ازداد السؤال عن "مستقبل الدولة الوطنية في ظل عودة الاستعمار المباشر" الحاحاً بعد الحرب الأخيرة على العراق. ويجمع السؤال بين المسألة المطلوبة "مستقبل الدولة الوطنية" والظرف الدافع لطلبها "في ظل عودة الاستعمار المباشر". لكنه يضمر أكثر مما يظهر. فصلته المباشرة بالمناسبة التي طرح فيها حرب الخليج الثالثة وبالمناسبة غير المباشرة التي كان يلوح خلالها في أفق التفكير العام قبل هذه الحرب، منذ كثر الكلام في ما يسمى بظاهرة العولمة، تجعل مسلَّماته أو مفروضاته الضمنية أمراً في حاجة الى التحليل. وأولى هذه المفروضات هي الزعم بأن الدول التي نتحدث عنها في مثل هذا الفكر دول بحق وليست مجرد كيانات زائفة ليس لها من مقومات الدولة إلا الإسم. والمفروضة الثانية هي الزعم بأنها دول وطنية فعلاً وليست مجرد كيانات يتذرع القائمون عليها بالشعارات الوطنية لكي يخفوا العمالة البينة في حاجتهم الى السند الخارجي للوصول الى الحكم وللبقاء فيه. والمفروضة الثالثة هي الزعم بأن هذه الدول مهددة بسبب وطنيتها وليس لأن أجهزة الحكم فيها صارت غير مستجيبة للخدمات التي تنتظرها المافيا الدولية التي فرضتها على شعوب العالم الثالث باسم التحديث القسري. والمفروضة الرابعة هي الزعم بأن فزع الناطقين باسم هذه الدول علته وطنيتهم وحرصهم على مصالح البلاد والعباد وليس الخطر المحدق بهم من استغناء موظفيهم عن خدماتهم بعد تفكيرهم في بدائل أكثر ملاءمة للغرض. والمفروضة الأخيرة هي الزعم بأن تهديد الدولة الوطنية ناتج من ظاهرة جديدة هي ظاهرة العولمة الإعلامية والثقافية بعامة وظاهرة العولمة الاقتصادية والجغرافيا السياسية بخاصة، وليس أمراً موجوداً في جوهر السياسة الدولية باعتبار الصراع بين المصالح أمراً طبيعياً وهو لا يكون إلا بين الدول الحقيقية والوطنية فعلاً. ليكون كلامنا في المسألة محدداً وواضحاً ننطلق من المناسبة المباشرة التي بحكمها صار السؤال ملحاً في الرأي العام العربي: فهل العراق هاجمته أميركا واحتلته من أجل تعارض وطنية الدولة فيه مع عولمة الاقتصاد والجغرافيا السياسية، تسليماً بأن العولمتين الإعلامية والثقافية لا تحتاجان للاستعمار المباشر حتى تحصلا؟ وهل كان العراق دولة حقاً؟ وهل دولته، ان سلمنا بكونها دولة وطنية فعلاً؟ أي كيان يمكن أن يكون دولة إذا كان مبدأه الروحي منافياً العلمانية الفاشية لمبدأ غالبية الشعب الذي يحكمه. ويعجب المرء من الغباء السياسي الى أي حد يمكن أن يذهب، كيف يمنع ثلثا الشعب من ممارسة شعائرهم الدينية وما الفائدة السياسية من مثل هذا التصرف؟ وطبعاً فكل من يعلم مفهوم الدولة ومدلول الوطنية ما هما سيجيب بالنفي في الحالين. لا يمكن دولة أن تكون دولة إذا حصرت مؤسساتها في أجهزة نظام أو في خلايا حزب حاكم، خصوصاً إذا حصر هذا النظام في شخص الزعيم وأجهزته الموازية ومن يدين له بالولاء. ولا يمكن أن تكون هذه الدولة التي اختصرت الشعب في الحزب والحزب في النظام والنظام في الزعيم والزعيم في الأجهزة الموازية والأجهزة الموازية في المافيا المستغلة للبلاد ان توصف بكونها دولة، فضلاً عن وصفها بكونها دولة وطنية. وفي الحقيقة فإن جل أنظمة البلاد العربية ليس لها من اسم الدولة ومن صفة الوطنية أدنى قدر يمكن أن يقبل به محلل منصف إذا أعطى المفاهيم دلالاتها الحقيقية. ولئلا يكون كلامنا سلبياً كله فلنقدم بصورة موجبة مدلول الدولة الوطنية لنفهم مقومات الصمود التي تنفي ان تكون العولمة كافية لتهديدها مهما طغت أميركا وتجبرت بمقتضى حيازة هذه الدول لمقومات الصمود بالفعل، حيازة تجعلها تحقق شروط الحجم الكفيل بذلك للحفاظ على الدولة الوطنية. فأولى علامات الدولة وعلامات الوطنية ان القيادات القيمة عليها تكون قادرة على تحقيق شروط تحددها بصورة وقائية تمكنها من الحفاظ على استقلالها كما هو الشأن في الحرز الأوروبي الذي وضعته القيادات الوطنية لهذا الغرض: فكل العقبات التي وضعتها قيادات الأقطار العربية أمام كل حرز عربي شامل - أياً كان شكله ومهما كان طيعاً بما في ذلك أوهن البيوت بيت الجامعة العربية - تفيد بأن هذه القيادات لم تكن حريصة على استقلال ارادتها الوطنية، إذ هي حالت دون تحقيق أدنى شروطها باسم استقلال وهمي بالقياس الى الأقطار العربية الأخرى، ولو في مقابل الخضوع التام للحامي الأجنبي الظاهر أميركا والخفي الى حين اسرائيل. فهل يمكن مثلاً أن نتصور فرنسا أو المانيا أو انكلترا في أوروبا أو الصين أو اليابان في آسيا غير الإسلامية أو ماليزيا أو ايران في آسيا الإسلامية غير العربية دولاً يمكن أن تخشى شيئاً من عودة النزعة الاستعمارية الأميركية؟ أليست مقومات الدولة الحقيقية ومميزات الوطنية الفعلية في هذه الأمثلة جميعاً تجعلها قادرة على الصمود الفعلي في ما يغني عن الصدام العسكري قبله وفي ما يثبت فاعلية مقومات الدولة ومميزات الوطنية وأثرهما في تحقيق شروط الاستقلال خلاله وبعده؟ الكلام على الخطر المحدق بالدولة الوطنية في البلاد العربية وكلها لسوء الحظ نهجت طريق الحداثة الاستهلاكية التي لا يمكن أن تفرز إلا التبعية الدائمة بديلاً من الحداثة الانتاجية التي تفرز شروط الاستقلال كما فعل اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا في غياب مقومات الدولة الحقيقية وصفة الوطنية الفعلية، يذكرني بزعم أحد المتعالمين والمتسايسين رداً على نظرية ابن خلدون القائلة إن العلماء هم أعجز الناس على سياسة الدول، مدعياً أنه عالم ويسوس الدولة باقتدار. وطبعاً فلما كان صاحب هذه الدعوى عالماً بالإسم ويسوس دولة بالاسم خربت البلاد وفسدت العباد. لم يكن صاحبنا يدري ان ابن خلدون يتحدث عن العالم بحق والسياسة بحق، فالسياسة التي يعنيها ابن خلدون غير ما عليه الحال في البلاد العربية حيث لا تعدو سياسة الأحزاب الحاكمة مجال تصريف المقاولات، وسياسة الأحزاب المعارضة مجال تصريف الشائعات حول تصريف هذه المقاولات. قبل أن نتحدث عن الأمر المهدد اسم مفعول في الوطن العربي وعن علة التهديد فلنسأل عن مصدر التهديد ما مأتاه؟ أليست بلداننا مهددة بغياب ما نزعم أنه مهدد اسم مفعول قبل أن تكون بحضور ما نزعم انه مهدد اسم فاعل، أعني بغياب الدولة وبغياب الوطنية وليس بحضور الاستعمار مباشراً كان أو غير مباشر، ما دام تاريخ العالم لم يخل يوماً من الصراع بين الدول الحقيقية ذات الإرادات الوطنية؟ هل يمكن أن نسمي دولاً - كيانات جملة مؤسساتها السياسية تنحصر في توظيف عاطلين لم يبق عندهم من الوطنية إلا الشعارات بعد أن فرطوا في رصيدها الناتج من حرب التحرير؟ وهل يمكن أن نسمي دولاً - كيانات جملة مؤسساتها الاقتصادية تنحصر في تصريف مصالح المافيات الحاكمة بعد أن بددوا ثروات الوطن في مشاريع كلها فاشلة واختاروا نظاماً من الاقتصاد يوطد التبعية؟ وهل يمكن أن نسمي دولاً - كيانات جملة مؤسساتها الثقافية تنحصر في العيون والبصاصين لوزارات الداخلية بعد قتل كل قدرة على الخلق والابداع؟ وهل يمكن أن نسمي دولاً - كيانات جملة مؤسساتها المدنية تنحصر في مالئي الشغور في قاعات الاجتماع وشاغلي الطرقات عند التنادي الى تظاهرات الحماسة الكاذبة والتعبير المسرحي البليد في الساحات العمومية بعد تعطيل كل فعاليات المجتمع المدني؟ ثم أي وطنية لدول هذا جنسها، إذا كان الأعداء هم الذين يختارون قياداتها الحاكمة ويحمون قياداتها المعارضة حتى يختاروا منها البدائل عند الحاجة، فضلاً عن ابتزاز الحكام بهم إذا قامت في بعضهم شعرة السيد علي عبارة تونسية تفيد الغضب للحق بعد طول سكوت بعد انقطاع شعرة معاوية عبارة عربية يعلمها الجميع كما حصل في علاقة النظام العراقي بأميركا؟ لئلا أطيل الكلام، أجيب فأقول: إذا كانت الدولة دولة بحق وكانت وطنية فعلاً فلا خوف على أهلها ولا هم يحزنون. إنما الخوف كل الخوف من توظيف الشعارات في أنظمة صارت جيوشها قوى احتلال لشعوبها وصارت شرطتها حراس سجن لمواطنيها، وصارت مؤسساتها القضائية والتعليمية والإدارية والمدنية والثقافية والإعلامية بلغة عبدالرحمن ابن خلدون أدوات تفقدها معاني الإنسانية. ولكن، ما هي علة هذه الظاهرة؟ هل يكون العربي من حيث هو عربي فاسداً بالطبع فيصح التفسير العرقي لما نمّر به، ام ان في الأمر سراً ينبغي الكشف عنه لتحليل الأسباب وفهم الدواعي؟ وطبعاً لا يمكن عاقلاً أن يصدق أن العربي من حيث هو عربي مصاب بكل هذه العاهات بل إن الظاهرة قابلة للتفسير بجملة من العلل يمكن حصرها في النوعين المضاعفين التاليين وارجاعها الى أصل واحد تتفرع عنه أربعتها: النوع الأول - هو الأسباب الذاتية 1 - سبب سلبي هو ايديولوجيات التنوير الفاشي الغبي الذي يتصور الأمم قابلة للتحديث بغسل الأدمغة وفرض العقائد العلمانية الغفلة التي هي سياسات دينية بالسلب إذ لا فرق بين التدخل في العبادات لفرضها ايجاباً أو لمنعها سلباً على شعوب ما زال أغلبها من المؤمنين. 2 - سبب ايجابي هو الإرادية الساذجة التي تتصور ان التغيير، وإن كان لفائدة الشعب، يمكن أن يتحقق بمجرد القرارات الفوقية ولا يخضع للمعرفة العلمية الدقيقة بالمحددات الاجتماعية الموضوعية التي تتحكم في التغيير الحضاري والبطيء بالطبع. النوع الثاني - هو الأسباب الخارجية: 3 - سبب سلبي هو سرطان أجهزة القوى الاستعمارية التي تندس في جسد الدولة ببعديه السياسي والاقتصادي وفي المجتمع المدني ببعديه الثقافي والروحي، فتصبح قادرة على التحريك السري لخيوط اللعبة السياسية بل العلني أحياناً وذلك بتنظيم الانقلابات، ولخيوط اللعبة المدنية كذلك بضخ المطالب التي يريدها المستعمر بحسب جدول أعماله أجندا الذي يفرضه على الساحات الوطنية. 4 - سبب ايجابي هو ما ينتج من افراط خلال محاولات التصدي لهذا الاندساس ومحاولات تكوين أجهزة قادرة على حماية الأنظمة المزعومة وطنية من المتدخلين السابقين، بحيث تتحول الدولة الى اخطبوط من الأجهزة التي تستعمر شعبها وتيسر استعمار الأجنبي له بالاندساس في هذه الأجهزة، فيكون الحاصل من الأمرين تحول الشعب الى لعبة في يد نظامين من الأجهزة الخارجية والداخلية، ويتداخل الأمران فينقلب البلد الى جحيم من المؤامرات والدسائس. 5 - أما العلة التي يمكن أن تعد كل هذه الأسباب فهي علة "السرطان" الذي أصاب الدول العربية والتي استبدت بمناعة مجتمعاتنا: انها محاولات القضاء على المناعة الروحية للأمة بمقتضى ظاهرة وصفها ابن خلدون بالفصام الذي أصاب العمران البشري في الحضارة الإسلامية. فالدولة صورة العمران بلغة ابن خلدون صارت نظاماً من الأجهزة تتصرف في أداتي القوة العامة أعني المال والعسكر لخنق المجتمع مادة العمران بلغة ابن خلدون واستعباد الفاعلين، أعني المواطنين. وقد اعتبر ابن خلدون هذا الاستعباد والاستبداد علة القضاء على سببي البقاء الأساسيين: 1 - معنى الإنسانية بما هي عقل حر يعلم الأسباب ليفعل في محيطه الطبيعي، ويصفه ابن خلدون بمبدأ الاستخلاف النظري. 2 - ومعنى الإنسانية بما هي إرادة حرة تعلم القيم لتفعل في محيطها التاريخي، وهو المعنى الذي يصفه ابن خلدون بمبدأ الاستخلاف العملي. * كاتب تونسي.