في أوائل السبعينات وفي السنة الثانية من دراستي الجامعية، حضرت للمرة الأولى اجتماع جمعية النشاط الأدبي في الكلية، وكان الأعضاء يقرأون قصائدهم تباعاً، ولكنني اخترت أن أعتمد على ذاكرتي وأقرأ "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" لأمل دنقل، و"خلف كل قيصر يموت، قيصر جديد، فعلموه الانحناء، علموه الانحناء". الطلبة في ذلك الوقت هائجون متذمرون من الهزيمة وآثارها وحال اللاسلم واللاحرب، واليسار بينهم في وضعية المد والنشاط، والطالبة التي أخشى أن أحبها وتحاول أن تقنعني بعقيدتها الثورية، كانت تملأ شراييني وعروقي بنار تجعل دمائي تغلي. هذه الحال لا أنساها، ولا أنسى معها .0انني تعرفت بعدها الى الشاعر محمد خلاف، زميل دراستي، ولمحت في عينيه الملل والاستياء من محبة ذلك الشعر العابر، شعر التغني بالثورة والذي ليس في حقيقته ثورياً. كان قلب محمد خلاف منجذباً في شدة الى شعر آخر، شعر أعمق وأقل ضجيجاً. في السنوات التالية كانت الروابط التي ربطتني بسبارتاكوس وزرقاء اليمامة بدأت في الانحلال. وفي سنة 1980 وعقب مقتل يوسف السباعي، شارك أمل بقصيدة رثاء عمودية قرأها في المسرح القومي بحسب ما أذكر وكنا أيامها نصدر مطبوعاتنا عن جماعة "أصوات"، وكنا في صدد إصدار الكتاب الثاني وهو ديوان للشاعر محمد سليمان عنوانه "أعلن الفرح مولده". واتفقنا على أن نذيّل الديوان ببيان يفضح موقف أمل دنقل. وحددنا أفكار البيان، وكلّفني زملائي صوغه، فجاء تحت عنوان "شاعر لكل العصور". واكتشفنا في "أصوات" اننا على رغم اختلافنا المسموح به، متفقون في تقويمنا الفني لشعر أمل، باستثناء أحدنا، كان الشاعر محمد عيد إبراهيم هو الأكثر استياء ورفضاً، وكان أحمد طه يعتبر أمل دنقل آخر الشعراء الجاهليين، أما محمد سليمان فقد راوح وأثناء مراوحته تجلّى انه أقرب الى عدم الحفاوة والاعتبار. وأكثر ما كان يثير ضيقنا آنذاك، هو تلك المقالات التي يكتبها الشاعر حلمي سالم بضمير الجمع وكأنه يعبر عن جيل لا عن شخص. وحلمي متسامح وحنون وعاطفي وصاحب بيرق من بيارق تجميع الشمل. وكنا في "أصوات" ننجذب أكثر الى آليات التفريق، والمرات القليلة التي أتيحت لي بعد ذلك كي أجالس أمل دنقل في مقهى "ريش" في وسط القاهرة كانت أشبه بفيلم بطله ساديّ يمارس فنون ساديته على أحد الضحايا. وفي الوقت الذي بدأت تشيع قصائد المرض و"أوراق الغرفة رقم 8"، وتلفت نظرنا الى ينبوع جديد في رئة أمل، أصرّ الموت على أن يأخذ أمل الى الشاطئ الآخر، وألبسه ثوباً أبيض نظيفاً ورسم له صورة دائمة. مات أمل في الأربعين، والموت الذي يصيب الشباب يجعلهم فاتنين أبداً، أبو القاسم الشابي، التيجاني يوسف، بشير عبدالسلام عيون السود، عبدالباسط الصوفي، بدر شاكر السيّاب، الخ الخ، ولن نعلم إجابة للسؤال الطاغي، ماذا كانوا سيفعلون لو أن حياتهم امتدت وبلغوا الشيخوخة. كان عبدالرحمن الأبنودي جميلاً أيضاً في السن التي كان فيها أمل على قدر عال من الفتوة، هما رفيقان ولن نعلم هل كان أمل سيشبه عبدالرحمن الآن؟ الموت بأسراره وجبروته لا يسمح بالإجابة. وأميل الى القول ان يحيى حقي أكثر فتنة لأنه بلغ الشيخوخة وظل فاتناً. هذا هو الاختبار الأصوب، كذلك المازني وصلاح عبدالصبور وعبدالفتاح الجمل. الديوان الأول لأمل دنقل "مقتل القمر" ديوان شاعر مبتدئ جداً، مبتدئ بحق، قصائده أغلبها عمودية ومصفوفة على هيئة الشعر الجديد. هذا الديوان له أهمية الكشف عن صفة أساسية سترافق أمل حتى بلوغه النهاية، وهي صفة الشاعر الراوية، أحب هنا أن أمايز بين الشاعر الراوية والشاعر المثقف. أمل يستظهر الكثير من عيون الشعر العربي ومن قصائد الشعر الأحدث، وصولاً الى أحمد عبدالمعطي حجازي، شاعره المفضل الذي يسكن بقوة تحت جلده. الشاعر الراوية لا يجتهد طويلاً في سبيل تأسيس موقف متماسك من الشعر والعالم، موقف خاص وجديد، وهو غالباً يميل الى المحافظة، وبمراجعة حوارات أمل وندواته ومشاركاته الثقافية سنكتشف انه لم يكن صاحب معطى ثقافي متميز. في العدد الثاني من مجلة "الفكر المعاصر" مجلة مصرية غير رسمية التي كانت تصدر عن دار الفكر المعاصر يكتب أمل دنقل على هامش قصيدة "عرس المهدي" للشاعر حجازي، يكتب على سبيل التقديم، المقدمة ليست طويلة، إلا انني سأوردها كاملة لتدل على ما سبق وأوردته عن المعطى الثقافي لأمل، يقول: "أحمد عبدالمعطي حجازي، ليس في حاجة الى تقديم للقارئ العربي، وهذه القصيدة التي اخترناها من ديوانه الأخير "كائنات مملكة الليل" هي مرثية للكاتب والشاعر المغربي عمر بن جلون الذي كان رئيساً لاتحاد الكتّاب المغاربة، واغتيل عام 1978، ونحن لا نستطيع - أثناء قراءة القصيدة - أن نفرق بين حديث الشاعر عن الشهيد المغربي وحديثه عن نفسه. فالفرار بالوطن هو مأساة الاثنين والبحث عن حلم الفقراء المفقود هو جوهر القضية. ويستطيع ابن جلون ان يستريح من كل هذا الاحباط بالموت، عند ذلك يمكنه أن يعيش كما يعيش الآخرون - الميتون - وأن يلهو لهوهم وأن يستغرق في لذائذه اليومية. أما الشاعر فإنه ينتظر الحلم الذي كان ينتظره ابن جلون وهو المهدي، المهدي بن بركة أو المهدي المنتظر. والقصيدة تنويعات على بحر واحد، هو بحر المتدارك، يستخدمه الشاعر كاملاً في بداية الأمر. لكنه عندما ينتقل الى تذكرات عمر الخاصة فإنه يستخدمه مجنوناً فتتسارع إيقاعاته، ولا تتنافى هذه الإيقاعات شبه الراقصة مع التذكرات المؤلمة، لأن كل هذه التذكرات هي استعادة لحياة، والحياة على مرارتها أكثر بهجة من الموت. فالشاعر لا يجد الموت كراحة من النضال، فالموت الذي أراح ابن جلون هو راحة اجبارية في حقيقة الأمر. تبقى إشارتان: الأولى معروفة وهي تمكن حجازي من أسرار العربية وتبدو أوضح ما تبدو في لمحة لا تستوقف الانتباه. هي استخدامه لكلمة الجامع بدلاً من المسجد، لأن كل جامع مسجد وليس كل مسجد جامعاً، فالمجسد الجامع هو عاصمة مساجد المدينة، ففيه يجتمع المسلمون وتؤخذ البيعة ويدعى للجهاد، وهذا هو المعنى الذي أراده الشاعر من انتظار الشيخ على باب الجامع للمهدي لكي يفك الأسرى وينتصر على الروم، أما الإشارة الثانية فهي هذا الرعب الذي يسيطر على الشاعر في الآونة الأخيرة، والذي به - بقصد أو من دون قصد - في تصوير ابن جلون - أو نفسه على الأرجح - وقد صار غراباً بدلاً من أن يكون طائراً مغنياً يرثي القتلى ويودع كل صباح أصحاباً... في مقدمهم ابن جلون نفسه". انتهى كلام دنقل، لن ننتظر أمام تلك الشروح النثرية وملاحظات الفقهاء التي يعلمها طلاب اللغة الصغار، بعد ديوان "مقتل القمر"، لن تتوقف صفة الراوية عن الدأب والعمل في مجمل دواوينه الآتية: "العهد الآتي"، "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، "تعليق على ما حدث". وفي كل هذه الدواوين سيكون أمل أيضاً - وهي خصيصة ثانية فيه - شاعراً موضوعياً يختلف في ذلك عن الشاعرين صلاح عبدالصبور وأحمد حجازي. موضوعية أمل تتراجع وتشحب مع "أوراق الغرفة 8"، موضوعيته كان يمكن أن تكون باباً يُفضي الى التزود برؤية ثقافية بدلاً من الاكتفاء بدور الراوية المعجب والسلبي. والغريب أن صلاح عبدالصبور هو الذي سلك هذا الباب وعبره ذاهباً الى أماكن غير مأهولة أحياناً. لن نندهش إذا رأينا الراوية ينتبه كثيراً الى النصوص التي يحبها ويتشبع بها فتشيع بعض سطورها داخل شعره أو تقوم عليها قصائد بكاملها. نذكر معاً الجزء الثاني من قصيدة "ميتة عصرية" وما أثير حول علاقته بقصيدة الماغوط الشهيرة عن "بردى". ولا يمكن أن ننسى قصيدة "الأخضر بن يوسف" والتي ستظهر كخلفية ثقيلة عندما نقرأ قصيدة "وجه"، من "أوراق الغرفة 8". كان يسكن قلبي وأسكن غرفته، نتقاسم نصف السرير ونصف الرغيف ونصف اللفافة والكتب المستعارة. يكاد ديوانه "مقتل القمر" أن يكون استرجاعات محضة لشعراء آخرين، ولكنه الديوان الأول. الغريب ان شعر أمل في مجموعه يحفظ لنا كل سمات الشعر الشائعة في زمنه، وتغيراتها، من طرائق التعامل مع التراث، ومع الأساطير، ومع اللغة، وفي تقسيم القصيدة وترقيم أجزائها. ولكن الراوية الذي يختلف عن المثقف في كون معرفته غالباً ما تكون معرفة أفقية، هذا الراوية سيطاردنا ونحن نقرأ أشهر قصائده: "لا تصالح"، والتي يحملها بعض المناضلين في جيوبهم كتعويذة. إنها تتكون من 11 جزءاً أو فقرة. يكفي أن تختار فقرة ما وتعتبرها الفقرة الأساس، وستكتشف أن بقية الفقرات لا تضيف إليك معرفة جمالية أو فكرية جديدة. إنها تعيد انتاج ما سبق ان انتجته الفقرة الأساس. يمكننا أن نتخيل أن أمل فكّر في صناعة تراجيديا عربية على غرار "أنتيغون"، ولكنه اصطدم بقيم قبلية وآنية وفنية أوقفت ذلك الحس، وعاقته، مثل قيمة الأخذ بالثأر، والإلحاح على الإسقاط السياسي المباشر، وعدم تنامي المشهد ونموه. "اليمامة" كبرى بنات كليب رفضت الدية في ابنها واختصمت مع أمها لأنها أخت قاتل كليب. ولم تستطع القصيدة ان تفتح ثقوباً في سور الزمن الذي يحاصرها، لتطل على أزمنة أخرى. "لا تصالح" قصيدة أفقية مشابهة تماماً لمعارف الراوية التي تقوم على الاسِّ ذاته. نذكر جميعاً أن حركة الشعر الجديد خرجت في أولها من رحم الرومانسية، بدر السياب ونازك وبلند والبياتي وصلاح عبدالصبور في ما بعد، كانوا يلهثون داخل رحم الرومانسية، ولكنهم أحدثوا كسراً في الشكل، ومع الوقت أخذت رؤاهم في التمايز، لتتشكل عند السياب ونازك الملائكة دون سواهما من الرواد ملامح الكلاسيكية الجديدة. إنها ثورة محافظة، ثورة غريبة تعيد إحياء الماضي، ولكنها تقدم نفسها كثورة تقدمية، ارتداد يحوّل نفسه الى شكل من أشكال التقدم، وهي تجيد فعل ذلك، وتجيد أن تجعل كل من يعترض طريقها مرتداً منبوذاً. قوة الكلاسيكية الجديدة تكمن في واقع أنها ظهرت كآلة رؤية على يد شعراء يصنفون أنفسهم على أنهم اشتراكيون غالباً. سلالة الكلاسيكيين الجدد ستضم الى جوار السياب ونازك الشعراء أحمد حجازي وأمل دنقل وآخرين. ليس غريباً أن تكون دورة حياة كل شاعر منهم تقريباً تنتهي داخل أفق كلاسيكي كامل، هكذا السياب ونازك وحجازي. وليس غريباً أن تناقص الحسِّ الحداثي عند كلٍّ منهم مع التقدم في التجربة والعمر، يقابله تناقص في الحس الحداثي عند الانتقال من جيل الى جيل. حداثة السياب أعلى من حداثة حجازي، والأخيرة أعلى من حداثة أمل. وليس غريباً أن أكثر شعرهم شفاهي وأن السلالة متعارفة وتتبادل التقريظ والمدح. عندما مات السياب، كتب حجازي، مات أعظم شاعر عربي معاصر، وقال أمل كلاماً مماثلاً عن حجازي. الفعل الفطن الماكر الذي قام به أمل دنقل، هو موته المبكر، حماقة أحمد حجازي في التشبث بالحياة أدّت به الى أن يقرأ نصوص الشباب ويرفضها على أنها ليست شعراً فيعتبره الشباب عدواً كبيراً. كذلك حماقة عفيفي مطر. فطنة أمل جعلتهم يلتمسون فيه ان يكون أحد الأسلاف، خصوصاً أن شعر أمل الواضح، وحيد الاتجاه والدلالة قابل لأن يقرأه محدودو الثقافة من جيله والأجيال التالية، وأن شعره أيضاً أصبح تعويضاً عن حال التراجع والسقوط وعدم الفعل. يقول جورج طرابيشي: "عندما تفرض أسطورة ما نفسها كعقيدة قويمة على مستوى الجمهور العام، كما على مستوى أهل الاختصاص، فإن مقاومتها لا بد ستكون أشبه بالهرطقة"، انتهى كلام جورج، وأمل دنقل أسطورة شاركت عوامل كثيرة في صناعتها، ولذا أنتظر من دون اهتمام ما سيجود به مجمع الشتائم وهو يشمل كثيرين. كلنا يعرف أن الثقافة في مصر يحكمها جيل الستينات، وكلنا يعرف ولا يصرِّح بأن أكثريتهم كُتّاب فطريون يأنفون من الثقافة المكتسبة، وكلنا يعرف حماستهم لشعر أمل دنقل، الشاعر المتمكن القدير حتى وهو في قبره، رحمه الله رحمة واسعة. * شاعر مصري.