} ماذا عن العلاقة بين الحداثة والانسان العربي؟ وأي تجارب أليمة خاض شعراء الحداثة العربية بدءاً من الخمسينات عندما راحوا يواجهون خطاب السلطة في جوانبه المتعددة؟ بعد كتاب عبدالرحمن أبو عوف "القمع في الخطاب الروائي العربي" يأتي هذا الكتاب الجديد للشاعر حلمي سالم "الحداثة أخت التسامح: الشعر العربي وحقوق الانسان"، في سلسلة حقوق الانسان في الفنون والآداب، التي يصدرها مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، فيتجدد السؤال النقدي عن الأدلجة وعن الجمالية في مثل هذه الدراسات المندرجة في عقد الأممالمتحدة لتعليم حقوق الانسان 1995-2004. ولا يفوت حلمي سالم ذلك، فيؤكد منذ البداية أن المدخل الصحيح هو النظر النقدي الى التشكيل الجمالي في الشعر. أما "هوادي" الكتاب فيحددها سالم في المقدمة، انطلاقاً من طبيعة الفن كتجسيد لحق الانسان في الابتكار، ومن نشأة الشعر متواشجاً مع حق الانسان في العمل والغناء. وشاهد المؤلف هنا هو في تعاليم أمنموبي من الأدب الفرعوني، مما يتعلق برفض العنف وحماية الآخر وإعمال العقل وإطلاق المخيلة. ومن هنا يمضي المؤلف الى ما اعتمد من قول في الحداثة، وهو ما لا يكتمل إلا بما سيلي في الكتاب، لتكون الحداثة إيمان المبدع بالعقلانية في وجه النقلانية، وبحقه - واجبه في الابتكار، مما يعني فتح "صناديق المحرمات". والحداثة، بهذا النظر، من حيث المبدأ، حق من حقوق الانسان، حق في الكشف والبحث والمغامرة، وهي - كالقراءة - أخت التسامح، من دون أن يعني انها نفي للصراع ودعوة الى الاندياح أو التطامن والمسالمة، لأنها إعلاء لتقاليد الصراع التي تعني الإيمان بالتعددية، وعدم احتكار طرف الحقيقة المطلقة، كما تعني أن قبول الآخر هو قبول الذات. على ضوء ذلك يتقرى حلمي سالم الحريات الثلاث التي رفعت لواءها الحداثة الشعرية العربية: حرية الوطن، حرية الرأي، حرية الجسد، ابتداء من تعبير جبران عن حق الاختلاف في الدين والعقيدة، الى تعبير أدونيس عن حرية العقل والحس. ويسوق حلمي سالم هنا أمثلة طازجة لصدامات الحداثة مع الظلاميين من خصوم حرية الرأي والاعتقاد والتعبير، كالذي وقع لقصيدة عبدالمنعم رمضان "أنت الوشم الباقي" أو لقصيدة نزار قباني "متى يعلنون وفاة العرب" أو لديوان حسن طلب وسواها. أو كالذي كان من اعتقال محمد عفيفي مطر لشهور جراء موقفه من حرب الخليج الثانية، والأثر الباقي للتعذيب بالكهرباء على أنفه... ويوالي المؤلف في متن الكتاب القول في هذه الأمثلة وفي سواها، مجادلاً الخصم من وجهة نظر بنود الاعلان العالمي لحقوق الانسان. ولعل المفصل الحاسم في كل ما تقدم - بعد أن يقرن المؤلف بين بداية ثورة الشعر الحديث وصدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948 - هو القول أن جملة مفاهيم حقوق الانسان في الشعر والأدب هي التعبير الجديد البديل لما عرف قبل عقود قليلة بالالتزام في الأب. ويعلل المؤلف ظهور المصطلح الجديد بانهيار النظم الاشتراكية وصعود الفكرة الليبرالية، متوحشة كانت أم رقيقة. ولعل المقارنة بين ما يذهب اليه حلمي سالم هنا، وبين آخر ما أرسلته عيّنة من أربعة عشر كاتباً وناقداً عربياً في الالتزام مجلة نزوى العمانية - العدد الأول لعام 2001، تؤكد الخروج من القول القديم في الالتزام، الى أفق جديد للنظر في الذات والجماعة والفن، يلتمع فيه بقوة الاعلان العالمي لحقوق الانسان. شاء حلمي سالم كتابه في أربعة فصول تنظر في تجارب ما ينوف على عشرين شاعراً، فضلاً عن الإلماح الى سواهم، ويبتدئ الكتاب بالشاعرين صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي. فيلفت قوله بصدد الأول في "الظلم الأهلي" الذي يمارسه الأفراد على الأفراد، وفي تشخيصه الخلاص بالحرية عند عبدالصبور، مخالفاً تحديد لويس عوض لذلك بالحب والموت. وتلفت هنا أيضاً وقفة الناقد مع قصيدة حجازي "اغتيال" والمتعلقة باغتيال وصفي التل عام 1971، فيقرن القصيدة الى قصيدتي أمل دنقل في اغتيال يوسف السباعي عام 1977، ومحمود درويش في اغتيال ماجد أبو شرار عام 1981، ليصل الى معارضة حجازي مبدأ الاغتيال، كما كان منه في صدد اغتيال فرج فودة أو المهدي بن بركة أو سواهما. على أن توقد الفصل الأول يأتي في دراسة المؤلف تجربتي محمد عفيفي مطر وأمل دنقل. فمع الأول يستعيد قولة ابراهيم فتحي في مطر شاعر عابر الأجيال كما يستعيد من مطر نفسه: الشعر ملزم لا ملتزم. ويرى حلمي سالم أن حداثة جيله سبعينات القرن الماضي جعلت مطر رأساً لسهم. ويدرس تطور شعره خلال أربعين سنة، آخذاً عليه المبالغة أحياناً في التجريبية والتجريدية، وغرامه بالحوشي، وغلوه القومي الذي جعله يهاجم الفرعونيين في كتابه أوائل زيارات الدهشة: هوامش التكوين. وفيما يبدو من قبيل الاستدراك والعودة الى مسألة الكتاب/ عنوانه، وكما سيفعل المؤلف مراراً، نراه يمضي مما يعده تطرف مطر في الهجوم على الفرعونيين في مقابل العروبيين في مصر، الى انزلاق الشعراء في نفي المختلف وإنكار الآخر. ويضرب أمثلة على ذلك تحريض حسن فتح الباب على منع شعراء الحداثة غير المؤدبين من ندوات الهيئة المصرية للكتاب، وبفصل أدونيس من اتحاد الكتّاب العرب في سورية، وبوشاية صالح جودت بنزار قباني إثر قصيدته "هوامش على دفتر النكسة"، وبدعوة حجازي لتدخل الدولة في اختيار الشعر الذي تنشره المؤسسات الرسمية، وبتهليل بعض الشعراء لانقلاب العسكر على الانتخابات في الجزائر... وتستوقف في هذا الفصل الالتماعة المقارنة بين "صقر" مطر و "صقر" أدونيس و"صقر" دنقل، و"حداثة التعذيب" كما عبّر عنها مطر في ديوانه "احتفاليات المومياء المتوحشة" 1995 والذي صاغ فيه تجربته في السجن بسبب موقفه من حرب الخليج الثانية. أما في صدد محمد أمل دنقل فهيم محارب، فينقد المؤلف موقفه السلبي وموقف جيله من شعر دنقل، ويستقرئ من ثراء تجربته التراثية الدلالة على روح التسامح الديني والفكري. وكما سيفعل في صدد نقاد وشعراء آخرين، يعرض هنا لبعض ما كان من نقود الشاعر المعني، ملامساً نقد النقد في صدد كتاب سيد بحراوي "البحث عن لؤلؤة المستحيل" والذي أوقفه على قصيدة دنقل "مقابلة خاصة مع ابن نوح". في الفصل الثاني من كتاب "الحداثة أخت التسامح..." يتدافر سعدي يوسف والسياب وأدونيس والبياتي ونزار قباني وتوفيق زياد ومحمود درويش. وإذا كان بعض هذا الفصل كبعض سواه أشبه بمقالة تظل تفتقد تسويغ اندراجها هنا أو هناك في الكتاب - ما خص ملك عبدالعزيز مثلاً - فآية ذلك التدافر تبدو في دلالة تجربة سعدي يوسف على إيمان شاعر الحداثة بحق القارئ - الانسان بالمشاركة في إبداع النص، وبالتالي: انطلاق نص الحداثة من التعدد لا الواحدية، ومن أساس ديموقراطي، لا ثيوقراطي، ومن قبول الآخر كجزء من عملية الخلق، لأنه يبدأ من النقص، لا الكمال. ويؤسس الناقد ذلك في فكرة القرين في شعر "جوهرة الشعر العراقي الباقية" كما يلقب سعدي يوسف، وفي توظيفه البياض، ويادته العناية الشعرية الراهنة بالهامش وبالروح الخفي، وصولاً الى الربط بين عناية فكر حقوق الانسان بالإعاقة، وبين تيمة العمى كنقيض لتيمة الرؤية، وكجوهر لها في شعر سعدي وآخرين. ويعود حلمي سالم مع السياب الى فكرة التسامح الديني، إذ يرى أن تجسيد شعر الحداثة العربية لها، بما ينطوي عليه من علمانية وتعددية، كان نتيجة التقاء التيار الديموقراطي العقلاني في التراث، بالمستنير من الثقافة الغربية، وبالفكر الاجتماعي الذي روجته الراديكالية النسبية للبورجوازية الصغيرة، إضافة الى فكر التحرر القومي العربي الذي حل محل الرابطة الدينية، والى الاجتراءات الفردية للمواهب الشعرية الكبيرة. وكما كان مع سعدي، يقرن حلمي سالم بين ما تردد في شعر السياب عن المعوقين، وبين فكر حقوق الانسان، منبهاً الى اقتران ظهور قصائد السياب التجديدية عام 1948 مع صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان. ويتوالى هذا الفصل أيضاً عبر دلالة موقف نزار قباني من قصيدة النثر على قبول الآخر، واختراق شعره التابوهات، كذلك عبر تقمص محمود درويش شخصية الديكتاتور في "خطب الديكتاتور الموزونة" وعبر دلالة قصيدته "ريتا" على التسامح الديني والتفريق بين الجديد كما يمثل له من تجربة مريد البرغوثي، بالمقارنة مع تجربة توفيق زياد، وكذلك رصد انتقاد أدونيس حركة حقوق الانسان العربية في تقاعسها عن مواجهة الرقابة، وفي عدم التشديد على حق المخيلة كحق أصيل من حقوق الانسان. مع الفصل الثالث ينتقل حلمي سالم مما يبدو متن شعر الحداثة الى ما يبدو هامشه، وهذا ما سيتأكد في الفصل الأخير الذي يتعلق بتجارب حسن طالب وعلي قنديل ومحمد فريد أبو سعده وابراهيم داوود وكريم عبدالسلام وعماد أبو صالح، وحيث يدلل المؤلف على مكنته النقدية، غير آبه بوهن الصلة مع موضعه الأساس، فيرصد شعرية الراهن والتفاصيل، وتيمات الجرائد والموت والفقد، والاتجاه الى السرد والعدوانية، وبطولة الكومبارس. أما الفصل الثالث "الكتابة بنون النسوة"، والذي يترامى في تجارب نازك الملائكة وملك عبدالعزيز وعالية شعيب - وحُشِرتْ فيه ليلى العثمان - فيغلب عليه الجدل مع أطروحات النسوية الحديثة، ليؤكد موقف المؤلف ضد اختزال الايديولوجيا في البيولوجيا. ساق حلمي سالم في مواطن عدة من كتابه شواهد طويلة، من إيلوار وعبدالمنعم رمضان ونزار...، فضلاً عن الشواهد الأقصر والأكثر. ولأن ذلك في ما يبدو، لم يف بالحاجة التحريضية للكتاب، والتي تسفر فيه مراراً، ختم الكتاب بقصائد مختارة لخمسة عشر شاعراً، وبهذه المختارات يتأكد ما نم عنه الكتاب بجملته من الذائقة النقدية لمؤلفة الشاعر، وتتأكد قيمة الكتاب وضرورته الآن وغداً، على رغم ما يؤخذ عليه من استخدام المصادر والمراجع، أو من الاستطراد، أو من الميل عن غرض الكتاب الى الشهادة على شاعر أو على نص... مما احتاط له المؤلف منذ المقدمة بالنأي بنفسه عن الأكاديمية ومتطلباتها. ولعل ذلك لم يكن لولا أن حلمي سالم شاعر أقبل على مكابدة السؤال النقدي.