بعد الانتصار السينمائي العربي الأول في مهرجان «كان» الدولي عبر فيلم «وقائع سنوات الجمر» للجزائري محمد الأخضر حامينا الذي نال السعفة الذهبية في عام 1975، كان الانتصار الثاني الكبير في عام 1991 حين نال اللبناني الراحل لاحقاً مارون بغدادي جائزة لجنة التحكيم الكبرى عن فيلمه «خارج الحياة». بعد ذلك كان الانتصار الكبير ليوسف شاهين في عام 1997 حيث بدلاً من ان يفوز فيلمه المشارك في المسابقة الرسمية عامذاك «المصير» بجائزة كان شاهين يتطلع اليها بلهفة، فاز هو نفسه بجائزة الخمسينية التي توجّت عمله السينمائي ككل. وهذه الانتصارات العربية في «كان» والتي تناولناها على حلقات ثلاث خلال الأيام الفائتة، تكتمل مع الانتصار الرابع الذي حققه عام 2002، المخرج الفلسطيني ايليا سليمان حيث نال – كما مارون بغدادي قبله بأكثر من عقد من الزمان – جائزة لجنة التحكيم عن فيلمه «يد إلهية». والحقيقة أن فوز سليمان على هذه الشاكلة يومها تجاوز كثيراً المسألة السينمائية وقضية الإبداع حتى وإن كان الفوز يومها ارتبط بالبعد الفني والتعبيري الذي كان سمة أساسية في الفيلم. الحقيقة ان الحدث يومها كان، إضافة الى تلك «الولادة» على الصعيد العالمي لفيلم ومخرجه الذي قورن حيناً بجيم جارموش وحيناً بالممثل الكوميدي الأميركي من عهد السينما الصامتة، باستر كيتون – لأن ايليا سليمان يقوم عادة بتمثيل الدور الأول في أفلامه - ذكر اسم فلسطين في حفل الختام الذي يشاهده، إضافة الى نخبة اهل السينما والصحافة في «كان» عشرات الملايين من متفرجي التلفزة في شتى انحاء العالم. وهكذا اذ جرى تداول اسم فلسطين سينمائياً وإبداعياً على ذلك المستوى، كان الأمر جديداً في عالم اعتاد ربط اسم فلسطين بالعنف والبؤس والدماء وما الى ذلك. صحيح انه قبل «كان» كانت مهرجانات كثيرة في العالم تعطي جوائز للإنتاجات السينمائية الفلسطينية، ولكن في غالبية الأحيان كان منح هذه الجوائز فعلاً تعاطفياً سياسياً لا أكثر. في «كان» عام 2002، مع ايليا سليمان كان واضحاً أن للفوز الفلسطيني طعماً آخر، طعماً سينمائياً. وليس المرء في حاجة الى أكثر من مشاهدة «يد إلهية» نفسه حتى يخلص الى هذه النتيجة. لكنه كذلك في حاجة الى أن يتنبه إلى أن هذا الفيلم لم يكن أول تجارب ايليا سليمان اللافتة حقاً في مجال السينما «الروائية» الطويلة. مع العلم أننا تعمّدنا هنا أن نضع كلمة «روائية» بين معقوفتين لسبب واضح وهو أن سينما ايليا سليمان لا تخضع أصلاً للمعايير المعتادة في تقسيم الأفلام بين روائية ووثائقية وما أشبه. هي سينما تنهل من كل الصور والمشاهد الممكنة بحيث يختلط فيها الواقع بالمتخيّل. السياسي بالهزلي. صورة الذات بالصور المستقاة من العالم الخارجي. الحكايات العائلية الصغيرة بالتاريخ الكبير. الموت بالمنفى. العجز عن الفعل بالعجز عن تحمّل ذلك العجز. كلّ هذا موجود لدى ايليا سليمان وتحديداً في شكل فاقع في ثلاثة أفلام له تشكل تلك الثلاثية التي يكوّن «يد إلهية الجزء الثاني منها». لقد أشرنا في سطر سابق إلى أن «يد الهية» لم يكن أول فيلم طويل لإيليا سليمان. وإذا كان كثر في «كان» ذلك العام قد اكتشفوا وجوده ووجود سينماه، وربما وجود سينما وشعب فلسطينيين، للمرة الأولى فإن بعض الجمهور العربي كان عرف الكثير عن فيلم سابق له هو «سجلّ اختفاء» الذي حين عرض في مهرجان قرطاج التونسي اواسط تسعينات القرن الفائت قوبل بإعجاب كبير ولكن أيضاً بسجال أكبر. ويومها لم يكن أحد – ولا حتى ايليا سليمان ربما - يعرف ان الفيلم سيكون الجزء الأول من ثلاثية. بل ربما يمكننا أن نقول أيضاً إنه حتى حين عرض الجزء الثاتي في «كان» لم يكن ايليا سليمان يتصور أن ثمة فيلماً ثالثاً سينجزه لتكوين الثلاثية. فهل يمكننا أن نقول ان المستقبل قد يحمل جزءاً رابعاً ثم خامساً وهكذا بحيث يصبح إجمالي عمل سليمان فريد من نوعه في السينما العالمية؟ نطرح هذا التساؤل انطلاقاً من طبيعة «الثلاثية» نفسها فهي عمل سينمائي مفتوح. بل بالأحرى عمل قيد التكوّن في شكل متواصل. لا حكاية هناك متسلسلة الأحداث. لا خطّية سردية متواصلة. بل حين يتنطح جزء او فصل للحكي عن تاريخ فلسطين لا يحكيه في «تاريخيته» إنما في شكل متشظٍّ. وربما أكثر في انعكاسه على الذات الفردية (التي يمكن على أية حال أن ترمز إلى العام وإنما من دون أن يكون هذا الترميز همّاً أساسياً من هموم الفيلم المعلنة). وإذا كان محكّمو «كان» في عام فوز «يد إلهية» قد كرّموه بأكثر مما سيفعل محكمو دورة عام لاحق الذين وجدوا أن الجزء الثالث وعنوانه «الزمن الباقي» - 2008 - لايستحق فوزاً مماثلاً – وهو موقف خالفهم فيه كل الذين كتبوا عن الفيلم ووجدوا فيه بساطة اكثر وقوة تعبيرية أكبر - فإن ما يجدر قوله هنا هو ان الاجزاء الثلاثة والتي حققت خلال فترة زمنية تصل الى نحو خمس عشرة سنة، تشكل معاً فيلماً واحداً لموضوع واحد وبأسلوب سينمائي مبتكر ويكاد يكون متفرداً وشديد الخصوصية في تاريخ السينما. وهذا العمل هو في المقام الأول سيرة ذاتية قيد التكون للمخرج نفسه، ابن مدينة الناصرة في فلسطينالمحتلة ممن يسمّون «عرب 48» وسيرة ذاتية له تغوص من ناحية في الجذور من خلال ربطها بسيرة أبويه، كما تغوص في الحاضر من خلال تصوير المخرج نفسه حيناً وهو يسعى لتحقيق عمل وحيناً وهو يعود الى المدينة بعد غياب واحياناً ليشهد موت أبيه أو رحيل أمه. مرّة يكون حاضراً يستعيد ذكرياته ومرّة يكون اشبه بشخص غير مرئيّ. مرة يكون قادراً على التنقل كما يشاء بين مدينة وأخرى ومرّات يجد ألف حاجز في انتظاره. الحاجز يكون غالباً عسكرياً اسرائيلياً لكنه في مرّات قد يكون داخلياً ذاتياً. مرة يجد نفسه مع حبيبته عاجزين عند الحاجز دون الدخول الى القدس او الضفة فيكتفيان بإرسال بالون عليه صورة ياسر عرفات فيطير البالون عابراً الحواجز والقمع والسياسات محلّقاً فوق الأقصى. ومرّات عديدة يملأ فيها ايليا سليمان الشاشة ليغيب في مرات أقل تاركاً الشاشة لأبيه و «قرفه من الحكاية كلها ومن الناس جميعاً»، أو تاركاً الشاشة لأمه أو للاثنين معاً. أشياء كثيرة تحدث تباعاً أو في آن معاً في فيلم سليمان. وموسيقى كثيرة تصخب. موسيقى من كل الأنواع (الشعبي والكلاسيكي، المصري و الأوروبي واللبناني، القيّم والمبتذل... الخ) وللموسيقى عنده دور دلالي. بالكاد تستخدم تزيينياً. طبعاً نتحدث هنا عن «يد الهية» ولكننا نبدو كما لو كنا نتحدث عن الثلاثية كلها. ليس لأن هناك تكراراً بين جزء وآخر وليس لأن هناك تكاملاً. هناك بين الأجزاء الثلاثة ما يمكننا اعتباره جيئة وذهاباً: هناك الحاح واستعادات واستطرادات يحركها ايليا سليمان في أفلامه على سجيته. ثم يقف هو داخل الفيلم مراقباً سلبياً غالباً. بالكاد يتكلم كممثل. بالكاد يسعى الى أية توكيدات كمخرج يكتب سياريوات أفلامه بنفسه. في اختصار نحن هنا امام نفس سينمائي خاص جداً لا يشبه سوى صاحبه. لكنه في الوقت نفسه يكاد يكون نسخة طبق الأصل من فلسطين في تاريخها وحاضرها. في تشتتها وحضورها. في آمال اهلها وإحباطاتهم. ومن هنا لم يكونوا بعيدين من الصواب اولئك النقاد والسينمائيون الذن قالوا عن «يد إلهية» (بعد عروضه المهرجانية في «كان» وقبل إعلان فوزه بجائزة لجنة التحكيم الكبرى وهي للمناسبة ثاني أكبر جائزة تمنح في «كان» ويعتبرها الجميع الجائزة التقديرية الأولى لأن لجنة التحكيم تحدّدها على مزاجها السينمائي الفني الخالص فيما معروف في المقابل أن منح الجائزة الأساسية أي «السعفة الذهبية» حتى وإن كان فني البعد غالباً، انما يخضع لحسابات واعتبارات متنوعة) إنه الفيلم الفلسطيني بامتياز، الفيلم الذي قال لهم عن فلسطين ما عجزت عن قوله من قبله عشرات الأفلام «الأكثر موضوعية ووضوحاً» ومن هنا كان فوزه «الكانيّ» فوزاً كبيراً للسينما كما لفلسطين. لكن المؤسف ان «يد الهية» اختتم - موقتاً كما نرجو وحتى الآن – سلسلة انتصارات عربية كبيرة في مهرجان «كان» الذي يعتبر أكبر مهرجان سينمائي في العالم. [email protected]