القبض على باكستاني يروج الشبو بالشرقية    37 بلدة جنوبية مسحها الجيش الإسرائيلي وأكثر من 40 ألف وحدة سكنية دمرت    أطفال اليمن يتألقون بتراثهم الأصيل في حديقة السويدي    الولايات المتحدة تختار الرئيس ال47    مع سباق البيت الأبيض.. من يهيمن على الكونغرس الأمريكي؟    سيناريو التعادل .. ماذا لو حصل كل مرشح على 269 صوتاً؟    "الصناعة والثروة المعدنية" تعلن فوز 11 شركة محلية وعالمية برخص الكشف في 6 مواقع تعدينية    الطائرة الإغاثية السعودية ال19 تصل إلى لبنان    مركز مشاريع البنية التحتية بالرياض يشارك في المنتدى الحضري العالمي الثاني عشر بالقاهرة    توقعات بهطول الأمطار الرعدية على 5 مناطق    اليوم الحاسم.. المخاوف تهيمن على الاقتراعات الأمريكية    المملكة تثري الثقافة العربية بانطلاق أعمال مبادرتها "الأسبوع العربي في اليونسكو" في باريس    أرباح «أرامكو» تتجاوز التوقعات رغم تراجعها إلى 27.56 مليار دولار    إشكالية نقد الصحوة    الاتفاق يواجه القادسية الكويتي في دوري أبطال الخليج للأندية    تركيا: نستهدف رفع حجم التجارة مع السعودية إلى 30 مليار دولار    المملكة تستحوذ على المركز الأول عالمياً في تصدير وإنتاج التمور    «التعليم»: 5 حالات تتيح للطلاب التغيب عن أداء الاختبارات    الأسمري ل«عكاظ»: 720 مصلحاً ومصلحة أصدروا 372 ألف وثيقة    الاختبارات.. ضوابط وتسهيلات    النصر لا يخشى «العين»    الهلال يمزق شباك الاستقلال الإيراني بثلاثية في نخبة آسيا    المملكة ومولدوفا تعززان التعاون الثنائي    «جاهز للعرض» يستقطب فناني الشرقية    12 تخصصاً عصبياً يناقشه نخبة من العلماء والمتخصصين بالخبر.. الخميس    المحميات وأهمية الهوية السياحية المتفردة لكل محمية    سلوكيات خاطئة في السينما    إعادة نشر !    «DNA» آخر في الأهلي    العلاج في الخارج.. حاجة أم عادة؟    زرًعِية الشبحة القمح العضوي    تنوع تراثي    مسلسل حفريات الشوارع    للتميُّز..عنوان    لماذا رسوم المدارس العالمية تفوق المدارس المحلية؟    منظومة رقمية متطورة للقدية    الأمير عبدالعزيز بن سعود يتابع سير العمل في قيادة القوات الخاصة للأمن والحماية    غيبوبة توقف ذاكرة ستيني عند عام 1980    " المعاناة التي تنتظر الهلال"    في الجولة الرابعة من دوري أبطال أوروبا.. قمة بين ريال مدريد وميلان.. وألونسو يعود إلى ليفربول    1800 شهيد فلسطيني في العملية البرية الإسرائيلية بغزة    نحتاج هيئة لمكافحة الفوضى    في شهر ديسمبر المقبل.. مهرجان شتاء طنطورة يعود للعلا    كلمات تُعيد الروح    قصص من العُمرة    ربط الرحلات بالذكاء الاصطناعي في «خرائط جوجل»    الأمير تركي بن طلال يستقبل أمير منطقة الجوف    الاستقلالية المطلقة    تشخيص حالات نقص افراز الغدة الدرقيه خلال الحمل    النظام الغذائي المحاكي للصيام يحسن صحة الكلى    أمير تبوك يستقبل قنصل بنغلاديش    «تطوير المدينة» تستعرض التنمية المستدامة في القاهرة    سعود بن بندر يهنئ مدير فرع التجارة بالشرقية    وزير الدفاع يستقبل نظيره العراقي ويوقّعان مذكرة تفاهم للتعاون العسكري    السعودية تؤكد دعمها لجهود التنوع الأحيائي وتدعو لمؤتمر مكافحة التصحر بالرياض    قائد القوات المشتركة يستقبل الشيخ السديس        مقال ذو نوافذ مُطِلَّة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من نكبة فلسطين الى حروب الخليج المتلاحقة : عشرة أفلام لعشر حروب عربية . لكل حرب فيلمها و"الأشطر" من كان يحول الهزائم الى يقين ايديولوجي
نشر في الحياة يوم 11 - 04 - 2003

لو شاء المرء أن يعبر في فيلم سينمائي عن الحرب التي لا تزال مستعرة حتى كتابة هذه السطور بين قوات التحالف الأنغلو - ساكسوني بزعامة واشنطن، وما تبقى من قوات موالية للرئيس العراقي صدام حسين، ما الذي يمكن أن يكون عليه الموضوع الأكثر جاذبية وتمثيلاً لهذه الحرب التي خاضها بوش على رغم وقوف معظم سكان الكرة الأرضية ضده، ولم يمانع صدام حسين في خوضها مع علمه أنه خاسر فيها لا محالة، ولسوف تسفر عن ضحايا ودمار أكيدين؟
الباحث عن موضوع قد يجد أمامه عشرات المواضيع، بل ألوف الصور التي يمكن كلاً منها أن يخلق موضوعه: من صورة المواطن العراقي الذي يخبط بحذائه صورة القائد الملهم وبغداد تُنهب، الى صورة الشعب البائس الجائع في البصرة وأم قصر، والذي لا يعرف كما يبدو شيئاً عن "مؤونة السبعة أشهر التي أمنها النظام في كل بيت"، وذلك مروراً بصورة صدام وابنيه ومعاونيه يبتسمون متداولين أخبار النصر، وصورة تلك الشخصية الشكسبيرية المدهشة، شخصية وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف وهو يؤكد، وابتسامة الاطمئنان والظفر على شفتيه، ان قوات صدام جاهزة لذبح المعتدين. أو تراها صورة كل أولئك المحللين والخبراء الاستراتيجيين العرب يتصورون أمام كاميرات التلفزة شارحين مفسرين أموراً لم تحدث أبداً؟ أو صورة "الجماهير العربية الهادرة" وهي ترفع صور ذاك الذي أذاقها مرارة الهزيمة ثلاث مرات على الأقل خلال العقود الثلاثة الأخيرة؟ ربما كل هذا، وربما أي شيء من هذا، طالما ان الموضوع الذي يمكن أن ينفع ليحول فيلماً، عن حق وحقيق، هو ذاك الذي لا يمكن أن يمتلكه أي سينمائي عربي: موضوع أسيرة الحرب الأميركية جيسيكا لينش التي خلصها جنود أميركيون في عملية مدهشة، ولكن بفضل طبيب عراقي وزوجته...
إننا هنا نطرح هذا السؤال المبكر؟! انطلاقاً من أننا نؤمن، سينمائياً، بقول نقله الكاتب الأرجنتيني، بورخس عن مالارميه، من أن كل أحداث العالم تبدو كأنها جرت لكي توضع في نهاية الأمر في كتاب. وهنا نستبدل الكتاب بالفيلم، تلفزيونياً كان أم سينمائياً، لأن ما يمكن رصده، في صدد هذه الحرب الأخيرة، هو أنها كانت واحدة من أكثر الحروب تصويراً خلال العقود الأخيرة، تماماً كما انطلاقاً من أن التحقيقات التي نقلتها الصحافة من حول الحياة في بغداد تحت الحصار، أشارت الى ان المتفرجين العراقيين استهلكوا من شرائط الفيديو لسهراتهم أضعاف أضعاف ما استهلكوا في أية حقبة أخرى، وأن حصة الأسد كانت لأفلام الحروب... والأميركية منها بخاصة. فإذا ما أضفنا الى هذا أن الوزير الصحاف نفسه لطالما استشهد أمام الصحافيين، خلال لقاءاته المطمئنة معهم، بأفلام أميركية مثل "سقوط النسر الأسود" ليعدهم بدحر "المعتدين" يصبح من المنطق أن نعود الى السؤال الذي نطرح: أي فيلم هو الأنسب لهذه لحرب؟
البطريرك ومجنون الحرب
في الحقيقة أن الموضوع الأوفر حظاً، في اعتقادنا هنا، انما هو موضوع يبدو لنا ممتزجاً من عملين شهيرين، أولهما سينمائي وهو فيلم "دكتور سترانجلاف..." للأميركي ستانلي كوبريك، والثاني أدبي هو "طريق البطريرك" للكاتب الكولومبي الكبير غارسيا ماركيز... هذا لكي نكون عادلين بعض الشيء، طالما ان الأول يتحدث، بسخرية مرعبة عن مجنون حرب في واشنطن لن يهدأ له بال حتى يدمر العالم الاتحاد السوفياتي أولاً، والثاني يتحدث عن ديكتاتور عجوز دموي قابع في قصره الآن كالجرذ المطارد. وفي يقيننا ان حرباً شُخْصنت الى هذه الدرجة، لن ينفعها إلا هذا الموضوع، ولتعذرنا المواضيع الأخرى كلها... إذ يمكنها الانتظار.
والحقيقة أنه لو تمكن سينمائي عربي من تحقيق فيلم مثل هذا، عن حرب مثل هذه، سيأتي فيلمه ليضاف الى سلسلة من عشرة أفلام أردنا هنا أن نتوقف عندها بعض الشيء كنماذج من التعاطي العربي مع سينما الحرب. وقد آثرنا هنا أن نتوقف عند فيلم واحد مرتبط بكل حرب، حتى وإن كنا نعرف أن معظم الحروب كان لها أكثر من فيلم، وربما أعداد من الأفلام لا تحصى. واخترنا أن نتوقف هنا عند الحروب العشر الرئيسة التي عرفها العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، تقريباً، علماً أن هناك حروباً أخرى، وأفلاماً أخرى... لكن الحيز لا يتسع بالتأكيد لدراسة مطولة. أما الحروب التي يمكن التوقف عندها هنا، بالنسبة الينا فهي: "حرب فلسطين الممتدة من 1948 وحتى اليوم من دون انقطاع تقريباً، ثم "العدوان الثلاثي على مصر" 1956 ف"الثورة الجزائرية" 1954 - 1962، ف"حرب اليمن" أوائل الستينات ثم "حرب 1967، أو هزيمة حزيران/ يونيو 1967 ف"حرب الاستنزاف" أواخر الستينات و"حرب تشرين" 1973 و"الحرب اللبنانية" 1975 - 1991 وحرب "ايران - العراق" بداية الثمانينات، وأخيراً "حرب الخليج الأولى" التي شنتها قوات تحالف دولي واسع بقيادة الولايات المتحدة، ضد نظام صدام حسين بعد غزوه أراضي الكويت.
منذ البداية حرب فلسطين لم يكن لها فيلمها الخاص... وحتى الآن لا يزال المقطع الأول لتلك الحرب نكبة 1948 من دون فيلم، وإن كانت جرت الإشارة الى تلك الحرب، إنسانياً وظفراوياً، في الكثير من الأفلام، قبل أن يكون لمستتبعاتها المتواصلة أفلامها. أما الفيلم الأول الذي دنا من تلك القضية في بدايتها، إذا استثنينا "فتاة من فلسطين" البؤسوي العاطفي، فهو فيلم "أرض السلام" لكمال الشيخ 1957 الذي آثر الدنو من القضية الفلسطينية وضياع فلسطين من خلال حكاية ثلاثة فدائيين مصريين يتوجهون الى أرض فلسطين فلا يبقى منهم سوى الشاب أحمد الذي إذ كاد يسقط ينقذه لاجئون فروا من مجازر دير ياسين. وتكون النتيجة أن يقع في غرام صبية منهم هي فاتن حمامة، وهنا تتحول الحكاية الى غيرة ووشاية، إذ ان توفيق الدقن الغيور يشي بأحمد للإسرائيليين، لكن الضحية يكون ابن الواشي. أما الحب فينتصر ويسير في موكب نصر يجمع أحمد بفاتن حمامة. واضح أن هذا الفيلم لم يكن ليفتقر الى النيات الطيبة على رغم سذاجته، لكن الطريف انه لا يزال يثير حماسة لدى المتفرجين حتى اليوم كلما عرض على الشاشة، كما يثير سخريتهم من الضابط الاسرائيلي الذي يتوقف لقضاء حاجته! ورجاله مصطفون من حوله، في واحد من أشهر مشاهد السينما الوطنية العربية.
قوى ولكن غاشمة
بعد نكبة فلسطين بأقل من عشر سنوات كان هناك الاعتداء الفرنسي - البريطاني - الاسرائيلي على مصر الناصرية التي كان زعيمها أمّم قناة السويس أملاً بالحصول على أموال يبني بها السد العالي. هذه الحرب التي جرت في العام 1956 يطلق عليها الرأي العام العربي اسم "العدوان الثلاثي"، وقد خلدتها السينما في عدد من الأفلام ومنها "عمالقة البحار" الذي يروي قصة الضابط البحري السوري جول جمال الذي فجَّر، على متن زورق صغير، سفينة حربية معادية. وكان من الواضح أن هذا الفيلم يريد أن يتغنى بالأخوة السورية - المصرية خلال تلك المرحلة. ومن هنا غلب عليه الطابع الدعائي الخطابي. وكذلك كانت أيضاً حال "بورسعيد" الذي سيظل أشهر فيلم تحدث عن "بطولات الشعب المصري في تلك الحرب والانتصار على القوى الغاشمة" بحسب ما كتب ناقد يقول. "وبورسعيد" الذي حققه وكتبه عز الدين ذو الفقار، على عكس "أرض السلام" الذي يبدأ بالحرب لينتهي بالحب، يبدأ "بورسعيد" بالحب، من خلال علاقة شاب بفتاة ينتميان معاً الى أسرتين متجاورتين، ذهب رب كل منهما شهيداً في فلسطين. والغيرة حاضرة هنا أيضاً منذ البداية، انها غيرة الطبيبة الانكليزية التي تحب الشاب وتغريه دائماً، لكنه لا يستجيب. وإذ تقع الحرب، يختلط الحابل بالنابل، ويخوض الشاب شكري سرحان القتال، أما الطبيبة الانكليزية مس بات ليلى فوزي فإنها، وكما كان يجب أن تكون، تتكشف عن جاسوسة انكليزية لعينة، ما إن يكشف شكري سرحان أمرها حتى تتوارى بمساعدة أشرار آخرين كلهم أجانب كفار، معادون لمصر وشعبها، بمن فيهم شيكو الحلاق الأجنبي بدوره. وهكذا إذ تنتصر مصر، وينكشف الجواسيس، ينتصر الحب بدوره، على الشر.
الثورة الجزائرية، التي كانت مندلعة، منذ ما قبل العدوان الثلاثي، وستظل مندلعة لسنوات بعده، كانت أفضل حظاً، من الناحية السينمائية على الأقل. فلئن كان يوسف شاهين حولها في فيلم مصري عن "جميلة الجزائرية" الى مجرد حرب مشخصنة حصرت كل بطولات شعبها في أفعال الفدائية جميلة بوحيرد وقامت بدورها يومها عذراء الشاشة ماجدة، فإن السينمائيين الجزائريين أنفسهم، سرعان ما أمسكوا سينماهم بأيديهم ليحققوا عن ثورتهم وحربها عدداً جيداً من الأفلام، وصل واحد من أفضلها إطلاقاً، وهو "وقائع سنوات الجمر" 1975 لمحمد الأخضر حامينا الى أن يفوز بالسعفة الذهبية في مهرجان "كان" الفرنسي. وحامينا نفسه كان قدم فيلماً متميزاً عن الثورة نفسها قبل ذلك، هو "رياح الأوراس"، لكن "سنوات الجمر" كان أكثر حدة وقوة وجمالاً فنياً، ناهيك بأنه كان أيضاً واحداً من قلة من أفلام عربية سياسية تبتعد من الديماغوجية التي كانت سائدة حتى ذلك الحين، لتقدم صورة متنوعة وقريبة من الواقع لثورة كانت فيها تعرجات كثيرة. والحال أن فيلم حامينا ذاك، والذي سار في نقده الذاتي على خطى كان يوسف شاهين رسمها من قبله في "الأرض" كما في "العصفور" عاد وفتح الطريق لأفلام جزائرية عدة ابتعدت من الانتصاروية الديماغوجية لتطرح أسئلة قلقة مقلقة "نوة" لعبدالعزيز طلبي و"النحام" لمحمد بوعماري و"نوبة نساء جبل شنوة" لآسيا جبار. والحال أننا مع هذا النوع من الأفلام كنا قد صرنا جد بعيدين من ميلودراميات نكبة فلسطين والعدوان الثلاثي السينمائية. وأوصل حامينا والآخرون، كما فعل شاهين في مصر، لعبة فيلم الحرب السياسي الى سقف لا نزول عنه بعد ذاك.
غرام في اليمن
غير أن هذا الكلام لا يسري على الفيلم المصري الوحيد الذي حقق عن حرب اليمن، التي ساند الجيش المصري خلالها، في صراع عنيف ومدمر عسكرياً وسياسياً، جمهوريي اليمن ضد ملكيّيها الذين وجدوا مساندة قوية لهم من جانب المملكة العربية السعودية، ما أشعل أول صراع عربي - عربي حقيقي في التاريخ الحديث. هذا الفيلم هو "ثورة اليمن" للراحل عاطف سالم 1966، وهو مثل غيره من الأفلام "الحربية" أو "السياسية" التي كانت حققت حتى ذلك الحين في مصر، كان يدور أساساً من حول حكاية غرام: غرام منصور، الشاب اليمني الذي درس في القاهرة، ثم عاد الى اليمن ليكتشف كم أن حكم الإمام ظالم. ومنصور، إذ يغرم بصبية حسناء ماجدة، يجد نفسه عرضة لاضطهاد الإمام، ثم ينضم الى حلقة من عسكريين تخطط للإطاحة بالإمام، وتنجح المحاولة وينتصر الشعب و... يتزوج منصور من حبيبته.
إذاً، في موضوعه هذا، ينضم "ثورة اليمن" الى ذلك المد من الأفلام الوطنية التي لن تبدو في نهاية الأمر سوى شرائط دعائية مغمورة بالإيديولجيا، مع رغبتها في أن تزاوج بين العناصر التقليدية للفيلم المصري: ميلودراما، غيرة، نظام نجوم، انتصار الحب والنهاية السعيدة، وبين ايديولوجية الدولة الانتصاروية القائمة دائماً على أساس أن الحق والخير معنا، والعدو هو الشيطان. والحال أن هذا النوع من الأفلام كان فاعلاً، لأسباب عدة، منها أنه تضافر مع جهود اعلامية أخرى في زمن كان المد القومي لا يزال يعيش مرحلة صعوده، ومنها مكانة النجوم لدى "الجماهير" العريضة، وانخراط هؤلاء النجوم في اللعبة، ومنها أن التلفزة لم تكن وجدت بعد لتقديم صورة، ولو شبه حقيقية لما يحدث... فكانت تلك الشرائط الصور الوحيدة المطلة على الملايين.
ومن هنا كان ذلك الخلط بين الهزيمة والانتصار، بين الزعامة ومبدأ الحق، وهو ما سيختفي نسبياً بعد ذلك، وعلى الأقل من نمط معين من السينما المصرية.
ولم يكن اختفاؤه مصادفة، ذلك أن وصول حرب اليمن الى ما وصلت اليه، وهزيمة 1967 التي جاءت بعدها محبطة "الجماهير" العربية دافعة النخب الى التفكير، أو أن كان من شأنهما أن عرّيا "أكاذيب" السينما السابقة. فمع هزيمة جذرية من طراز هزيمة الجيوش والمجتمعات العربية في العام 1967، لم يعد أمام العربي إلا أن يطرح أسئلته على نفسه وأولها: لماذا نحن نُهزم باستمرار؟ ولئن كان الجواب عن هذا السؤال سيجيء في شكل جذري بعد سنوات، وبخاصة في فيلم "العصفور" ليوسف شاهين، فإن فيلماً آخر أكثر تواضعاً، وأقل مهنية لعلي عبدالخالق جاء في العام 1972 ليحاول الاجابة عن السؤال بأسلوب فني وانتاجي كان مأمولاً منه أن يؤسس لسينما عربية جديدة. وهذا الفيلم اعتبر منذ ذلك الحين فيلم حرب 1967 بامتياز، ذلك أنه عبر وببساطة عن فقد العربي لليقين. كان فيلم أسئلة وقلق لم تعتدهما السينما المصرية من قبل، بل حتى السينما العربية نفسها. ف"أغنية على الممر" وهو عنوان هذا الفيلم، لم يحدثنا عن الانتصارات ولا عن الآمال الكبيرة. اكتفى بأن يضعنا في مواجهة مجموعة من جنود محاصرين يتحدث كل منهم عن أحلامه الصغيرة وعن بيته الدافئ، من دون بطولات ومثل عليا من النوع المرتبط بفكر السلطة القومية المترهل. وليس في الفيلم نهاية سعيدة بالطبع، ذلك أن نهاية هزيمة 1967 لم تكن نهاية سعيدة.
نهاية الاستنزاف
بعد هزيمة 1967 في مصر، كانت هناك حرب الاستنزاف التي شنها عبدالناصر، بمساعدة السوفيات، ضد قوات الغزو الإسرائيلية. وها هي هذه الحرب، التي تكاد تكون منسية اليوم على رغم انها كادت تكون الجهد العربي الحقيقي الذي أنهك القوات الاسرائيلية لعقود طويلة من السنين، ها هي تنتج فيلمها بدورها. وهو فيلم حققه محمد راضي بعنوان "أبناء الصمت" عن قصة لمجيد طوبيا، وقابله النقد بترحاب. أحداث هذا الفيلم تمتد سنوات طويلة. لكن سنوات حرب الاستنزاف تمثل زمنها المفصلي، وذلك من خلال مجموعة من الجنود العاملين في صمت من أجل الانتصار. وإذ يؤرجحنا الفيلم بين حياتهم العسكرية وحياتهم المدنية، يكشف الكثير من العيوب الاجتماعية وضروب الانتهازية السياسية في مقابل تفاني المدافعين، على الجبهة وخلف خطوط العدو، عن الوطن.
والحال أن أهم ما في "أبناء الصمت" هو أنه وكما لن تفعل أفلام عدة حققت قبله وبعده عن "حرب أكتوبر" وما سمي يومها ب"العبور" أتى في العام 1974، وبعد "انتصار أكتوبر" بعام ليقول ان الانتصار لم يكن معجزة بنت يومها بل كان ثمرة لحرب الاستنزاف، تلك الحرب التي كان من صعوبتها أن "الصراع" كان يجب أن يخاض خلالها على جبهتين أساسيتين: الجبهة الخارجية حيث العدو قاس، مسلح وعنيف، والجبهة الداخلية حيث الفساد واللامبالاة مستشريان.
في "الرصاصة لا تزال في جيبي" الذي حققه حسام الدين مصطفى، والذي اعتبر فيلم "انتصار أكتوبر" بامتياز، على رغم أن "أكتوبر" كانت له أفلام كثيرة أخرى، انتصاروية بإفراط هي الأخرى وساذجة بإفراط أيضاً مثل "الوفاء العظيم" و"بدور" وما الى ذلك، في هذا الفيلم إذاً، نعود الى الايديولوجيا، ولكن مقلوبة هذه المرة. فالفيلم ليس عن "العبور العظيم" بقدر ما كان ضد "هزيمة 1967" من منطلق ديماغوجي أتى ليخدم الحكم الجديد الذي أقامه الرئيس أنور السادات. وكل هذا يأتي أيضاً من خلال حكاية غرام ساذجة كتبها احسان عبدالقدوس، عن ذلك المجند الذي يُهزم في حرب 1967 ليدرك ان من هزمه انما هو سلطة جمال عبدالناصر، وإن في ترميز واضح، لذلك يبقي بعد الهزيمة رصاصة في جيبه، لا يستخدمها لاحقاً حين ينتصر هو نفسه، وتنتصر معه حكاية حبه لفاطمة "المغتصبة" من السلطة المحلية ممثلة بعباس... الذي يكاد يكون عبدالناصر نفسه ضمن اطار منطق الفيلم المتهافت.
مصالح الأمة
واضح ان حسام الدين مصطفى عاد وتراجع بالسينما المصرية الحربية من مستوى القلق والتساؤل الانسانيين اللذين كانت أفلام مثل "العصفور" و"أغنية على الممر" وبعض أفلام السينما الجزائرية، قد أوصلت الفن السابع اليه، الى ذلك المستوى الذي كان سائداً أيام السينما المعبرة عن ايديولوجية السلطة لا أكثر. كل ما في الأمر ان السلطة تغيرت إذاً من جديد، صرنا أمام سينما اليقين. وعدنا الى صلب تلك المنظومة الفكرية التي حكمت دائماً وفي شكل اجمالي، معظم أفلام الحرب العربية، حيث الانطلاق دائماً من "هم القضية"، أي من بعد ايديولوجي مرسوم سلفاً، يتوافق مع ما قد تسميه العقلية القومية الحصينة "مصالح الأمة" التي هي هي في مثل تلك الظروف مصالح النظام الذي يمثلها من دون التفات - بالطبع - الى مصالح الفرد والمجتمع، وأهميتها في تلك المعمعة. انها العقلية التي ستقول لاحقاً في أغنية شاعت مع الانتفاضة الثانية، لا بأس أن يسقط منا مليون قتيل شرط ألا تضيع القدس، ومع حرب الخليج الثالثة: ليقتل أهل بغداد شرط ألا يسقط نظام البطل الألمعي.
وكان هذا بالطبع، هو الفكر الذي هيمن على رأس المسؤولين العراقيين حين قرروا أن يكون لحربهم - غير المبررة على الإطلاق - ضد ايران، فيلمها أيضاً. وهنا، لأن الزمن لا أهمية له لدى مثل هذه العقلية العربية، كان لا بأس من اللجوء الى الماضي. فكما ان الحرب على العراق سميت ب"قادسية صدام" كان لا بد من استخراج معركة القادسية من بطون التاريخ لتحويلها شريطاً استورد صلاح أبو سيف وحفنة من مصريين أخر، من مصر لتحقيقه. طبعاً ستحقق في العراق في الوقت نفسه أو بعده، أفلام كثيرة لتمجيد "قادسية صدام" تلك وكذلك لتمجيد حياة "بطل القادسية" هذا، لكن "القادسية" سيظل الأكثر تمثيلاً، طالما أنه استنهض همة التاريخ ليزرع الحقد والكراهية ويؤدلج حرباً حديثة على ضوء تاريخ غابر يمجد الفتح العربي لفارس من منطلقات شوفينية خالصة.
في شكل عام، نجت الحرب اللبنانية في معظم ما حقق عنها من أفلام من تلك الأبعاد. فهنا لم تعد الشوفينية ممكنة، ولم يعد اليقين وارداً. انها حرب عبثية بدت في معظم لحظاتها من دون مبرر ومن دون نهاية. وهكذا إذ التقط السينمائيون فصول هذه الحروب المتتالية ليصنعوا سينماهم، وليؤسسوا في طريقهم لقيام سينما لبنانية حقيقية، أدركوا منذ البداية ان سينما القلق والسؤال هي الوحيدة الممكنة، وكانت الدروس المصرية المتقدمة، والجزائرية أمامهم. وهكذا تحقق عدد من أفلام بدت قاسية على الحرب قسوة الحرب على لبنان.
ولئن كان في الإمكان التوقف عند واحد من هذه الأفلام، فمن المؤكد ان هذا الفيلم سيكون "حروب صغيرة"، ذلك ان مخرجه الراحل مارون بغدادي، حتى وإن لم يكن يعتبر نفسه، زمن تحقيقه الفيلم، خارج الحرب تماماً، عرف فيه كيف يزرع أسئلة القلق السوداء، وكيف يرسم مصائر الأفراد، من دون انتصاروية مزيفة، ومن دون ايديولوجية مضللة: انها الحرب في عريها التام، مكان للكذب والأسطورة والقتل. القتل المادي والقتل المعنوي. ففي الحرب ليس هناك منتصرون ومهزومون... بل ليس هناك أبرياء. وما تحوّل بطله طلال من شاب متنور عاشق، الى زعيم حربي لمجرد أن أباه الزعيم قد قتل، سوى تحقيق الوعد الذي تعد الحروب الناس به.
العربي الممزق
وشيء قريب من هذا قاله فيلم "العاصفة" لخالد يوسف، تلميذ يوسف شاهين، والذي كان آخر الوافدين الى هذا النوع من السينما، بفيلمه هذا الذي حققه قبل عامين، عن حرب الخليج الثانية، أي عن حرب الخليج التي نتجت من غزو قوات صدام حسين الكويت، ثم وجد عرب أنفسهم يقاتلون فيها ضمن اطار قوات التحالف ضد عرب آخرين يقاتلون تحت إمرة صدام حسين. وهؤلاء العرب رمز اليهم خالد يوسف في فيلمه المحكم الصنع على رغم التباس موضوعه بعض الشيء، الى اخوين مصريين، جند كل منهما قسراً لدى طرف من طرفي الحرب: الأول لأنه كان مقيماً يعمل في بغداد، فضُم الى الجيش العراقي، والثاني لأنه جند قسراً في القوات المصرية المتوجهة لتحارب القوات العراقية. مبدئياً قد يبدو هذا الحل الفني مفتعلاً، لكنه تبدى فعالاً على مستوى الرمز. وبه تمكن خالد يوسف من أن يجعل لتلك الحرب فيلمها: الفيلم المعبّر حقاً عن تمزق الإنسان العربي وضياعه أمام حرب فرضت عليه. وهو ما لم تكن السينما العربية اقتربت منه إلا نادراً في الماضي. ذلك ان سينما الحرب العربية ظلت على الدوام محصورة، كما فصلنا أعلاه وكما سبق أن قلنا في مجال آخر، عن أن الغياب الأكبر في عشرات الأفلام العربية التي تحدثت عن الحروب، ودائماً من موقع تمجيد الانتصار، وتأليه الحرب والقتال ودعوة السلاح الى أن يظل "صاحياً على الدوام" لو نامت الدنيا... حاسهر مع سلاحي" كما يقول شعر محسن الخياط الذي أنشده عبدالحليم حافظ في "خللي السلاح صاحي"، الغياب الأكبر كان غياب الفرد الذي نظرت اليه الأفلام دائماً على أنه مجرد رصاصة في بندقية الحرب.
من هذا المنظور، نجدها نادرة تلك الأفلام التي وضعت الفرد في مواجهة أسئلته الحقيقية والقلقة عن الحرب وجدواها، وعما إذا كان هناك حقاً ما يمكننا أن نسميه "حرباً عادلة". فالحرب، بالنسبة الى السينمائيين العرب، "أكثر جدية من أن نترك أمر الاهتمام بها الى ذاتية المبدعين". وحين تكون الحرب هي الموضوع، لا يكون ثمة مجال لأي انتقاد أو نقد ذاتي، أو حتى لتصوير العدو تحت لمحات انسانية.
وإذا ما حدث يوماً لمخرج تونسي، مثل رضا الباهي، ان وضع في فيلم له شخصية جندي اسرائيلي يطرح على نفسه أسئلة تتعلق بجدوى قتله الأطفال الفلسطينيين واصلاً الى حد استشارة طبيب نفساني، تحل اللعنة على هذا المخرج، لأنه يحاول ولو في هذا الشكل الموارب العكسي أن يؤنسن العدو بعض الشيء.
وإذا حاول مارون بغدادي، ولو من موقع افتتان كلي بالخاطفين من أبناء بلده، ان يتعاطف بعض الشيء مع الأجنبي المخطوف من دون ذنب، يهاجم ويرجم طبقاً لمقولة نصر الأخ ظالماً كان أم مظلوماً. ثم إذا أتى محمد الأخضر حامينا، وحاول أن يقول وحتى من خلال تأريخه للنضال الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، ان تناقضات في الصفوف الوطنية قد وجدت وأساءت الى الثورة، يهاجم بصفته "عميلاً للاستعمار الفرنسي". أما إذا جاء علي عبدالخالق في "أغنية على الممر" ليعطي جنوده المحاصرين المهزومين، ماضياً وتاريخاً وحنيناً وندماً، فإنه يشجب لأنه "يبطن من خلال هذا موقفاً يقف في التعارض مع مصلحة الأمة".
وذلك، في بساطة، لأن الحرب تشكل جزءاً من تاريخنا، ولأن تاريخنا هو تاريخ الجمع، لا تاريخ الفرد. ولأن تاريخنا، ككل تاريخ يحمله قوم من الأقوام على أكتفاهم هو تاريخ مقدس، يُصنع جماعياً، ويُصدّق جماعياً، ويُطلُّ على الدوام باسطاً سلطانه وسلطان الجماعة فوق كاهل الأفراد يكبّلهم... وصولاً حتى تدميرهم والغائهم.
ومثل هذا التاريخ في جبروته وهيمنته الكلية وفي حضوره حتى في قلب اليومي من حياتنا، لا يعود فيه مكان للفرد... ولا حتى لمحاسبة الفرد لنفسه.
وفي يقيننا أن جزءاً أساسياً من مشكلتنا الانطولوجية في حياتنا الراهنة، يرتبط بهذا الواقع. بغياب الفرد. ولما كانت الحرب جزءاً أساسياً من هذا الواقع، جزءاً يتجدد باستمرار، على ايقاع الحروب والمعضلات والمشكلات التي نعيش، بل وربما تكون أسلوب مجابهتنا الوحيد، في الواقع وفي التخيل لعصر يجابهنا ويرعبنا دخوله، كما يرعبنا التخلي عنه كلياً، بات من المنطقي أن الموقف من الحرب، سواء كان جماعياً ممجداً - وهو ما تعبر عنه وتدعو اليه معظم أفلام الحرب العربية - أم كان ناقداً - وهو ما يتعين على الفرد أن يمارسه كوسيلة لتوكيد فرديته - يصبح جزءاً من صورة دخولنا العصر أو خروجنا منه.
ويبقى هنا سؤالنا الأخير والجديد: كيف سيكون الفيلم الباقي الذي نأمل أن يكون "الفيلم الأخير"، الفيلم الذي سيتحدث عن الحرب الحادية عشرة: حرب اسقاط نظام صدام حسين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.