اذا تطلعت الى تاريخ أي صحيفة مصرية يومية تجد تاريخ اليوم بالتقويم الهجري ثم الميلادي ثم القبطي. التاريخ الثالث فقط يتعلق بمصر، وهو تاريخ اعتناق معظم السكان الديانة المسيحية. فالتاريخ الاول لا يبدأ مع الفتح الاسلامي لمصر، وانما يبدأ كما هو معروف مع هجرة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، والتاريخ الثاني هو التاريخ الذي يبدأ مع ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام في ما يعرف باسم التقويم الغريغوري. تساءل شادي عبدالسلام يوماً اين التقويم الفرعوني الذي يبدأ مع توحيد الوجهين وبداية العصر العتيق على يد مينا؟ وقد قضيت اياماً وقتذاك في وضعه، واهديته اليه، فجاء العصر العتيق من سنة 1 مصرية الى سنة 410 وهو عصر مينا مؤسس الاسرة الفرعونية الاولى، ويتضمن الاسرة الثانية ايضاً. وجاء عصر الرئيس حسني مبارك من سنة 5075 مصرية من دون حساب ما قبل مينا. وبعد فترة نسي كلانا الموضوع، وبدا كنوع من عبث المثقفين. ولكني اليوم، والجميع يتحدث عن عام 2000، وبداية القرن الحادي والعشرين 2001، وبداية الالفية الثالثة، اتذكر ذلك بكثير من الجدية. كل التواريخ "رسمية" والتاريخ الوحيد "العملي" الذي يتعامل به كل الناس في كل العالم هو تاريخ تقويم غريغوريوس. والسبب ببساطة اننا نعيش عصر الحضارة الغربية الحديثة منذ خمسة قرون. هل هناك إهانة ما في ذلك؟ كلا. الحضارة القديمة الوحيدة الباقية على ظهر الارض في الصين. فقط هناك يأكلون ويلبسون كما كان اجدادهم منذ اربعة آلاف سنة، ويعيشون العمارات نفسها، وفي الاسلوب نفسه، وينطقون باللغة نفسها. انها البلد الوحيد في العالم الذي يشارك في احتفالات الغرب بالعام 2000 المتمم للقرن العشرين الميلادي الآخر فهي لا تشارك، وانما تحتفل بالتاريخ الذي تعيش فيه وكذلك البلاد العربية. ومرة اخرى لا أجد في ذلك اي اهانة. ففي عصر الحضارة الغربية، كما كان الامر في عصور حضارات اخرى، المتحضر هو من يلحق بحضارة العصر. ولا يعني ذلك ان يقلد العرب او غيرهم من الشعوب ما يحدث في الغرب مثل القرود، ولا يعني ان يرددوا ما يتردد في الغرب مثل الببغاوات. فالتطور الحقيقي للفلاح ان يتطور كفلاح لا ان يتحول الى عامل في مصنع، وقد بدأ اتصال العرب بالحضارة الغربية قبل قرنين مع تولي محمد علي الحكم في مصر، وظلت الثقافة العربية باقية، وسوف تبقى ما بقي الانسان على الارض لأنها ترتبط باللغة العربية التي ترتبط ارتباطاً خاصاً بالقرآن الكريم دين الاغلبية من العرب، ولغة كل العرب من كل الاديان. يقال اليوم في عصر السموات المفتوحة ان قنوات الغرب التلفزيونية خطر علينا، والواقع ان قنوات العرب هي التي تمثل خطراً على الغرب. فما زلنا بعد مئتي سنة من الاتصال بالحضارة الانسانية الحديثة، وهي مثل كل حضارة خلاصة ما سبقت من حضارات، وليست فقط غربية، نأخذ منها القشور، ولا نلمس الجوهر، وهو النظام السياسي الديموقراطي، واحترام حرية الفرد وحقوق الانسان. تم اختراع السينما في نهاية القرن التاسع عشر، ولكنها اصبحت فناً في القرن العشرين. ومؤرخ الفنون لا يملك الا ان يعتبر هذا القرن هو قرن السينما، فكل الفنون الاخرى وجدت في القرون السابقة. ولم يشهد القرن العشرون مولد فن جديد غير السينما. ومنذ اختراعها كانت السينما فناً كوكبياً، فللمرة الاولى في التاريخ الانساني وجد الفن الذي يمكن عرضه في كل مكان في الوقت نفسه فور انتاجه عبر طبع نسخ بوزيتيف من الاصل النيغاتيف. ومنذ اختراعها كانت السينما فناً يرتبط بالتطور التكنولوجي وللمرة الاولى في التاريخ الانساني وجد الفن الذي يرتبط بالعلوم البحتة ويتغير من جمالياته التوصل الى خامة جديدة، او اختراع عدسة جديدة للتصوير. نعم: السينما اختراع غربي كان خلاصة جهود الكثيرين من العلماء في اوروبا والولايات المتحدة الاميركية. ولكن هذا الجهود لم تأت من فراغ، مثل كل الحضارة الغربية، وانما تمتد الى نظريات العالم العربي الحسن بن الهيثم في البصريات. ويقال عند العرب ان السينما فن "وافد" ولكنه "وافد" الى الهندواليابانوالبرازيل ايضاً، بل والى الكثير من دول اوروبا التي لم يساهم علماؤها في اختراع السينما. انه فن "وافد" الى جميع الشعوب، وقد صرخ الجمهور عندما رأى قطار لوميير يتقدم نحو الكاميرا - الشاشة في نيويورك كما في الاسكندرية، وفي بومباي كما في بيروت، غير ان مسيرة السينما اختلفت هنا وهناك حسب مدى درجة التطور في هذا المجتمع او ذاك. السينما هي دور العرض السينمائية وما تعرضه من افلام محلية او اجنبية او مشتركة، تمثيلية او تسجيلية او من افلام التحريك. وهي الاجناس الثلاثة للفن السينمائي، وبالطبع هناك وسائل اخرى لمشاهدة الافلام السينمائية مثل التلفزيون والفيديو واسطوانات الليزر وأقراص الكومبيوتر. ولكن الاصل في الفيلم ان يشاهد في دار للعرض السينمائي، تماماً مثل الاصل في اللوحة: ان تشاهدها في المعرض او المتحف، وليس في كارت بوستال او كتالوغ او كتاب وقد عرفت معظم شعوب العالم عروض الافلام الاجنبية في سنوات معدودة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بما في ذلك الشعوب العربية، ثم عرفت دور العرض، ولكن انتاج الافلام مسألة اخرى. اما افلام التحريك، فهي مكلفة، ولا يتجاوز عدد افلام التحريك العربية في قرن مئتي فيلم او نحو ذلك. معظمها مشاريع تخرج للطلبة والطالبات في معهد السينما في الجيزة في مصر. وأما الافلام التسجيلية العربية، والتي تزيد عن الف فيلم، فالغالبية الساحقة منها تنتج تحت عنوان "الدعاية والحفاوة" وهو التعبير الرسمي الذي تستخدمه البيروقراطية المصرية في ميزانيات الوزارات المختلفة لانتاج هذه الافلام. ولا تكاد توجد شركات خاصة لانتاج هذا النوع من الافلام. ولعل اهم تراث السينما التسجيلية العربية جريدة "مصر" الناطقة التي اصدرها ستوديو مصر منذ افتتاحه عام 1935 لمصورها حسن مراد. فعلى الرغم من انها تاريخ رسمي الا انها اعتبرت من ناحية اخرى المصدر الرئيسي للوثائق السينمائية، والتي يمكن اعادة استخدامها في افلام تسجيلية. اما الافلام التمثيلية القصيرة والطويلة العربية، اي الناطقة بالعربية سواء في عصر السينما الصامتة حيث كان الحوار مكتوباً في لوحات على الشاشة، أو في عصر السينما الناطقة حيث نطقت به الشخصيات، فيبلغ عددها نحو اربعة الاف فيلم منها حوالى ثلاثة الاف تم انتاجها في مصر منذ عام 1907، والف فيلم في الدول العربية الاخرى تم انتاج الغالبية الساحقة منها في الثلث الاخير من القرن. والسينما عند معظم الناس في العالم هي الافلام التمثيلية، والطويلة منها بالذات، اي التي تزيد مدة عرضها عن ساعة ونصف الساعة حسب التقليد الهوليودي الذي وضع في العشرينات واصبح سائداً في كل الدنيا. لا يمكن انتاج افلام تمثيلية في بلد لا يعرف المسرح، ولا يمكن بلداً ان يعرف المسرح من دون ان يسمح للمرأة بالتمثيل على المسرح، او على الاقل ان يؤدي رجال ادوار شخصيات نسائية. وبناء على فكرة ان التمثيل يتعارض مع الدين الاسلامي، منع رواد المسرح في الشام مثل مارون نقاش وأبي خيل القباني من الاستمرار في انتاج المسرحيات، فذهبوا الى مصر، ولا اقول هاجروا لأن الجميع كانوا في دولة واحدة هي الدولة العثمانية، وكانت مصر قد تحررت من الحكم العثماني فعليا وليس رسمياً مع تولي محمد على في بداية القرن التاسع عشر، وكانت قد عرفت التمثيل المسرحي عن طريق الفرق الاجنبية التي تعرض على مسارح الجاليات الاجنبية في الاسكندرية، وعلى مسرح دار الاوبرا في القاهرة منذ عام 1869. اخترعت السينما اذن والتمثيل حرام في البلاد العربية، ما عدا مصر. ولم يكن الامر سهلاً في مصر، ولذلك كانت البدايات في الاسكندرية، وقد كان معظم سكانها من اصول اوروبية، وكانت اولى الممثلات اما من يهود مصر او موارنة الشام. ومن مفارقات التاريخ ان اول ممثلة مصرية وقفت على المسرح كانت القبطية مريم سماط عام 1907 وهي السنة نفسها التي تم فيها انتاج اول فيلم مصري، وكان فيلماً تسجيلياً من اخراج ألفيزي اورفانيللي عن تجديد مسجد المرسي ابو العباس في الاسكندرية. اما اول ممثلة مصرية مسلمة فكانت منيرة المهدية عام 1915. وعلى رغم "النهضة" المسرحية التي شهدتها مصر في العشرينات، وعلى رغم إنشاء يوسف وهبي فرقة رمسيس عام 1923، وهي التي قدمت الرعيل الأول من ممثلات السينما المصريات، إلا أن أول محاولة قام بها زكي طليمات لإنشاء معهد للتمثيل عام 1930 أثارت معركة كبرى في مصر انتهت بإغلاق المعهد بعد أقل من سنة بسبب وجود فتيات في المعهد. ولم تعترف الدولة بوجود معهد للتمثيل يضم الذكور والإناث الا عام 1944. وبينما كانت الافلام التمثيلية الطويلة الأولى للسينمائيين المحترفين تقليداً للأفلام الأميركية، أو إعادة انتاج للمسرحيات المصرية المشهورة، وكانت بدورها منقولة عن مسرحيات الفودوفيل والمسرحيات المحكمة الصنع الفرنسية، كان الفيلم الأول الذي اعتمد على رواية مصرية "زينب" اخراج محمد كريم عام 1930، وقد أخذ عن رواية محمد حسين هيكل الذي خشي نشر اسمه عليها في طبعتها الأولى عام 1913 حتى لا يقال عنه أنه كاتب روايات. في كل بلاد العالم التي عرفت السينما هناك السينما بألف لام التعريف، مثل السينما الهندية أو السينما الفرنسية، الى آخره. وهناك سينما من دون ألف لام التعريف وهي تنتمي الى افراد من المخرجين او المخرجات. وهناك سينما امتداد للتراث الشعبي القصصي في الثقافة القومية، وتعبر عن العالم الفني لهذا التراث. اما سينما المخرجين والمخرجات فتعبر عن العالم الفني الخاص لهذا المخرج او تلك المخرجة بأسلوب خاص. وهذا التقسيم لا يعني بالضرورة ان كل من يخرجون الافلام في اطار السينما الشعبية من دون اسلوب خاص، كما ينفي وجود مخرجي الافلام في اطار السينما الشعبية من دون اسلوب خاص، كما لا ينفي وجود مخرجين ومخرجات لهم عالمهم الفني المستمد من التراث الشعبي. وحديثنا لا علاقة به بإقبال الجمهور على الافلام من عدمه. كل الفنون وليس فن السينما فقط، تنقسم الى شعبية وذاتية. وكل الفنون في السوق من رقص البالية الى عزف الموسيقى، وليس فقط الرسم والنحت والمسرح والسينما. ولكن الكلفة العالية نسبياً لانتاج الفيلم السينمائي تجعل له وضعاً خاصاً في السوق يؤدي الى سهولة انتاج الافلام الشعبية بقدر صعوبة انتاج الافلام الذاتية. ومن بين كل سينمات العالم الشعبية استطاعت السينما الاميركية وحدها ان تكون عالمية عن طريق شبكات التوزيع الدولية التي ادت الى "انتشار" السينما الاميركية الشعبية اكثر من غيرها. ففي كل بلاد العالم التي عرفت السينما هناك "سينمات" شعبية كما نقول، كان الانسان عدو ما يجهل، وعلى سبيل المثال فأفلام الكاوبوي رعاة البقر من صميم الثقافة الشعبية الاميركية، غير انها اليوم من صميم الثقافة السينمائية عند معظم شعوب العالم. ومثل غيرها من الدول التي عرفت السينما هناك سينما شعبية مصرية بدأت منذ عشرينات القرن العشرين، تبعاً لعدم وجود انتاج مماثل في الدول العربية الاخرى. وتحت تأثير الثقافة العربية التي تجمع بين العرب في مصر وخارج مصر اصبحت السينما المصرية الشعبية هي السينما الشعبية في كل الدول العربية، ولا تزال. فالسينما في لبنان مثلا او تونس تنقسم مثل غيرها الى سينما شعبية وأخرى ذاتية. ولكن السينما الشعبية في هذا البلد او ذاك، وعلى رغم انها تنطق بالعامية اللبنانية او العامية التونسية هي امتداد للسينما الشعبية المصرية الناطقة بالعامية المصرية لأنها السينما التي يعرفها الجمهور في لبنان او تونس. وليس في هذا الوضع فضل لمصر ولا عيب في لبنان او تونس، فقد كان البديل الوحيد للسينما المصرية الشعبية في البلاد العربية هو السينما الاميركية الشعبية او السينما الفرنسية الشعبية، في ظل عدم وجود نتاج سينمائي في هذه الدول. بل إن شركات توزيع الافلام الاجنبية عملت في البلاد العربية على محاربة الافلام المصرية الشعبية، ولكن الجمهور اختار الافلام المصرية، وكان ذلك امراً منطقياً بسبب الوحدة الثقافية بين الشعوب العربية. ومع تزايد انتاج الافلام في الدول العربية الاخرى غير مصر في الثلث الاخير من القرن العشرين لم يعد المقصود بعبارة السينما المصرية، وانما السينما في كل البلاد العربية بما في ذلك مصر مع الاحتفاظ بخصوصية كل سينما، اي كوحدة في اطار التنوع، الا ان الخصوصية في سينما الدول العربية ما عدا مصر تأتي من خلال السينمات الذاتية للمخرجين والمخرجات. كانت السينما الشعبية المصرية منذ العشرينات نتاج العصر الليبرالي الذي بدأ بعد ثورة 1919، وهي الثورة الشعبية الوحيدة في تاريخ مصر الحديث، وحصول مصر على الاستقلال السياسي عام 1922، وصدور دستور 1923، واجراء اول وربما آخر انتخابات حزبية حرة في البلاد عام 1924. فالبدء في انتاج الافلام التمثيلية الطويلة عام 1927 لا ينفصل عن صدور كتاب قاسم امين "تحرير المرأة" عام 1899، ووقوف اول امرأة مصرية على المسرح عام 1907، وصدور راوية "زينب" عام 1913 ووقوف اول امرأة مصرية مسلمة على المسرح عام 1915، وانشاء فرقة رمسيس في عام صدور الدستور، كما لا ينفصل عن انشاء اول حزب شيوعي مصري في العام نفسه، وانشاء جماعة الاخوان المسلمين عام 1927، وصدور كتاب علي عبدالرازق "الاسلام واصول الحكم" عام 1925، وكتاب طه حسين "الشعر الجاهلي" عام 1926. ولا تنفصل السينما الشعبية المصرية عن انشاء كلية الفنون الجميلة في القاهرة عام 1908 بناء على فتوى الشيخ محمد عبده عام 1905 بأن التماثيل حرام اذا كنتم تعبدونها، وابداع محمود مختار اول نحات مصري منذ عهد الفراعنة، وموسيقى سيد درويش، واغاني عبدالوهاب وام كلثوم، وشعر احمد شوقي وحافظ ابراهيم، وكتابات طه حسين والعقاد وهيكل والمازني والزيات واحمد امين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، والابحاث العلمية لمشرفة والفلسفية لعبدالرحمن بدوي، والتاريخية لعبدالرحمن الرافعي، ثم انشاء اول بنك مصري وهو بنك مصر الذي اسسه طلعت حرب عام 1921، والذي انشأ شركة مصر للتمثيل والسينما عام 1927، وهي انشأت ستوديو مصر عام 1935، اكبر ستوديو سينمائي عربي حتى الآن. في ظل هذا الزخم الابداعي الهائل، والصراع المفتوح بين الاتجاهات الفكرية وقيادة المثقفين للاحزاب السياسية، ومشاركتهم في الحكم باعتبارهم طليعة الشعب، وهو الامر المنطقي في كل البلاد، ولدت السينما الشعبية المصرية، ولم يكن من الممكن ان توجد في ظل ظروف اخرى، مثل الظروف التي كانت تمر فيها الدول العربية المختلفة في ذلك الوقت. فهذه السينما لم تصبح شعبية لأن عالمها الفني امتداد للتراث الشعبي القصصي فقط، حيث ينتصر الخير في صراعه مع الشر، وينتصر الفقراء في صراعهم مع الاغنياء، وحيث يمتزج المضحك مع المبكي في الدراما، والرقص مع الغناء في الميلودراما، وانما لأنها كانت سينما ليبرالية متحررة من الطائفية والعنصرية وتنتصر للحرية ولحقوق المرأة والطفل والانسان، يعمل فيها المسلم والمسيحي واليهودي، والمصري والالماني والايطالي واليوناني والفرنسي والمجري والايراني والروسي، ويعبرون جميعاً عن ثقافاتهم المتنوعة في اطار هذه السينما. وعلى سبيل المثال فإن اشهر انماط الكوميديا في السينما الشعبية المصرية في الثلاثينات والاربعينات كانت شالوم اليهودي في سلسلة افلام شالوم الرياضي وشالوم الترجمان وغيرهما على غرار سلسلة افلام شارلي شابلن، وعلي الكسار الاسود طيب القلب الذي يعيش على هامش المجتمع، وكان لقب علي الكسار وهو ممثل مسلم "بربري مصر الوحيد" ونجيب الريحاني الموظف البائس الذي يعبر عن الطبقة الوسطى، بل واختار تمثيل دور حسن في فيلم "حسن ومرقس وكوهين" الذي عبر عن تعايش الناس من الاديان الثلاثة في مصر، مثل فيلم "فاطمة وماريكا وراشيل" وغيرهما من الافلام التي عبرت عن ذلك التعايش. السينما الشعبية في كل بلاد العالم التي عرفت السينما تسمى سينما الاستوديوهات وهي مصانع الافلام، ولا تختلف عن غيرها من المصانع في آلية العمل. وقد صنعت السينما الشعبية المصرية في الاستوديوهات ايضا، وكما وجدت في ستوديوهات هوليوود ديكورات جاهزة لكل افلام الكابوي، وجدت في مصر ديكورات جاهزة لكل افلام الحواري. فهناك حارة ستوديو نحاس، وحارة ستوديو مصر، وحارة ستديو الاهرام، وهكذا، وفي نظام تقسيم العمل في كل ستويوهات العالم، فالكاتب يكتب والمخرج يخرج والممثل يمثل والمونتير يقوم بالمونتاج ولا مجال للخلط بين هذا العمل او ذاك. والكل يقوم بعمله وفق قواعد محددة سلفاً، ومتفق عليها بين الجميع، ولا خروج عنها ابداً. لكل فيلم بداية ووسط ونهاية وكل خروج عن الزمن الحاضر لا بد من تبريره بوضوح بالصوت والصورة سواء كان حلماً او استرجاعاً لأحداث وقعت في الماضي. ولا مجال في أي حال لنهاية مفتوحة، او لانتصار الشر، او لإعدام بريء وقد كان اول بريء يعدم في تاريخ السينما المصرية في فيلم يوسف شاهين "صراع في الوادي" عام 1954. ولا بد من الرقص والغناء او احدهما على الاقل، او رقصة واحدة كحد ادنى. فثمة هناك النجوم، ولكل نجمة او نجم نمط محدد لا يتغير الا على سبيل اثبات القاعدة. فهذا وحش الشاشة، وذاك شرير الشاشة وهذه عذراء الشاشة وتلك سيدة الشاشة. وحتى في الادوار الثانوية زينات صدقي هي العانس، وعبدالفتاح القصري ابن البلد، وماري منيب الحماة. وهكذا السينما الشعبية تعاقد بين صناع الافلام والجمهور اذا اخل الصانع بأي بند من بنوده تخلى عنه الجمهور وفسخ العقد على الفور. وعندما قامت ثورة تموز يوليو عام 1952 في مصر لم تكن الثورة في حاجة الى إخضاع السينما للحكم الجديد، صحيح انه تم انشاء شركة النيل للسينما، والتي رأسها قائد الجناح طيار وجيه اباظة، والذي تم اختياره ليكون "مسؤولاً" عن السينما بواسطة الضباط الاحرار، ولكن معظم صناع الافلام عبروا بسرعة عن تأييدهم للثورة سواء عن اقتناع، ام عن طريق تطبيق المثل الشعبي الشائع "اللي يتجوز امي اقوله يا عمي". اصبح "الضابط" هو "البطل" بدلا من المهندس او الطبيب او رجل الاعمال، لم يتغير اي شيء آخر: اصبح فارس الاحلام هو الضابط، والنموذج الواضح على ذلك فيلم انور وجدي "4 بنات وضابط". من داخل السينما المصرية الشعبية خرجت سينما كامل التلمساني، وسينما صلاح ابو سيف، وسينما يوسف شاهين، وغيرهم من المخرجيين، كما حدث في بلاد العالم الاخرى التي عرفت السينما الشعبية. وكانت السينما في مصر سواء الشعبية منها او الذاتية تثبت للمقارنة مع مثيلاتها في العالم حتى نهاية الخمسينات وبداية الستينات. وطوال الفترة من 1946 الى 1956 كانت الافلام المصرية تعرض في مسابقة مهرجان "كان" مثلاً من دون اعتبار ذلك خبراً، وانما كأمر عادي تماماً. ولكن وفي الفترة نفسها التي بدأت فيها تيارات التجديد في السينما الاوروبية والاميركية في الستينات، مثل الموجة الجديدة الفرنسية، والسينما الحرة البريطانية، والسينما السرية في نيويورك، والسينما الجديدة في البرازيل، وفي اليابان، تم تأميم السينما في مصر في اطار ما عرف باسم "القرارات" الاشتراكية، وشهدت السينما المصرية الانتاج الحكومي الموجه الذي ادى الى تخلفها ليس فقط عن تيارات التجديد في السينما العالمية، وإنما عن تيارات التجديد في السينما المصرية ذاتها. وبعد فترة من الركود، ونتيجة هزيمة 1967، بدأت السينما في مصر من جديد، وشهدت للمرة الاولى في تاريخها سينمات ذاتية لا تخرج من داخل السينما الشعبية في افلام شادي عبدالسلام "المومياء" 1969 وسعيد مرزوق "زوجتي والكلب" 1970 ثم ما عرف بعد ذلك باسم الواقعية الجديدة في الثمانينات، والتي صنعها جيل الستينات بعد انتظار طويل داود عبدالسيد وخيري بشارة ومحمد خان وعاطف الطيب ورأفت الميهي ويسري نصرالله وغيرهم وتطورت الواقعية الجديدة الى واقعية بلا ضفاف في افلام مخرجي التسعينات مثل رضوان الكاشف واسامة فوزي وغيرهما من صناع سينما الحاضر والمستقبل في مصر. ومع بداية السينما في مصر من جديد بعد 1967، عرفت السينما في سورية ولبنانوتونس والمغرب والجزائر السينما الذاتية لكل من محمد ملص واسامة محمد وسمير ذكرى وعبداللطيف عبدالحميد في سورية، وبرهان علوية ومارون بغدادي وجوسلين صعب في لبنان، ونوري بوزيد وفريد بوغدير وناصر خمير في تونس، ومؤمن سميحي وسهيل بن بركة وعبدالرحمن تازي في المغرب، ومرزاق علواش وسيد علي مازيف وغوتي بن ددوش في الجزائر، وغيرهم من المخرجين الذين صنعوا السينما العربية المعاصرة الى جانب الكويتي خالد الصديق والبحريني بسام الذوادي، والفلسطينيين في الداخل والخارج مثل ميشيل خليفي ورشيد مشهراوي وايليا سليمان، وليس المقصود من هذا الرصد حصر جميع المخرجين اصحاب السينمات الذاتية في مصر او خارجها، وانما نذكرهم على سبيل المثال حيث لا مجال للحصر في هذا المقال. غير ان الوضع الراهن للسينما في العالم العربي مع نهاية العقد الاخير من القرن العشرين وضع مركب مثل وضع العالم العربي ذاته. فالتمثيل يصبح حراماً مرة اخرى كما كان في بداية القرن، بل وصوت المرأة عورة، و"الموديل" المغطى يمنع في كليات الفنون، فما بالك بالعاري، والدول العربية بما في ذلك مصر لا تعتبر التراث السينمائي من التراث القومي، ولا تعتبر السينما مثل الفنون الاخرى التي تستحق الدعم، ولا يتم تدريسها من ضمن الفنون في المدارس والجامعات. والنقد السينمائي في الصحافة العربية مكانه صفحات المنوعات لا صفحات الاداب او الفنون الثقافة. ونشر المعرفة بالسينما يتم عن طريق برامج رخيصة ومبتذلة في معظم قنوات التلفزيون العربية، ومع ذلك تبقى السينما العربية بفضل فنانيها الكبار الذين لا يملكون اي خيار بين صنع الافلام التي يريدونها او الانتظار.