هاتف ذكي يتوهج في الظلام    شكرًا لجمعيات حفظ النعم    خريف حائل    الدفاع المدني يحذر من المجازفة بعبور الأودية أثناء هطول الأمطار    الدبلة وخاتم بروميثيوس    صيغة تواصل    أماكن خالدة.. المختبر الإقليمي بالرياض    السل أكبر الأمراض القاتلة    نجد فهد: أول سعودية تتألق في بطولات «فيفا» العالمية    توطين قطاع الطاقة السعودي    أولويات تنموية    «الرؤية السعودية» تسبق رؤية الأمم المتحدة بمستقبل المدن الحضرية    الأنساق التاريخية والثقافية    نورا سليمان.. أيقونة سعودية في عالم الموضة العالمية    محمد البيطار.. العالم المُربي    من المقاهي إلى الأجهزة الذكية    «إسرائيل» تغتال ال«الأونروا»    هوس التربية المثالية يقود الآباء للاحتراق النفسي    رحلة في عقل الناخب الأميركي    لوران بلان: مباراتنا أمام الأهلي هي الأفضل ولم نخاطر ببنزيما    عمليات التجميل: دعوة للتأني والوعي    المواطن شريك في صناعة التنمية    الرديء يطرد الجيد... دوماً    مرحباً ألف «بريكس»..!    وبس والله هذا اللي صار.. !    لماذا مشاركة النساء لم تجعل العالم أفضل ؟    الأعمال الإنسانية.. حوكمة وأرقام    عسكرة الدبلوماسية الإسرائيلية    عن فخ نجومية المثقف    الذكاء الاصطناعي طريقة سريعة ومضمونة لحل التحديات    المرأة السعودية.. تشارك العالم قصة نجاحها    أندية الدوري الإسباني تساعد في جمع الأموال لصالح ضحايا الفيضانات    يايسله يُفسر خسارة الأهلي أمام الإتحاد    رسالة رونالدو..    النصر يلاحق العضو «المسيء» قانونياً    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة أمام الاتحاد    وزير الإعلام يعلن إقامة ملتقى صناع التأثير «ImpaQ» ديسمبر القادم    وزير الداخلية السعودي ونظيره البحريني يقومان بزيارة تفقدية لجسر الملك فهد    «الاستثمارات العامة» وسلطة النقد في هونغ كونغ يوقعان مذكرة تفاهم استثمارية    أمانة القصيم تكثف جهودها الميدانية في إطار استعداداتها لموسم الأمطار    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    المرشدي يقوم بزيارات تفقدية لعدد من المراكز بالسليل    أمانة القصيم تنظم حملة التبرع بالدم بالتعاون مع جمعية دمي    أعمال الاجتماع الأول للتحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين تواصل أعمالها اليوم بالرياض    الأرصاد: استمرار الحالة المطرية على مناطق المملكة    خدمات صحية وثقافية ومساعدون شخصيون للمسنين    جوّي وجوّك!    لا تكذب ولا تتجمّل!    «الاحتراق الوظيفي».. تحديات جديدة وحلول متخصصة..!    برعاية الملك.. تكريم الفائزين بجائزة سلطان بن عبدالعزيز العالمية للمياه    معرض إبداع    مهرجان البحر الأحمر يكشف عن قائمة أفلام الدورة الرابعة    أحمد الغامدي يشكر محمد جلال    إعلاميون يطمئنون على كلكتاوي    الإمارات تستحوذ على 17% من الاستثمارات الأجنبية بالمملكة    جددت دعمها وتضامنها مع الوكالة.. المملكة تدين بشدة حظر الكنيست الإسرائيلي لأنشطة (الأونروا)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة البعث في العراق . تأسيس "جمهورية الخوف" استجابة لأزمة عميقة ، موضوعية وذاتية معاً 5
نشر في الحياة يوم 01 - 04 - 2003

بعد أن تناولت الحلقة الرابعة كيفية عمل ومعاملة الدوائر الثلاث للسلطة، أي البعث والجيش وتكريت، هنا التتمة:
مثلما بدأ العهد البعثي تطهير الدوائر التي يبني سلطته عليها، باشر بالهمّة نفسها تطهير الدوائر الواقعة خارجها والتي تثير شبهة المناوأة. وفي العراق اتسم سلوك كهذا، مألوف في الأنظمة الانقلابية، بتبكيره ومواظبته. لكنه اشتُهر أيضاً بجرعة رمزية، إن لم يكن وثنية، فائضة.
ف"العراق القديم" بات ينبغي ان يُستأصل، فكرةً وواقعاً، وأن يتحسس القيّمون عليه أن استئصالهم، هم أنفسهم، على مرمى حجر. والشيء إياه يقال في العراق الكردي، والعراق الشيعي أو الشيوعي، القبَلي أو المديني. ولكنْ أيضاً كان ينبغي استئصال العراق القومي غير البعثي، والعراق الحديث الذي يتوسّط مع مصالح وثقافات غربية.
وبكلمة، بدا مطلوباً الاستحواذ الكامل على البلد وتاريخه السياسي، وعلى خيارات سكانه في عيشهم ومعتقدهم.
لكنْ لإنجاز مهمة بهذه الهيولية كان لا بد من استنفار الأعصاب وتوتيرها، وإثارة التعبئة المستديمة، وإطلاق جو مشهدي صارخ يلازم العراقيين كالكابوس. وتدريجاً تكامل البناء الذي أريد صبغه بالملحمية. فلم يكد ينتهي العام 1968 حتى كان مئات الضباط غير البعثيين يُعتقلون، ومعهم حوالى اربعين رجل أعمال يمثلون مصالح تجارية أجنبية في البلاد. وألقي القبض على وزراء وعلى موظفين كبار محسوبين على القومية العربية والناصرية، كأديب الجادر وخير الدين حسيب. كذلك امتد "تأديب" القوميين الى الخارج، فلم يفتر حتى شباط فبراير 1972 حين جرت في القاهرة محاولة لاغتيال ثلاثة ناصريين عراقيين. وقد اعترف يومها أركان التكريتي، قائد المجموعة في مصر، بتنفيذه أوامر الأمن العراقي.
وعلى طرف نقيض أعلنت الحكومة مبكراً، في تشرين الأول أكتوبر 1968، عن وجود شبكة تجسس صهيونية كبرى تم "اكتشافها" في البصرة. وبالفعل نُقل المتهمون الى قاعدة عسكرية في بغداد، ومنها الى مركز تحقيق حزبي.
وإذا كان الاتهام بالصهيونية من الصنف السهل والمُربح لمُطلقه، ف"اكتشاف المؤامرة" بعد هزيمة 1967 كفيل بأن يعطي الانقلاب معنى "قومياً" يفتقر الى مثله. فالحماسة اللفظية للقضايا العربية، وأخصّها قضية فلسطين، كانت تلحّ على تقديم براهين عملية. والبراهين الملموسة بدت فقيرة على ما دل لاحقاً، في 1970، انسحاب الجيش العراقي المتمركز في الأردن من طريق الجيش الأردني المتجه الى تصفية المقاومة الفلسطينية هناك. والأهم في حسابات سلطوية لا ترحم، أن الطائفة اليهودية في العراق خصم ضعيف يمكن أن يتكتّل ضده من يستحيل تكتيله لهدف آخر. بذا يتحقق نصر ضخم من دون أكلاف.
وتكفي مراجعة سريعة لمحطات تاريخها العريضة كي نتبيّن المسار الانحداري الذي حُملت هذه الطائفة على سلوكه. فهي، التي تعود الى ماضٍ يرقى الى 2700 سنة، شكّل أفرادها، مطالع القرن الماضي، 20 في المئة من مجموع سكان بغداد، كما ساهمت في الحياة السياسية والاقتصادية للعراق ولعب فنانوها الدور الأبرز في تطوير المقام الموسيقي، مثلما أدخل متعلموها الطباعة والصحافة والمدارس العصرية الى البلد. ورغم ان العهد الملكي أبقى على حقيبة وزارية لليهود، هي غالباً وزارة المال التي كان ساسون حسقيل أول من تسلّمها، زعزعت التطورات اللاحقة عالمهم وقوّضت دورهم. فأحداث 1936-39 الفلسطينية وتّرت علاقة مواطنيهم بهم، ومذّاك راح كل صعود تحرزه سياسات القومية الراديكالية يرتد عليهم سلباً. فمع انتقال الحاج أمين الحسيني الى العراق تعاظمت الحملات الاعلامية التحريضية التي كان بدأها، أواسط الثلاثينات، أعضاء "نادي المثنّى" العروبي وكتّابه وصحافيّوه. ولئن اختُتم ذاك العقد بهجمات فردية وتعديات متفرقة عليهم، ففي حزيران يونيو 1941، وكان رشيد عالي الكيلاني قد هرب وانهارت حكومته، حصل "الفرهود" النهب والسلب والفوضى مؤدياً الى مقتل مئتي شخص منهم ونهب بيوتهم وممتلكاتهم. وإذ حلّت "النكبة" الفلسطينية في 1948 قُيّدت حركتهم ومُنعوا من بعض المناصب الرسمية، فيما شاع تحويل أبسط قضاياهم الشخصية الى المحاكم العسكرية.
والى القوميين الراديكاليين، أضاف بعض السياسيين المحافظين، لا سيما أبرزهم نوري السعيد، جهودهم. فما بين خلط بين اليهودية والشيوعية عشية اندلاع الحرب الباردة، وما بين تغطية على مصاعب داخلية وعربية بلغت ذروتها في حرب 1948، ساد ربط عجيب بين وضع المواطنين في العراق وبين عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم. وكان نوري نفسه صاحب الفكرة القائلة بتعويض الأخيرين من ممتلكات الأولين في العراق.
وفي الغضون هذه أدلت الحركة الصهيونية بدلوها، فأشرفت على حملة تفجيرات طاولت أحياء اليهود العراقيين علّها تحملهم على مغادرة بلادهم خوفاً ويأساً. والحال أنه رغم الفرهود، ورغم كل التضييق والتهديد اللذين عانوهما، بلغ اجمالي اليهود العراقيين الذين هاجروا الى فلسطين ما بين 1919 و1948، 7995 شخصاً فحسب. ولما كانت اسرائيل الناشئة لتوّها بحاجة الى مهاجرين صدر، عام 1950، القانون الذي يسهّل على الصهيونية عملها. فقد أتاح لمواطني البلد هؤلاء ان يتخلوا عن جنسيتهم شريطة أن يغادروا الى الأبد. وهنا ابتدأت عملية صودرت بموجبها أملاكهم وانخفض عددهم من 117 الفاً، أو 6،2 في المئة من إجمالي السكان حينها، الى أقل من 60 مُسناً اليوم.
على ان المياه المسمومة سالت بغزارة، ما بين هذين التاريخين، في "بلاد الرافدين".
فالآلاف القليلة التي بقيت بعد 1950 تعرضت لمزيد من الصعوبات في حياتها اليومية. ومع وصول البعث الى السلطة في 1963، مُنع على اليهود العراقيين بيع أملاكهم وأُجبروا كلهم على حمل بطاقة هوية صفراء، حتى اذا حلّت هزيمة 1967 عادت الأجواء تتلبّد من جديد الى ان رجع البعث الى الحكم بعد خمس سنوات.
لكن الظروف، في 1968، هبّت، مرةً أخرى، لإنجاد النوايا السيئة. ففي 4 كانون الأول ديسمبر أسفر هجوم جوي اسرائيلي عن 16 قتيلا و30 جريحاً بين القوات العراقية المتمركزة في الأردن، ولم يمر غير يوم واحد حتى انطلقت تظاهرة كبيرة نظّمها حزب البعث انطلاقاً من ساحة التحرير ببغداد نحو القصر الرئاسي. يومها حمل الحشد الذي قُدّر بأربعين ألفاً، يتقدمهم المسؤولون الحزبيون والرسميون ومجموعة من المقاومة الفلسطينية، أكفان الجنود القتلى، بما يرفع المسألة فوراً الى مصاف من الجدية يحاذي المقدّس، جاعلاً الحياد والمسافة أقرب الى ارتكاب الإثم. وفعلاً خاطب رئيس الجمهورية احمد حسن البكر الحشد لساعتين نقلهما التلفزيون: ف"في الوقت الذي نواجه فيه ضغطا متزايدا وهجمات متكررة على جيشنا البطولي"، كما قال، "نواجه حركات خيانية من رعاع الطابور الخامس والمؤيدين الجدد لأميركا واسرائيل. انهم يختبئون وراء الجبهات والشعارات التي عرفها الشعب وفضحها. هذه الحركات المشبوهة تتولى المهام المحددة لها وتنفّذ دورها في المؤامرة الاميركية. انهم يريدون ان يخلقوا إشاعة خبيثة واضطرابات توظّف لغرض القتل والتخريب والعمليات من وراء خطوط جبهة جيشنا البطولي... بهدف ابقائنا مشغولين عن المعركة الكبرى مع العدو الصهيوني". ولم ينس البكر ان يختم بما يليق بتلك المقدمات: ف"سوف نضرب بلا رحمة، بقبضة من حديد، اولئك المستغلين والطابور الخامس من صنائع الامبريالية والصهيونية". لكنه، بين وقت وآخر، كان يصرخ في الحشد: "ماذا نريد؟"، فيأتيه الجواب قاطعاً كالسيف: "الموت للجواسيس، استئصال الجواسيس، كل الجواسيس، بلا تأخير". وبعد أسابيع قليلة تولت وزارتا التعليم والاعلام نشر الخطاب وتوزيعه كمنشور بعنوان "كل شيء من اجل المعركة"، تتشكل منه ومما يماثله ثقافة الأمة.
ذاك ان النظام كان يعرف أن تصديق الأكاذيب البسيطة، على ما لاحظ ألكسيس دو توكفيل مرة، أسهل من تصديق الحقائق المعقدة. والحشود المأزومة التي لا يستطيع العهد الجديد ان يعطيها شيئاً ملموساً يستطيع أن يحشوها، على الأقل، أكاذيب. بيد ان الغباء كان ماثلاً هنا أيضاً: ففي 14 كانون الاول قدم التلفزيون العراقي تفصيلات بيانية عن كشفه الطابور الخامس المزعوم، وإذا بالشبكة التجسسية تخدم، في آن معاً، اسرائيل وايران والاكراد والرئيس اللبناني السابق كميل شمعون وشركة فورد للسيارات. وتمخّض جبل المؤامرة فولّد اتهاماً لتاجر أدوات مطبخية من يهود البصرة يُدعى ناجي زلخه، بأنه مدبّر الشبكة وشيطانها.
واستمرت مطاردة الساحرات ومضى النظام وراء أكباش المحارق يتوسّلهم تأسيساً لشرعية لا يملكها. ففي 5 كانون الثاني يناير 1969، جيء بالدفعة الاولى من "الجواسيس" الى المحاكمة العلنية. وعلى أعواد المشانق، في ساحة التحرير، عُلّق 14 متهماً في عدادهم 9 يهود، وسط خطابات حماسية وكثير من الضجيج الاحتفالي. فهناك تجمّع مئات آلاف المشاهدين لحضور "الحفل"، ومن أريافهم المجاورة في "المثلث السني" هبط الفلاحون المؤيدون "للحزب والثورة" كي يروا ويستمعوا ويشاركوا في رقصة الغرائز.
ولم يخيّب الوزير البعثي وعضو مجلس قيادة الثورة، صلاح عمر العلي، ظنّهم. فبصوت يقطر عاطفيةً خاطب الجمهور الذي كان يغني ويبصق ويرمي الحجارة: "يا شعب العراق العظيم. عراق اليوم سوف لن يتسامح مع اي خائن او جاسوس او عميل للطابور الخامس. انتِ يا اسرائيل اللقيطة، انتم ايها الامبرياليون الاميركان، وانتم ايها الصهاينة، اسمعوني. سوف نكتشف كل ألاعيبكم القذرة. سوف نعاقب عملاءكم. سوف نعدم كل جواسيسكم، حتى لو كان هناك الآلاف منهم".
ومضى الوزير متوعّداً: "يا شعب العراق العظيم. هذه هي مجرد بداية. الساحات العظيمة والخالدة للعراق سوف تُملأ بجثث الخونة والجواسيس. فقط انتظروا". وربما تذكر البعض، بعد اطّراح الفصاحة والبلاغة جانباً، خطبة قديمة للحجاج بن يوسف. لكن هؤلاء لا بد انهم تذكروا أيضاً أي دم تسبب به الحجاج وخطبته للعراقيين.
والحق ان الدم كان يفتتح العهد البعثي صوتاً وصورةً وأخلاقاً. فإذاعة بغداد دعت الناس ان يأتوا ويستمتعوا بالوليمة، مسمّيةً عمليات الشنق "خطوة اولى شجاعة على طريق تحرير فلسطين". وفي رد منها على الادانة الدولية التي صاحبت الاعدامات، قالت الاذاعة: "نحن شنقنا الجواسيس لكن اليهود صلبوا المسيح". وفيما لم يتوقف الإعلام والصحافة العراقيان عن صب الزيت على النار، انفجرت سيارات مفخخة في شوارع بغداد كتبت الصحف المتحمسة والمستعجلة عن بعضها قبل حصوله.
ولم يبق هناك ما يردع الغرائز المندفعة. ففي تلك المحاكمات اعتذرت هيئة الدفاع عن اضطرارها الى الدفاع عن جواسيس، لأنها لا تريد للخونة أن ينجوا من العقاب. وبالفعل "اعترف" المتهمون بالخيانة، الواحد بعد الآخر، بما نُسب اليهم. وبدا واضحاً، من الحجج التي قدّمها أقطاب النظام وإعلامه، ان الوعي العراقي مهدد بالردّ الى سويّة طفلية. فهذا الطقس القروسطي أريد منه توحيد الجموع حول الخرافة، ومنح الحشد البائس قوةً وتمكيناً وهميين حيال "عدو" مهيض الجناح، علّه يستعيض بالقوة والتمكين هذين عن بؤسه الفعلي.
ومشاهدو الاستعراض انطووا على أنواع شتى من الكبت والجوع والحرمان، من دون ان يندمجوا في نسيج المدن، ومن غير أن يُقبِلوا على تعددها بغير الريبة والعداء. ولهؤلاء كانت السياسات القومية مدى مفتوحاً لتصعيد رغبات مقموعة وكراهية ملحاح. لكنها لئن لقّنت أتباعها أن يروا الأعداء أنّى نظروا، فها هي تقول لهم الآن إن الإشباع متاح والعدو المهيض الجناح في قبضة اليد.
على أن المطلوب يبقى أكثر من هذا. فالحكم البعثي انما يضرب الضعيف ضربة يطير لها قلب القوي. وإذا كان لسياسة كهذه أن تودي بمناعة المجتمع، فان ابقاء المشانق معلقة والجثث متدلية لأيام، سيّدا الخوف على سائر المشاعر العراقية. وبسببه مرةً، وبسبب القوة الوهمية التي تعيد تدويره في آلة الوعي الرسمي مرةً، تفشّى إفساد عام عرفته الأنظمة التوتاليتارية جميعاً، مهدداً برفع الوشاية الى مصاف القيم النبيلة. وهذا ما عززته، منذ 1973، القدرات المالية الهائلة التي شرعت تتراكم في يد سلطة تكثّر الأجهزة وتضخّم الحزب.
لكن التعويد على الموت ونزع الأنسنة عن القتلى هما، من ناحية ثانية، أحد شروط القدرة على القتل. والقدرة هذه ذهبت بعيداً. ففي ذاك العام، 1969، صُفّيت حسابات كثيرة بعضها مع الموتى. فقد أُعلن رسمياً ان عبد السلام عارف كان عميلاً للسي آي أي، فيما كان الوزير رشيد مصلح "يعترف" بجاسوسيته ولا يلبث ان ينضم الى عبد السلام. وهذا ما فعله أيضاً زكي عبد الوهّاب، المدير السابق لشركة كوكا كولا في العراق مؤكداً على عمالته للبريطانيين. وفي تشرين الأول، صدر الحكم على عبد الرحمن البزاز بالسجن 15 سنة بتهمة العمالة للصهيونية. ولاحقاً كُتبت تقارير صحافية مطوّلة عن التعذيب الذي أُخضع له البزاز، أحد ألمع من تولوا رئاسة الحكومة في تاريخ العراق الحديث.
لكن الأساس البعيد لهذا السلوك كان يكمن في مكان آخر. ذاك ان طبيعة السلطة وضعفها أكثر ما يفسران، في آخر المطاف، هذا الهوس بالمؤامرات المصنوعة والمتَخَيّلة. وهما ما يجعلان للحركات والسكنات والايماءات دلالات مبالغاً فيها الى حد الوسوسة. فالبعث الذي لم يكن أعضاؤه يتجاوزون المئات القليلة حين حكم العراق، لا يملك من الثقة بالنفس ما يتيح له ممارسة الحكم بأعصاب مسترخية. أما ايديولوجيته، وهي من كل وادٍ عصا، فيصعب تحويلها لحمةً جامعة لفئة اجتماعية معينة. ثم ان افتقاره الى اي مبرر للوجود في السلطة، ما عدا الامساك بالسلطة نفسها، يحيل علة وجوده مادةً لتشكيك متواصل.
والأزمة التي تعانيها فكرة البعث في العراق لا تقلّ، والحال هذه، عن أزمة معنى. هكذا، مثلاً، رأينا البكر وصدام حسين يبحثان مبكراً عن تأليف تاريخي عراقي يضع العروبة فعلياً بين هلالين أو يخلطها بنقائضها. ففي السنة نفسها، أُعلن عن ابتداء "مهرجانات الربيع" التي تستلهم تراثاً وطقساً سابقين على الاسلام. وحين حل العام 1971، اعتمد المهرجان عدداً من نقاط البدء ترجع إحداها إلى سومر والبابليين القدامى.
صحيح ان هذا كله كان يُقدّمه التأويل الخرافي للتاريخ كأنه وجه آخر للعروبة ممهّد لها، وصحيح ان الثقافة البعثية الجديدة لم تكف عن توجيه الدروس المستقاة مما قبل التاريخ إلى الصهاينة، مستعينةً بنبوخذ نصّر وهو ينقل الأسرى اليهود من القدس إلى بابل. لكن الخلط بدا فاقعاً لكل من يريد ان يرى.
وفضلاً عن افتعاله، غالباً ما لاح التقدم على الطريق القومي مُعاقاً. ففي العراق أكثر من غيره، تكشّفت العروبة والقومية وفلسطين بصفتها ما تستعين به نزعات محلية محتقنة لا تستطيع، بذاتها، طرد المختلف من فردوسها. وبالمعنى هذا، تنحط الدعوة القومية من دعوة تاريخية الى النشأة والصيرورة، لتصير هوساً عصبياً وحزبياً يفتت ما هو قائم أصلاً ويقضي عليه.
ولئن حاول البعث التماهي مع الطائفة السنية العربية، وهي أصلاً أقلية عدداً، فقد تماهى مع قطاعها الأقل تقدماً في "المثلث السني"، لا سيما منه تكريت. أما بغداد وعائلاتها، هي التي مثّلت تاريخياً ركيزة البلد الاقتصادية والاجتماعية، السياسية والثقافية، فظلت ضيفاً ثقيلا على البعث يحاول تطويعها بالأرياف.
فتماهيه هذا، إذاً، قصّر عن تذليل الحقائق العنيدة للحياة العراقية. وكان ما يوجز بؤس التجربة تحميل إحدى اشد مناطق البلد تفتتاً مسؤولية الانتصار، ولو لفظاً، لعروبة جامعة مانعة. فالخصومة التقليدية بين عانة وراوة المتلاصقتين، في غرب "المثلث"، معروفة جيداً.
ومن التراث المشترك بين سكان تينك المدينتين، مثلاً، أن الراويين قصفوا العانيين في العشرينات بمدافع خلّفها العثمانيون وراءهم. وهكذا دواليك تعم وتنتشر الحساسيات التي ترتّبت على عصبيات صلبة. فسامراء التي أقيم فيها ضريحا الامامين علي الهادي وحسن العسكري، أثارت دائماً حسد تكريت لانتعاشها النسبي وانفتاحها على خارجها. وحين كانت سامراء قضاء تابعا للواء بغداد، لم تكن تكريت الا ناحية منها. وفقط بجهود مولود مخلص، في الثلاثينات، فُصلت الاخيرة وجُعلت قضاء يتبع العاصمة مباشرة. وثمة من يذكر ان التكارتة احتفلوا يومذاك ب"استقلالهم" احتفالا شهيراً. وعلى نحو مشابه ربطتهم حزازات ب"أبناء عمومتهم" أهل الدور التابعة اداريا لتكريت، فيما لم يكتم سكان الموصل بَرمهم الجماعي لأن القطار الذي يصلهم بالعاصمة محكوم بالمرور فيها.
وهذا كان معطوفا على مشكلة العراق نفسه الذي، منذ 1920، ولد محكوماً بأزمة تحوّله الى دولة-أمة، متساوقة مع مجتمعها. ولئن فشلت العهود المتلاحقة في التغلب على المعضلة المذكورة، جاء البعث وريثاً للفشل المتراكم وتعبيراً، في الآن نفسه، عن الرغبة في نجاح تحرزه الإرادية البحتة. هكذا تحول افتقاره الى اي من أدوات هذه المهمة مصدراً خصباً للقمع الداخلي، ومن بعده الحروب الخارجية. فالعراق البعثي، مثلاً، جاءت قوانينه بين قوانين اكثر الدول توتاليتارية في استثناء المخالفين سياسياً من المواطنية وحقوقها، وصار أمنه بمثابة حجر الزاوية الفعلي لكل بناء سياسي او انشاء قومي، فيما عاش على دساتير موقّتة تتتالى ولا تستقر على حال.
لكن هذه المقدمات إذا فسّرت القسر، فإنها أيضاً تفسّر الانكماش المتزايد في رقعة السلطة، وصولاً الى العائلة والبيت الواحدين. وحتى هذين الأخيرين، وكما سنرى لاحقاً، تعرّضا هما نفسهما الى التصديع والتآكل.
وكان أمران يعززان الاستعداد الخصب لما هو تآمري في النظام. فالخلاف مع سورية، وهي بوابة العراق الى سياسات العروبة، وسم سلوك بغداد بتوتر ظاهر. وأهم من هذا، العداء الصريح الذي واجهه حكم البعث من ايران الشاهنشاهية، خصوصاً وقد ضاعفت دعمها للأكراد، ما ضاعف ميوله الهستيرية.
وهكذا، في كانون الثاني 1970، كشفت أجهزة الأمن خطة لاطاحة النظام مدعومة من طهران، وكان الكشف هذه المرة أقرب من الكشوفات السابقة الى الحقيقة. فالشاه و"الحلف الاسلامي" يومذاك لم يُعرفا بأي ود للبعث، حتى لو اقتصرت "تقدميته" على ارتفاع صوته وأدائه المسرحي. والزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني الذي ضلع في المحاولة، كانت مرارته معروفة حيال حكم البعث في 1963، ناهيك بشوفينية دعوته القومية. بيد أن السلطة وقد ربطت التنفيذ باللواء عبد الغني الراوي، الذي شغل مناصب وزارية في عهد عارف، شكلت محكمة خاصة ضمت طه ياسين رمضان وناظم كزار، ونفّذت لتوّها الاعدام ب42 شخصاً، ماضيةً في توطيد قبضتها الأمنية.
على أن ذاك القدر من الصدق الذي حمل الحكم على تقديم أدلّة ما للجمهور، هو ما اختفى كلياً في التجارب المتخيّلَة اللاحقة. ففي 1974 اعتُقل قرابة 160 شخصاً من المهنيين ورجال الأعمال والأكاديميين والمثقفين بتهمة الماسونية. وقد ابتدأت المأساة الملهاة بفتح صندوق أمانات مغلق بعد انتهاء مهلة ال15 عاماً المحددة. فلما فتحته السلطات "وجدت" قائمة بأسماء مدعوّين الى حفل أقيم في 1942 في بيت المايجور البريطاني تشادويك الذي غادر العراق عام 1958.
وكان يصعب، تبعاً لأعمار أولئك "المتآمرين"، أن يكونوا من النوع الذي يهدد سلطة عسكرية، خصوصاً أن المتهم الأساسي كان في الثانية والتسعين. واذا صح ان الرجل هذا انضم فعلا الى المحفل الماسوني، فانه فعل في بومباي عام 1908، أي قبل عقد كامل على انهيار السلطنة العثمانية.
والحال أن سنوات 1968 و1975 و1976، أنتجت من القوانين والقرارات والتعديلات الدستورية ما يقضي بإعدام أصناف من البشر الاعداء الذين كفوا عن الوجود في العراق، كالماسونيين والصهاينة.
ما لم يكفّ عن الوجود، على أي حال، كان عُظام البعثيين المستفحل الذي لا يرى في الكون الا المؤامرات. فمن لا يملك الا المطارق لا تقع عينه، في آخر المطاف، الا على المسامير. وكم بدت باردة، بل مثيرة للضحك، مقارنات عقدها بعض البعثيين يومذاك بالثورتين الفرنسية والروسية، لإقناع العالم بأنهم يملكون شيئاً آخر غير القمع. وكان كافياً أن الثورتين المذكورتين شابهتا الانقلاب العراقي في التعرّض ل"مؤامرات" الخارج وحروبه، وفي الاعتماد على الارهاب، للايحاء بشَبه أعمق وأبعد. على ان النزعة السلطوية الحادة والمبالغات الأمنية واحتدام الصراعات مع الجوار لا تلخص كل شيء. ففي مقابل مشروعين أرادهما القادة اليعاقبة والبلاشفة لتغيير العالم، نضح الانقلاب العراقي بتآمر مجاني وظيفته تثبيت أصحابه في السلطة لا غير والبحث، بعد ذاك، عن قضية.
وما بين مطارق هي كل عدّتهم، ومسامير هي كل العالم المحيط، أُسست "جمهورية خوف" قاربت الخيال الخرافي، حتى أمكن الظن أنها ميثولوجيا أخرى تنتجها "بلاد ما بين النهرين" التي سبق أن أعطت البشرية الميثولوجيا.
الحلقة السادسة الثلثاء المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.