هل ألقى معارض عراقي بارز كلمة في مؤتمر لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية "إيباك"، كبرى مجموعات التأثير المؤيدة لإسرائيل؟ وإذا فعل ما الذي دعاه الى ذلك؟ التساؤل هنا ليس دعوة ضمنية الى مقاطعة أحد والعودة الى سياسات الانكفاء والتجاهل والإنكار العقيمة، حتى إذا كان هذا الأحد أكثر تشدداً وتطرفاً من شارون نفسه. فلا بأس اعتبار أن المواجهة المبدئية والحوار البنَّاء والقبول بالاختلاف هي السبل النافعة لإيصال الصوت والوصول الى النتائج المرجوة. ولكن موتمر "إيباك" ليس محفل نقاش وتبادل آراء وسعي الى تفاهم، بل هو حصراً مهرجان تأييد لإسرائيل وعرض عضلات لقوة "إيباك" السياسية وقدرتها على التجييش والتأثير. والمشاركة الفاعلة فيه لا تفيد إلا التيار المتشدد المؤيد للسياسات القمعية والعنصرية التي تلتزمها الحكومة الإسرائيلية الحالية، فائدة دعائية ثم سياسية. شخصية عراقية معارضة أخرى حاولت تفسير المشاركة بالإشارة الى أنه ثمة جهات في العاصمة الأميركية تفرضها كامتحان يتقرر من خلاله مدى إفساح المجال للبروز السياسي للمدعو إليها. غير أن المعارض المشارك مشاركته هو شخصياً لم تتأكد، حيث أن برنامج المؤتمر يشير الى معارض عراقي آخر ليس بحاجة الى من يفسح له أي مجال. المشاركة في مؤتمر "إيباك" خطأ مبدئي، ليس من جهة الإساءة الى مشاعر جمهور واسع في الإطارين العراقي والعربي وحسب، إنما من جهة السماح بتوظيف الذات في خدمة طرف بعيد كل البعد من مفهوم العدل الذي تريده المعارضة العراقية لنفسها. وإذا كانت هذه المعارضة تريد بالفعل أن تكون نموذجاً لممارسة سياسية عربية جديدة تتجاوز القوالب القديمة، فلا بد لها من التمييز بين الحضور النشط لدى الأوساط كافة على أساس القاسم المشترك مهما ضاق، وبين تورط في خدمة بعض هذه الأطراف بما يضر بغيرها من الأطراف العربية. والقضية هنا ليست مجرد هفوة، بل هي نموذج عن نزعة لدى بعض المعارضين العراقيين الى إهمال "تصحيحي" حيناً وثأري أحياناً إزاء القضية الفلسطينية. فبعد أن تعرضت القضية العراقية نفسها لما يقارب التجاهل التام في الأوساط الثقافية العربية وصولاً الى تصنيفها أحياناً بأنها مسألة إلهائية يراد بها استنزاف الموضوع الفلسطيني، وبعد أن نجح النظام الحاكم في بغداد في تسويق الشعارات القومية وفي الحصول على تجاوب من الشارع الفلسطيني المستاء من عقم القيادات العربية، يعمد بعض المعارضين العراقيين الى قدر من التفريط الإنفعالي بالقضية الفلسطينية. "لا اعتراض على دور اسرائيلي في إعمار العراق" وفق الرأي الذي أبداه أحد المعارضين العراقيين الشباب أمام حضور طلابي في جامعة يهودية أميركية، "وإن كان من الأفضل الانتظار قليلاً ريثما ينحسر تأثير الجهد الدعائي الذي بذله صدام حسين في استعداء إسرائيل". ما يغيب عن هذا الشاب طبعاً أو ما يشاء تغييبه هو أن العداء لإسرائيل في الوسط العراقي مصدره ليس النظام الحاكم بل الممارسة القمعية والتعسفية التي يقدم عليها الاحتلال الإسرائيلي. يمكن بالطبع التقليل من أهمية رأي هذا الشاب أو إدراجه في خانة التزلف الانتهازي للحضور، غير أن الواقع أن رأيه هذا يتردد في بعض أوساط المعارضة العراقية والأجدى التطرق اليه لمعالجته وعدم الاكتفاء بافتراض عدم وجوده. وعلى رغم تأجج نيران القمع الإسرائيلي للشعب الفلسطيني وصولاً الى حد تحويل الأراضي الفلسطينية سجناً يفتقد أبسط مقومات الإنسانية، فإنه من الإيجابي توقع مستقبل يترسخ فيه السلام العادل في المنطقة، ويعود التواصل مثلاً بين الجالية العراقية اليهودية المقيمة في إسرائيل وهي التي حافظت على الكثير من المقومات الثقافية العراقية وبين وطنها الأم. ولكن الأجدى أن يكون المضي في تحقيق هذا التواصل اليوم، كما في إطار "جمعية الصداقة العراقية - الإسرائيلية" التي بادر بتأسيسها معارض عراقي مقيم في لندن، مشروطاً بالتقدم في رفع الظلم عن الشعب الفلسطيني. والمعارضون العراقيون الذين يتوعدون الدول والحكومات التي تجاهلت جرائم النظام الحاكم في بغداد وانغمست بعلاقات سياسية واقتصادية معه، عليهم بدورهم، حفاظاً على صدقيتهم الأخلاقية، عدم الإساءة الى المأساة الفلسطينية وإن بمجرد غضّ الطرف عنها. فالمطلوب بإلحاح، بعد انتهاء الحرب، "مصالحة" عراقية - فلسطينية تطرح أمام الملأ المواضيع الخلافية كافة، من الدور المفترض لبعض المجموعات الفلسطينية في الممارسات القمعية للنظام العراقي الى العلاقات المزعومة بين بعض أطراف المعارضة العراقية سواء في المهجر أو في كردستان العراق وجهات إسرائيلية أو داعمة لإسرائيل. ولا بد في الحالين من التفريق بين التبعية والارتهان من جهة وبين التحالف المرحلي من جهة أخرى. وهذا التفريق يعود تحديداً الى مدى الصدقية التي يحظى بها كل طرف. وعلى رغم النزعات الإنفعالية للبعض في المعارضة العراقية، وعلى رغم اتهام البعض الآخر لهذه المعارضة بالتقصير إزاء الموضوع الفلسطيني، فإن معظم الوجوه القيادية فيها حافظت على خط مبدئي في هذا الشأن، وإن تخلفت أحياناً عن المجاهرة به، سهواً أو عمداً لاعتبارات عملية. فهل تستحق هذه الوجوه افتراض الصدقية؟ وفي حين أن التلويح بتهم العمالة أو التلميح إليها يطاول الكثير، فإن حصة الأسد كانت من دون شك من نصيب أحمد الجلبي، عضو اللجنة القيادية للمعارضة العراقية. إذ ليس سراً أن الجلبي أقام علاقات وطيدة مع جمهرة من شخصيات الخط المحافظ الجديد في العاصمة الأميركية واشنطن، وأن الكثير من هؤلاء هم من المؤيدين للتوجه الإسرائيلي المتشدد. فما هو الثمن الذي تتوقعه هذه الشخصيات من الجلبي في حال وصوله الى موقع المسؤولية السياسية في العراق؟ الجلبي نفسه تحفظ دوماً عن أي موقف حاسم في هذا الصدد، مثيراً ريبة البعض في الصف العربي، كما في أوساط بعض أنصار إسرائيل في الولاياتالمتحدة. من حق الجانب العربي أن يسأل الجلبي ويسائله في هذا الخصوص، إلا أن ذلك قلّ أن يحدث، بل يأتي عوضاً عن سيل من الاتهامات غير الموثقة، وصولاً الى التشهير بأصوله الطائفية والطبقية. ويشدد المقربون من الجلبي على أن ما يتعرض له من اتهامات وشائعات عربياً يأتي استكمالاً لعمل مدبر أودى بنشاطه المصرفي وأرغمه على الخروج من الشرق الأوسط إثر إصراره على العمل المناهض للنظام الحاكم في بغداد، وأن المصالح المالية للمستفيدين من هذا العمل تغذي التباعد بين الجلبي وبعض الأطراف العربية. على أي حال، فالجلبي رداً على سؤال مباشر حول الموضوع الفلسطيني أفاد أن العراق الجديد سيكون "خير سند للشعب الفلسطيني" لتحقيق السلام وفق الأطر المتفق عليها دولياً، مؤكداً دعم حق هذا الشعب في دولة مستقلة. ويجتهد الجلبي في تجنب الخطاب الشعبوي في الموضوع الفلسطيني كما في الموضوع العراقي، بل يدعو الى عقلانية موضوعية تدرك أن "الحل ليس في العداء للولايات المتحدة"، وأن التوظيف الشعاراتي للقضية الفلسطينية ليس إلا "مسرحية". ويرى الجلبي بالتالي أن "صدام يستغل قضية فلسطين ويخدع العرب" وأن الأموال القليلة التي قدمها ليست دعماً للشعب الفلسطيني بقدر ما هي استهلاك لقضيته. والمطلوب من الثقافة العربية، وفق رأي الجلبي، أن تتفهم الطروحات الحقيقية للمثقفين العراقيين في سعيهم الى "إقامة نظام ديموقراطي حقيقي بعد اجتثاث حزب البعث، يحرر الشعب من الأطر البالية وينقل الفكر العربي والإسلامي الى مرحلة تنطلق فيها الطاقات الفكرية العراقية، فتكون ذخراً لكل العرب، في مجتمع يتعايش مع التحديات العالمية ويقر بمفهوم الفردية". وينظر الجلبي قدماً الى عراق ما بعد الحرب، مؤكداً أن العراقيين لن يستجيبوا الاحتلال الأميركي الذي استبعد أي دور للمعارضة، ويدعو الدول العربية الى الاعتراف بالحكومة الموقتة التي تعتزم المعارضة إعلانها والى حث الولاياتالمتحدة على الإقرار بها، كضمانة لتواصل عربي تستفيد منه المنطقة ككل. خطاب الجلبي ينسجم بالتالي مع المصالحة المطلوبة في المرحلة المقبلة. وكما انه من الواجب على الثقافة العربية أن تعيد تقويم أدائها إزاء الموضوع العراقي، فإنه من واجب المعارضين العراقيين عدم التفريط في الشأن الفلسطيني، لا شكلاً ولا مضموناً. * كاتب لبناني مقيم في الولاياتالمتحدة.