشراً لنجاحها وشهرتها السريعة. على أية حال، اعترف موزيل نفسه بتلك التلقائية التي اخذ يكافحها في ما بعد وبكل اصرار كما لو انها داء وبيل. وأدى انشغاله المكثف بالأسلوب الجمالي والبحث عن الحالات المثلى المنتقاة باطنياً والجديرة بالتناول، وكذلك ابتعاده عن الحبكة ووحدة السرد والموضوع، الى نفور جمهور القرّاء من كتاباته والى فقدان موقعه وصيته باعتباره روائياً يتمتع باستقلالية فنية وأصالة اسلوبية. الا انه شعر بارتياح لذلك التطور، اذ ان نجاحه السريع شكّل له مصدر قلق وإزعاج، فكتب بهذا المعنى يقول: "على رغم انني لم اضع قيمة كبيرة للحبكة، لكنني مع ذلك كنت امنحها حقها كاملاً وعلى نحو غريزي. انني اخضع نفسي عادة الى رؤية ارتجالية - قد أثبت النجاح صحتها - رؤية تتعلق بالشيء الذي عليّ ان ارويه، فاكتفي مقتنعاً ببعض الافكار التي انثرها في متن العمل". اصبحت رواية "اضطرابات المتدرب تورلس" التي كان عنوانها يوحي الى حد ما بالطبع التربوي لها - اكتفت الرواية بتصوير ازمة البطل لكي تفتح امامه في آخر المطاف منفذاً للخلاص - بمثابة نقطة انطلاق لعمل موزيل الكبير الذي اصيب بعارض اللاانتهاء، حتى بعد ان بلغ حجمه اكثر من الف صفحة. اختبارات الاسلوب كتب موزيل بعد "تورلس" عدداً من الاعمال، ونشر مجموعتين قصصيتين هما "توحدات" ذات الطابع التجريبي الصرف والبناء المركّب البالغ التعقيد و"ثلاث نساء" التي ضمت ثلاث قصص طويلة ذات منحى يقترب كثيراً من الواقع والوضوح نوعاً ما، على النقيض من "توحدات" التي ضمت قصتين طويلتين ايضاً هما "اتمام الحب" و"اغراءات فيرونكا الهادئة". واعتبرت هاتان القصتان الولادة الحقيقية لمدرسة النثر التعبيري في المانيا، الا ان محللي الأدب آنذاك لم يدركوا هذا الاتجاه الغريب باعتباره تجربة جديدة في الكتابة، انما حسبوه انعكاساً شعرياً لمذهب التحليل النفسي الفرويدي. وعلى رغم امتداحهم الجرأة التحليلية النادرة التي حفلت بها القصتان، لكنهم سجّلوا ولادة التعبيرية باسم الكاتب الألماني كازيمير ادشمدت بعد صدور روايته القصيرة "المصبّات الستة" في العام 1915. واعتباراً من تاريخ صدور "توحدات" في العام 1911 بات موزيل لا يثير الاعجاب وحده، بل الريبة ايضاً وعدم الارتياح بسبب طغيان المنحى التعبيري على اسلوبه الرافض للتبويب والانتماء الى الاشكال التقليدية. وبعد ذلك حلّت فترة توقف شبه تام عن الكتابة الادبية، دامت عشرة اعوام، لم يكتب خلالها سوى مسرحية "المستهامون" التي جلبت له تهمة مفادها انه لا يجيد الكتابة للمسرح، وان هذه القطعة الدرامية تصلح للقراءة وليس للتمثيل، لا سيما بعدما عرضت على احد مسارح برلين، ملخصة ومن دون موافقة موزيل، ومنيت بفشل ذريع. لكنه اعاد المحاولة مرة اخرى، فألّف كوميديا جديدة بعنوان "فنسنس وصديقة الرجال المتنفذين" ليقلع بعدها عن الكتابة للمسرح نهائياً. لقد حقق غايته منها، واقتربت لغته اكثر فأكثر من الحقيقة التي آمن بها، وأصبحت مرهفة حادة، وفي غاية الدقة، مثلما اتضح ذلك في مجموعته القصصية "ثلاث نساء" كمحاولة اخيرة للتأكد من متانة الأسلوب وعمقه. الرجل بلا ملامح كان موزيل بحاجة الى تلك المقدمات والتمارين المتغايرة كلها لكي يتفرغ الى عمله الأساسي الاخير "الرجل بلا ملامح". وهناك من النقاد من ذهب الى القول ان موزيل ما كان ليكتب هذه الرواية الضخمة لو انه وقع على اسلوب فنّي وجمالي في اعماله الأولى يتناسب مع طموحاته. في البدء اعتمد موزيل اثناء كتابته الرواية على ملاحظاته ويومياته التي تردد فيها اسم فريدريك نيتشه كثيراً، واستطاع ان يجعل من افكار هذا الفيلسوف حقلاً واسعاً للتجارب، حتى انها اصبحت ذخيرة غنية، كان الكاتب يستل منها ما يشاء لينوّع عليه. وهناك عبارات واضحة في يومياته المبكرة تشير الى تأثره العميق بنيتشه، شأنه شأن الكثير من الكتّاب الألمان في ذلك العهد: "ان نيتشه يرينا جميع الطرق والدروب التي تسير عليها اذهاننا وعقولنا من دون ان يأخذ بأيدينا او يسير امامنا على واحد منها". وبالاضافة الى ذلك الفهم النيتشوي التزم الكاتب بمنطق غير مألوف يقول: "ان التفكير الفلسفي يبدأ أول الامر من لحظة الاندهاش، ولذلك فإن على اشخاص الرواية ان يتمتعوا دائماً بموهبة الاندهاش وما يترتب عليها من نوازع وتداعيات وانفعالات، لكي يتمتعوا على الأقل بقدر من الحيوية والفعالية". ان رواية "الرجل بلا ملامح" كانت مصممة منذ البداية باعتبارها عملاً ادبياً يعارض القيم والاخلاق الكاذبة والمفتعلة التي جاء بها العصر الحديث، عصر التمدن والرأسمالية الصناعية المنهمكة بمشاريع العمران والتقدم والهيمنة. ويضع الكثير من الاسئلة التي طرحها ذلك العصر موضع الشك والتساؤل، بغية الوصول الى نظام اجتماعي وأخلاقي خال من الزيف والخداع، الى نظام انساني متكافئ، لا تتجه اليه اصابع الاتهام والادانة. يدور أول محور للرواية بين ثلاث شخصيات، تمثل كل واحدة منها بؤرة فكرية مستقلة تتمتع بطاقة شبابية ونمط حياتي خاص، ثم تبتعد هذه الشخصيات عن المحور المركزي بالتدريج، وعلى نحو متساو، الا انها سرعان ما تجتمع من جديد وقد لحقت بها طوائف وفرق اجتماعية متباينة او متداخلة في بعضها، فتتحول الرواية في نهاية المطاف الى بانوراما عصر كامل، وتكشف لنا عن تطور مجتمع حديث بجميع طبقاته وأشكال وجوده ومبادئه ومأساته ومهزلته. ذكر موزيل في احدى المقابلات الصحافية 1926 انه انجز رواية تتناول الفترة الزمنية ما بين 1912 و1914، اي العام الذي بدأت عمليات التعبئة العامة للحرب على حد تعبيره، "عندما تمزّق العالم برمته ومعه الفكر، وأصبح من المستحيل ترقيعهما، وبذلك التمزّق تنتهي الرواية"، التي هي، حسب اعتقاده، ليست رواية تاريخية، اذ ان السرد الواقعي لأحداث واقعية لم يكن من صلب اهتمامه، انما تهتم برصد النمط او المعيار او الطابع النوعي للعالم، اي "الجانب الشبحيّ والمظلم من الاحداث". وكان الهدف الذي سعى اليه موزيل، حسبما ورد في تلك المقابلة، هو المساهمة في التغلب روحياً ونفسياً على مصاعب العالم، حتى لو تم ذلك عن طريق الرواية. يركّز الحدث الرئيسي للرواية على فترة زمنية قصيرة نسبياً من صيف 1913 الى عشية اندلاع الحرب في 1914، ويستعرص الاجواء السياسية والفكرية في العاصمة النمساوية فيينا التي جعلها الكاتب رمزاً لمجتمع انتقالي يعاني من التمزّق والأعراض المرضية المزمنة التي نخرت بنيته ودفعت به الى الانهيار التام، نتيجة للحرب التي دفنت مملكة الدانوب الكبرى تحت انقاضها الى الأبد. وعلى رغم ان عنوان الرواية "الرجل بلا ملامح" يوحي بالبساطة والألفة، الا انه يشكل بنظر بعض الدارسين خلاصة الرواية كلها. فهذه العبارة الشعرية غير المتكلفة هي المفتاح الحقيقي لفهم العمل، لأن موزيل نفسه طبّق هنا صفات الشيء وملامحه وانعكاساته الاجتماعية حسبما تقررها نظرية عالم الفيزياء والرياضيات أرنست ماخ الذي ينطلق في اطروحته "تحليل المشاعر وعلاقة المادة بالنفس" من فرضية تقول ان ليست هناك حقيقة مستقلة عن الوعي، وان ليس هناك وعي مستقل عن الحقيقة. ومن خلال التجانس والتفاعل بين الحسّي والمادي تنشأ الحقيقة التي توفر امكانية فهم العناصر الفيزياوية والروحية للعالم، كما ان هذه العناصر تنعكس في الجسم المادي بوصفها علامات جسدية، وتنعكس في النفس بوصفها مشاعر. كان هدف موزيل كما ذكر ذات مرة هو ان تتحول الرواية الى مادة حيّة تنبعث منها افكار وأخلاق جديدة، لأن الاخلاق البرجوازية القديمة قد استُهلكت وباتت عقيمة. والرواية من هذه الناحية هي محاولة لتفكيك عقدة مركبة وتفسيرها من اجل وضع "سياسة سليمة للتنظيم الروحي والعقلي" على حد قول موزيل، سياسة يمكن ان تعتبر الاجابة الوحيدة على اسئلة الحياة والموت. وقد صرّح ذات مرة: "اريد ان اقدم مساهمة ما بغية النهوض بهذا العالم روحياً وعقلياً. وسأكون شاكراً لجمهور القرّاء اذا ما صرفوا النظر عن نوعية الاسلوب الجمالية، وأظهروا تفهماً لارادتي، لأن الاسلوب بالنسبة اليّ هو اظهار الفكرة على نحو جلي". وكتب ايضاً في يومياته، مشيراً الى الدور الاجتماعي والسياسي للكاتب: "ان اكتب عملاً ادبياً واحداً خير لي من ان احكم الرايخ الألماني برمته، فضلاً عن ان الكتابة اصعب من ذلك بكثير". اعتقد موزيل عندما شرع بكتابة روايته الممتنعة عن الانتهاء بأنه سوف يعيش عشرين عاماً اخرى لكي ينجزها، اذ انه لم يكن قد فكّر في الموت بجدية حتى ذلك الوقت، على رغم تدهور صحته، فقبل وفاته بعام واحد دوّن في يومياته شيئاً عن مخاوفه الصحية: "غالباً ما تولد لديّ انطباع بأن قواي النفسية والروحية قد اصابها الضعف والفتور، لكن الاصح هو ان المعضلات الكبيرة المحيطة بي كانت تتجاوز طاقتي الجسدية على الدوام". والآن بات من الصعب التنبؤ بالزمن الذي كان سيحتاجه موزيل لاتمام روايته التي تحولت الى مجازفة حياتية، فقد عاجله الموت وهو منعزل معوز ومنسي في منفاه السويسري. "كان قد جلس صباحاً في بيته الكارتوني الصغير في احدى ضواحي جنيف يعيد النظر في مخطوطاته، بعد ان دوّن في دفتر صغير الساعة التاسعة وعشرين دقيقة، ومن ثم الساعة الحادية عشرة، موعد السيجارتين الأوليين من مجموع ثمان سمح له الطبيب بها يومياً، وفي وقت الظهيرة بالضبط انتابته جلطة دماغية". غير ان فصول المأساة لم تنته بموته، اذ اعقب ذلك صمت وتجاهل تامان الى ان نشرت "التايمز" اللندنية مقالة مثيرة عن موزيل اشادت بكتاباته واعتبرته من اهم الكتّاب الألمان في القرن العشرين، على رغم التجاهل والصمت المطبق حوله. كان الفصل الذي اشغال عليه في الساعات الاخيرة يحمل عنوان "انفاس يوم صيف"، لكنه رحل وترك على طاولة المنفى عملاً حياتياً كبيراً غير متكمل. ونشرت بعض الجرائد خبر وفاته على نحو مقتضب، اذ لم يعد يتذكره احد في المانيا النازية. كان موزيل كتب قبل خمسة عشر عاماً من وفاته ينعى الشاعر النمساوي ريلكه: "ان موت ريلكه لم يكن بنظر الناس حدثاً ذا شأن!" ويبدو ان الرثاء قد انطبق عليه شخصياً، اذ لم يشارك في تشييع جنازته في السابع عشر من نيسان ابريل 1942 سوى ثمانية اشخاص