لعل جابر عصفور، مع قلة من النقاد العرب، واحد من هذه السلالة التي يتناقص افرادها يوماً وراء يوم، أعني سلالة نقاد الشعر الذين كانوا "النقاد" بأل التعريف، في برهات تاريخية ماضية، حين كان الشعر فن العربية الأول، وخزانة أسرارها. ولا أقصد بنقاد الشعر هؤلاء الذين يكتبون انطباعاتهم عن فن جميل، يحبونه أو يكتبونه، وإنما أشير إلى نمط بعينه من منتجي الخطاب النقدي، الذين تلقوا تدريباً علمياً، وتربية جمالية أرهفت قدراتهم القرائية، وقدر لهم، لسبب أو لآخر أن يعرفوا نظريات الأدب القديمة والحديثة، وأن يتحركوا في هذا الفضاء الثقافي الواسع الممتد قروناً، والذي ندعوه الفضاء الثقافي العربي. فامتلكوا رؤية للشعر ومهماته المختلفة عبر العصور، تجعل الواحد منهم أقرب إلى الصيرفي المثمن، وهي سلالة تتناقص مع تراجع مكانة الشعر والشاعر في هذه اللحظة الحاضرة، وصعود أنواع أخرى مثل السرد في القص والدراما التلفزيونية. وتكشف مؤلفات عصفور السابقة عن الصورة الشعرية ومفهوم الشعر في التراث النقدي عن نمط المعرفة التي تلقاها عن الشعر. فهي دراسات نصيّة ذات طابع نظري، وأرهفت قدرته على التجريد الفلسفي، الذي يتخذ من النصوص الشعرية قرائن وأدلة على سلامة التصورات النظرية، وقدرتها على الإجراء التطبيقي. وسيدرك قارئ هذا الكتاب ضخامة الجزء المختفي من جيل الجليد، الجزء الذي يتوارى ويلوح كأنه غائب، فيما هو كامن، هناك، يوجّه الناقد، ويحدد لكنته، ويدل على اختياراته. فهو على عكس نقاد آخرين لا يستغرق نفسه في تأويل نصوص مفردة، وحتى حين يتصدى لقراءة نص مفرد فإنه يضعه في سياق نصوص أخرى لصاحب النص أو لغيره من المؤلفين. ومن ثم يؤثر عصفور أن يصنع نسقاً على قدر كبير من التجانس البنائي، لكي يحتوي أكبر قدر ممكن من الأدلة النصية، من خلال تأويل العناصر المتكثرة في نص الشاعر. وهكذا يمكننا أن نفهم كلمة ذاكرة في عنوان كتابه بأكثر من معنى، فهي تشير أولاً: إلى الشعر بصفته ذاكرة جماعية أو وعاء للثقافة على أساس أن الشعر ديوان العرب. وثانياً: إلى ذاكرة الشعراء المنقودين، إشارة إلى نمط التربية الشعرية التي تحتفل بالحفظ والاستظهار - ثم نسيان ما حفظ - لكي يلتقط الشاعر مفهوم جماعته فيندرج في تقاليده. وفي هذا سيصبح التناص أداة ناجعة في يد الناقد. وثالثاً: إلى الذاكرة النقدية، وهي هنا ذاكرة فرد ملموس، تتحرك في فضاءات وتحتوي على البلاغة القديمة، أنظر مثلاً استخدامه للاستعارة المرشحة، جنباً إلى جنب مع التناص، وعلاقات الحضور والغياب، وغيرهما من انجازات الحقول المعرفية المعاصرة. وإذا ألقينا نظرة سريعة على فهرس المحتويات التي تبدأ من شعراء الإحياء وتنتهي بأمل دنقل، بدا لنا أننا إزاء مقالات منفصلة مفردة لا تمثل سياقاً، للقراءة والتأويل. لكن قراءة الكتاب تنفي هذا، إذ نجد محاولة صنع تحقيب شعري، جامعة بين النقد والتأريخ. فنحن مع تحقيب للحظات المفصلية في الشعر العربي الحديث باستثناء قصيدة النثر، بدءاً من مدرسة الإحياء التي يعتبرها عصفور، ضمناً، قطعاً مع لحظة سابقة باستحضارها ماضياً أسبق منها، ثم الرومانسية أو الوجدان، وهي تسمية تبناها الناقد أخيراً فيما يبدو. ونجد هنا دراسات عن أبي القاسم الشابي ومجلة أبولو وعلي محمود طه، ومحمود حسن اسماعيل، مع حضور ضمني لجبران وميخائيل نعيمة والعقاد، ثم "المعبر إلى الرومانسية"، حيث يلوح عبدالرحمن الشرقاوي انتقالاً من الرومانسية الثورية؟ إلى الشعر الحرّ. فيكتب عن السياب والبياتي، وصلاح عبدالصبور، وأدونيس، ليخصص ما يقرب من نصف الكتاب عن حجازي وأمل دنقل. هؤلاء الشعراء يلوحون في الكتاب، وقد استدعتهم ذاكرة الناقد لتخضع خبرته السابقة بعشرتهم لخبرات جديدة. فهو يعمل مع النصوص وضدها، ومع خبرته السابقة وضدها في آن. درس عصفور - مثلاً - شعراء الإحياء في بداية عمله الأكاديمي، ثم عاد وأخضع بعض نتائج خبرته بهم لما اكتسب من خبرات تالية، مناقشاً مسألة قيمة هذا الشعر الذي يحصره البعض من نقاد تقليديين وحداثيين في إحياء تقاليد الشعر العربي الكلاسيكي، وخصوصاً في العصر العباسي، عبر إحياء لغته وموسيقاه ومجازاته وموضوعاته. وهكذا يلوح هذا الشعر وكأنه ذو قيمة تاريخية لا قيمة إبداعية. فإن تستحضر لغة زمن غارب، معناه أنك غبت عن زمنك، لأن اللغة تحمل علامات زمنها وقيمها. فكأن هذا الشعر، والأمر كذلك، لم يزد عن كونه مجاوزة "للانحطاط" الشعري السائد بعد عصور طويلة من الضعف، إلى "الحداثة" الرومانسية التي بدأت إرهاصاتها مع مدرسة الديوان في مصر وشعراء المهجر اللبنانيين. لكن عصفور ومن خلال مقولة التناص وتفريق بارت بين نصوص القراءة ونصوص الكتابة، يشكك في هذا الحكم الذي يبدو لثباته وشيوعه صحيحاً، نافياً أن تكون علاقة شعراء الإحياء بالماضي محصورة في علاقة تذكر سلبي بأصل مطلق. بل تبرز أيضاً العناصر الخلافية، في هذا الشعر الذي ينفتح على أكثر من فضاء شعري. فثمة الماضي الشعري الواسع لا بعضه، وثمة تناص شعراء الإحياء بعضهم مع بعض. وثمة حضور لشعراء الشمال الأوروبي، وحضور للغة العامية وصل إلى حد النظم بها. ولهذا اقتحم بعضهم الدراما الشعرية، ومن ثم أصبح شعرهم "شعرنا" في استجابتنا القرائية لنصوصهم، وفي تناصات شعراء الشعر الحر مع هذه النصوص. لعل مجادلة عصفور في صحة الشعار القائل بأن استحضار لغة عصر يعني غياب المكان والزمان الآنيين، تؤثر على حذره من الإيديولوجيا حتى لو كانت جمالية. وفي تقديري أن هذه المقولة صحيحة فقط لمن تتحدد علاقتهم بالماضي على أساس مخاصمته ووصمه، ذلك أن العلاقة بالماضي أعقد من علاقة النسخة المشوّهة بالأصل. هل تبدو ذاكرة الناقد، وهو جابر عصفور هنا، أشبه بذاكرة الشاعر التي مثل أي ذاكرة ليست فقط مجرد وعاء حافظ، بل وعاء فاعل لا يكف عن تشكيل الماضي؟ ذاكرة الشاعر تستيقظ عناصر منها حين تدخل في علاقة احتكاك بمحفز أو مثير، يجعلها تلوب بما تختزنه، حتى لو لم تكن تعي أنها تختزنه، فتنشد إليه، لتعيد تشكيله، تخرجه من كونه، وتعرضه لما تنشغل به. أمّا في هذا الكتاب فإن كل شعرائه يمثلون "شيئاً ما" لجابر عصفور المواطن والناقد. بعضهم بسبب إلحاح المؤسسات الصائغة للوعي على ممثلين للثقافة يمثلون رموزها وتمثيلاتها مثل شوقي والبارودي، وبعضهم بصفتهم برهة - قد تكون عابرة - وقد لمسوا مناطق متوترة في الناقد المواطن مثل الشرقاوي الذي أشاعته العناصر اليسارية وخصوصاً في روايته "الأرض" وقصيدته "من أب مصري إلى الرئيس ترومان"، ومثل أبي القاسم الشابي الذي تحولت بعض أبياته "إذا الشعب يوماً أراد الحياة" إلى شعارات كان يحفظها تلاميذ المدارس وشداة الأدب. أما رموز الشعر الحرّ عبدالصبور والسياب وأدونيس... فكانوا - فضلاً عن كونهم صاغة الخطاب العربي الراديكالي شعرياً - يبدون علاقات تشير إلى توغل الثقافة العربية في الحداثة. أما أمل دنقل فله وضعية خاصة حتى يمكن القول إنه استخدم في كتاب عصفور، بصفته "مرآة" للناقد، ولجيله الذي يدعوه عصفور جيل الحلم القومي الذي انكسر في هزيمة 1967. أما السياب فيراه عصفور أول من دشن مفهوم "الرائي" في شعر التفعيلة، لا بكلامه عن الشعر فقط، وإنما من خلال وعي عملي في قصيدته الشهيرة "المسيح بعد الصلب" التي قرأها الناقد بصفتها صائغة لمفهوم أسطورة الشاعر المتنبئ، الفادي، الكلي القدرة، من خلال ما عدّه ثنائيات ضدية: الموت والبعث، الظلام والضياء، الأنا والآخرون، المسيح ويهوذا. وإذا كان الناقد لم يضمّن هذا الكتاب دراساته الأطول عن شاعرية الأثيرين عبدالصبور وأدونيس، فإن حضورهما ماثل في ثنايا الكتاب وتجاعيده: في دراسات جديدة عنهما، في متناصاته معهما، على نحو متواتر. فهو إذ يستخدم بعض العلامات اللغوية اللصيقة بهما على نحو متقصد، مثل تعبير "الرماد والورد" لأدونيس، و"النجمين الوضاءين" لعبدالصبور - في دراسات كثيرة. لكن الحضور الأقوى كامن في ثنايا الكتاب وفي غيره من كتب عصفور، على نحو يثير التأمل. عبدالصبور ظل يقاوم إغراء الايديولوجيا سياسية أو جمالية كما يراوغ الراهب لحاح الشهوة، وأدونيس لإشهاره ايديولوجيا الخروج على الثبات كأنها شرط الشعرية الأول في الزمن العربي الراهن. ذلك معناه أن التوتر في عمل عصفور النقدي بين تبني ايديولوجيا الحداثة، والحذر منها بصفتها عماء نقدياً، ماثل بوضوح، بدءاً من كتابه "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي" حتى كتابه الأخير، إنه توتر المواطن والكاتب. حين يكون موضوع النقد بعيداً نسبياً من عوارض الزمان والمكان، يبرز نزوع الخطاب إلى الأسئلة المعرفية. وحين يكون موضوع النقد أكثر اشتباكاً مع الواقع والتاريخ - حتى لو كان هذا الواقع نصياً، نشعر بمقاومة الناقد للايديولوجيا التي لا يكبح جماحها تماماً على رغم المقاومة، بل تظل تنفلت من صدوع النص وشقوقه. وفي هذا الكتاب لا يكف المواطن عن الحضور، وخصوصاً في القسم المكتوب عن أمل دنقل. لا يحضر دنقل في الكتاب شاعراً فقط، بل صديقاً. فنحن نراهما معاً في المقهى والشارع حيث الصعلكة في ليل القاهرة، وفي بيت كليهما، كأنهما يكملان بعضهما بعضاً، يتجادلان حول الشعر والنقد والوطن... وفي حجرة أمل في مستشفى السرطان، ثم بعد ذلك في وداع أمل إلى قبره في قريته الجنوبية. ولذلك عنوَن عصفور هذا القسم من الكتاب بعنوان "عن أمل دنقل" لا عن شعره فقط، وأهدى إليه الكتاب في ذكراه التاسعة عشرة. يروي عصفور أن أمل زاره ليلاً من دون موعد. كان عصفور منهمكاً في بحث علمي، ولم يعرف بخبر نقله من الجامعة بعد. وكان أمل عرف الخبر من كواليس الصحافة، وآثر أن يزور صديقه. أسمعه قصيدته المعروفة "الطيور"، وبعد أن انتهى منها تواً، وأهداها إليه، وخطوة وراء خطوة نقل إليه الخبر، ثم فتح النقاش، آخذاً بيد صديقه إلى ما يخطط له في المستقبل. سافر عصفور إلى السويد وقضى فيها عاماً. وحين عاد كان المرض قد توغل في جسد الشاعر حتى مات. هل يكتب عصفور وفاء لدين، مما يفسر النفحة الذاتية في الكتابة؟ هذا أمر لا جدال فيه، لكنه ليس كافياً لتبرير الكتابة وطبيعتها. ففضلاً عن الأهمية الشعرية لدنقل، وهي أهمية لم تدرك على نحو كافٍ بعد في خطابنا النقدي، ثمة سبب آخر، كامن في راهنية شعر أمل، وخصوصاً في قصائده السياسية التي يشعر الكثيرون بملائمتها للحظة السياسية التي نعيشها. ومن ثم يصبح مفهوماً أن يتخذها الناقد مناسبة للتعبير عن نفسه كمواطن. وهنا يبرز بُعد من أبعاد تعريف الأدب لدى الناقد يجعله مشدوداً إلى "الحاضر"، بل قد يصبح هذا الانشداد مسوغاً من مسوغات الحكم بالقيمة، لا للشعر فقط، بل للنقد أيضاً، من ناقد لا يكف عن التذكير بدور الكلمة في "الانتقال من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية". لكنْ، ثمة بعد آخر، لعلّه الرغبة في دمج الخطاب النقدي في الحياة بعد أن جعلته البنيوية خطاباً نخبوياً يصعب فك شفراته إلا لمن يملك أسرار هذه الشفرة المعقدة. ولا تعني هذه الرغبة لدى عصفور التخلي عن الصرامة، ولا نزوعاً نحو انطباعية جديدة ظل طويلاً يناضل ضدها. وفي عمل عصفور النقدي منذ البداية ما يشي بتململه من الوضعية، وهو تململ ظل يكبر حتى صار بالغ الوضوح، وخصوصاً بعد تبنيه المفهوم ما بعد البنيوي عن القراءة ومعوقاتها، وما يوجهها ويؤثر فيها. وقد عبر عن هذا في دراسة طويلة تصدرت كتابه عن قراءة التراث. ويبدو أن الناقد كلما ابتعد عن "الجماعة المغلقة" الاكاديمية، واقترب من "الجمهور العام" بتنوعه وغموضه وتعدد طبقاته، اتسعت المسافة بينه وبين المفهوم الوضعي، وصار أقرب إلى النقد بصفته كتابة تجاور بين الخطابات، وتكشف عن طبقات متراكمة من المعرفة والخبرة، التي فيما تؤكد عدم تطابق ذاكرة الناقد مع ذاكرة الشاعر، تتلمس عناصر تشابه بينهما، وهذه لا يمكن تجاهلها، إلا من وضعي مصرّ على وضعيته، وسعيد بيقينه.